غير أن البرديسي ومحمد علي إن هزآ بمضمون ذلك الفرمان السخيف، ما لبثا أن وجدا من صروف الأيام سببا لقلق أخطر بكثير من الذي تلافياه بموت علي باشا الجزائرلي.
قلنا إن الجيش الإنجليزي لما انجلى عن الإسكندرية اصطحب معه إلى إنجلترا محمد بك الألفي، زعيم المماليك الثاني، لتتخذ الحكومة الإنجليزية منه آلة لتنفيذ مراميها في القطر المصري في مستقبل الأيام، فرأت هذه الحكومة في أوائل سنة 1804 أن الوقت حان لذلك، فأعادت الألفي إلى القطر، ومعه تحف وأموال كثيرة ليشتري بها الذمم والقلوب.
فما بلغ خبر نزوله مسامع منافسه عثمان بك البرديسي إلا وأظلمت الدنيا في وجهه؛ لأن الألفي كان - لسماحة كفه - محبوبا في الأقاليم. وكان أتباعه ومريدوه من المماليك كثيرين. ولم يكونوا مدة غيابه يطيعون البرديسي إلا بتذمر، وكثيرا ما أطلع الألبانيون هذا الأمير على ما كان أولئك الأتباع والمريدون يراودونهم عليه من قتله، فيذكون بذلك كرهه لمنافسه البعيد. وبلغ البرديسي في الوقت ذاته أن الألفي الصغير - الذي كان الألفي الكبير تركه على رأس حزبه لما غادر الديار - ما سمع بعودة مولاه إلا واستدعى رجاله، وأمرهم بالاستعداد للانضمام إلى سيدهم فزاد اضطرابه، وقصد محمد علي - وكان منذ أن تحالفا معا قد اتخذه ناصحا ومرشدا - واستفتاه فيما يجب عمله، فدامت مداولاتهما يومين كاملين. وكان محمد علي قد نظر إلى الحادث الجديد بعين بصيرة ونظر ثاقب، ووزن بروية حقيقته ونتائجه، فأدرك أن الألفي إنما يعني أصبع الإنجليز، وأن هذه الدولة لم تعده إلى القطر، إلا لأغراض خفية لم يكن يمكن أن تكون سوى إعادة سلطة المماليك ووضع زمامهم في يد الألفي محسوبها، مقابل امتيازات تنالها منه، واتفقت معه عليها نظير مساعدتها له. وأنه إذا انضم الألفي إلى البرديسي، وعملا معا بإخلاص وبمساعدة الإنجليز، فقد خسر هو الصفقة وهلك، أو اضطر إلى مغادرة القطر، فعزم - في الحال - على منع حدوث مثل هذا. وما أتاه البرديسي مسترشدا إلا وأشار عليه بوجوب القضاء على الألفي، قبل أن يتمكن الألفي من القضاء عليه بمساعدة الإنجليز.
فاقتنع البرديسي بذلك - وكان بغضه للألفي يعمي بصيرته عن مصلحته ومصلحة قومه، وتعاهد مع محمد علي على العمل سويا لتنفيذ ما صمما عليه، فانتقل - منذ الليلة التالية - إلى بر الجيزة، وباغت الألفي الصغير المعسكر هناك، فتخلى مدفعيو هذا عنه ولم يبق معه إلا بضعة رجال هرب بهم على أجنحة السرعة، فتحول محمد علي إلى فريق من مماليكه كانوا راقدين في إمبابة وداهمهم في نومهم، وقتلهم عن آخرهم.
وفي أثناء ذلك كان الألفي الكبير يصعد النيل في مركب القنصل البريطاني، الخافقة الراية البريطانية عليها، وتتبعه طائفة من القوارب، تحمل التحف والأموال التي جاء بها من بلاد الإنجليز، فلما بلغ بها منوف رأى مراكب موثوقة بألبانيين تتقدم لمقابلته، فسأل رجاله الجند: «ماذا تطلبون؟» فأجابوا: «نطلب محمد بك الألفي!» فقال رجاله: «ها هو هنا!» ولكن الألبانيين لم يتعرضوا له، بل تحرشوا بالقوارب الحاملة التحف والأموال وشرعوا ينهبونها، فرأى الألفي حينذاك أنه يحسن به النزول إلى البر، فنزل وقصد ناحية كانت قبيلة بدوية ضاربة فيها خيامها، فاستقبلته امرأة منها، وأعطته حصانا ودليلين بهجينين، ابتعد بهما من الغد، وتبعه مماليكه سيرا على الأقدام. وبينما البرديسي يضرب في طول القليوبية وعرضها للظفر به بلغ الألفي الخانقاه، فهاجمه فيها جمع من العرب. وما نجا الألفي منهم إلا بفضل سرعة حصانه، وذهب هائما على وجهه.
فعاد البرديسي إلى القاهرة، وهو طروب بفوزه، ولكن عمله ضد أخيه أساء طائفة من أصدقائه، فابتعدوا عنه، فنظر الرجل حوله، وإذا بأكثر من نصف المماليك الذين كان يعتز بهم قد فارقوه إما للانضمام إلى الألفي وإما لاستنكارهم عمله، فاغتنم الألبانيون الفرصة، وطالبوه بمتأخرات ثمانية شهور من رواتبهم، وضجوا حوله، وهددوه بشر الأعمال إذا هو ماطل في الدفع. وما هي لحظة إلا وحضر محمد علي نفسه على رأس فرقته، ولكنه تظاهر أنه مسوق إلى ذلك سوقا، وأنه إنما حضر للتوفيق بين الفريقين.
فوعد البرديسي بالدفع في الغد، وفرض في الحال مالا جسيما على كل «الشراقوة» والفرنج المقيمين في القاهرة، فاحتج القناصل، ولكن البرديسي لم يبال، وجمع الضريبة عنوة، غير أنها لم تف بطلبات الجند، ففرض البرديسي ضريبة فادحة على أهل العاصمة، فضجوا وثاروا، وقتلوا نفرا من المحصلين، وتجمهروا في الأزهر وحوله، فتداخل محمد علي في الأمر، وذهب بمفرده إلى الثائرين ولاطفهم، ووعد العلماء بأن الضريبة المفروضة لن تجبى، فهدأت الثورة في الحال، وعاد الأقوام إلى منازلهم وهم يدعون له، فبات محمد علي مضطرا إلى منع البرديسي من جباية تلك الضريبة. وكان بعض أمراء المماليك قد أخذوا يسيئون الظن في صداقته لهم، ووجدت أسباب حملت محمد علي على الاعتقاد بأن إبراهيم بك الكبير - على الأخص - أدرك غامض نياته، وأنه أوعز إلى مماليكه بالعمل على الإيقاع به خيانة وغدرا. ورأى المكدوني من جهة أخرى أن البرديسي قد فرغ من لعب الدور الذي خصصه له، فلم ير بدا من نزع اللثام عن وجهه، والبروز في حقيقة مقاصده أمام أنظار أعدائه.
فاستمال إلى نفسه في الأول عثمان بك حسن ومماليكه الناقمين على البرديسي. وفي ظهر اليوم الثاني عشر من شهر مارس سنة 1804 سيرهم للإحاطة بمنزل إبراهيم بك الكبير، ووجه جنودا عديدة للإحاطة بدار البرديسي، وكان يدافع عنها جمع من الترك، استمالهم محمد علي إليه برشوة، فحولوا مدافعهم على من في الدار بدلا من تحويلها على الألبانيين، وشرعوا يدكون جدرانها دكا، فأمر البرديسي رجاله بامتطاء جيادهم، وحمل ما ثمن وخف من أمتعته على ظهور هجن، ثم فتح الأبواب بغتة. وانقض على صفوف الألبانيين المحيطة بداره، ففتح له ولمن معه منفذا فيها، وعدا برجاله وأمتعته نحو البساتين. وإبراهيم بك الكبير من جهته تمكن من الانسلال عند الفجر من منزله إلى ساحة الرميلة، وفر منها إلى الصحراء. ولما علم المدفعيون المقيمون في القلعة أن الأمراء أسيادهم فروا؛ انقضوا على دار السكة، فنهبوها، ثم ولوا - هم أيضا - الأدبار من باب الجبل، فلم يبق في القاهرة من سلطة سوى سلطة محمد علي، ولو كان قليل التبصر كطاهر باشا، لاقتدى به وتسلم زمام الحكم، ولكنه كان داهية من أكبر دواهي الزمان، ولم يكن ليجهل أن الفرص لا تزال غير مناسبة، وأنه يجدر به أن يستمر عاملا على إنضاجها.
ففي نفس اليوم الذي طرد المماليك من القاهرة فيه، صعد إلى القلعة، وأنزل منها خسرو باشا المسجون فيها ليعيده إلى كرسي الولاية. ولكن الزعماء الألبانيين زملاءه - بتحريض من ولدي أخي طاهر باشا - أبوا عليه التعيين، فأنزلوا خسرو عن ذلك الكرسي، وأرسلوه مخفورا إلى رشيد، ومحمد علي لا يمانع؛ لأنه لم يكن ليهمه البتة أن يتولى خسرو، وإنما كان يهمه أن تبقى مقاصده تحت ستار وأن يؤمن الباب العالي بولائه، ويزداد تعلق العلماء به لاعتداله.
فانضم إلى الزعماء في اجتماعهم للتداول فيمن ينتخبونه للولاية، فأجمعت آراؤهم على تعيين خورشد باشا محافظ الإسكندرية المولى عليها من قبل خسرو الوالي المخلوع، وكان خورشد آخر من تبقى في القطر ممن يصح أن تتجه إليهم الأبصار، فإذا جرب ولم يفلح هو أيضا أصبح من السهل حمل القوم على انتخاب محمد علي.
صفحة غير معروفة