حدد الأستاذ ماسينيون المثل الأعلى الإسلامي في أمور الاقتصاد على الوجه الآتي قال: «إن الإسلام له ميزة إقامة مساهمة الأفراد في موارد بيت مال الأمة على قاعدة المساواة وإنه يكره التبادل الطليق من كل قيد، واكتناز المال للأعمال المصرفية البحتة، واقتراض الدولة للمال، وفرض المكوس على السلع اللازمة للحياة، وهو - من الجهة الأخرى - يؤيد حقوق الأب والزوج وحق الملكية وتنمية المال للتجارة، فيقف في الواقع موقفا وسطا بين الرأسمالية والشيوعية.»
ولا ينبغي أن نفهم الجزء الأخير من قول الأستاذ على وجه التحديد الحرفي أو الضيق، فإن مراد الأستاذ أن يقول: إن المثل الأعلى الإسلامي يؤكد الناحية الاجتماعية أو مصلحة الأمة في حكمه على نواحي الجهود الفردية الاقتصادية، ولا يرجع ذلك إلى بقية بقت عن اعتبار المال عرضا زائلا، وأن الباقيات الصالحات خير عند الله وأبقى فحسب بل يرجع أيضا إلى توكيد مصلحة الجماعة، ومن ثم كان استنكار فرض المكوس على لوازم المعيشة، ومن ثم المحاولات العديدة لتحديد السعر العادل والأجر العادل في المعاملات، هذا من ناحية.
وأما من الناحية الأخرى فالموقف الإسلامي يشبه الرأسمالية في طور من أطوارها من حيث عدم قيام الدولة بالمشروعات الاقتصادية وتركها الحرية (المحدودة طبعا بحدود ضرورة المراقبة وحماية المصالح العامة) للجماعات والأفراد، فليس للدولة الإسلامية - كما كانت - خطة تنمية الموارد وزيادة الإنتاج على ما نألفه الآن، إلا من حيث التدخل في أوقات الأزمات أو المجاعات لحفظ الأرواح أو التدخل لصيانة موارد الخزانة بصيانة المنشآت العامة وقطع دابر الفتن والبغي أو ما تقتضيه مصالح التجارة الخارجية من المفاوضات والاتفاقات مع الدول الأجنبية أو ما يلجئ إليه إسراف أصحاب السلطان وجشعهم من اتخاذ الحيل والألاعيب لملء الخزانة (بالمعنى الحرفي) كأنواع المصادرات والتلاعب بالسكة ودخول السوق للمتاجرة، وما إلى هذا كله.
وشئون الزراعة وما يتصل بها لها مقام خاص في الاقتصاد الإسلامي في بعض أقطار الإسلام كمصر والعراق والهند، فالزراعة يتوقف عليها قوت الرعية، والأموال المفروضة على الأرض الزراعية مربوطة عليها عطاءات الأجناد، سواء أكانوا أحرارا كما في صدر الإسلام أم عبيدا أو في حكم العبيد كما هو الحال فيما بعد، فاكتسبت الزراعة وأرض الزراعة وأهل الزراعة؛ وضعا خاصا جامدا في الاقتصاد الإسلامي، أخرج الزراعة وأرض الزراعة من نطاق التجارب والتبادل الحر، وأخرج أهلها من نطاق التمتع بالأهلية الكاملة وأدخلهم في نطاق الأدوات البشرية، قصرت الزراعة بصفة أساسية على إنتاج ما يلزم لغذاء الأهليين وملبسهم وامتنع التفكير فيما عدا ذلك (كالإنتاج الزراعي للتصدير للخارج مثلا) حذر نقصان الضروريات، وامتنع التداول الحر في الأرضين حذر نقصان الغلة وتأثر أرزاق الأجناد بذلك، وخضع الفلاحون لنظام مقيد لحريتهم، معطل لشخصيتهم خضوع الجندي للقانون العسكري، فأمر الفلاح وأمر الجندي سواء في نظر المصلحة العامة.
لهذه الأسباب جمدت الزراعة على الحالة التي اطمأن المجتمع بالخبرة والواقع إلى أنها الحالة الملائمة لظروف التربة والمناخ وما إليهما من عوامل الإنتاج الزراعي، وانعدم التداول الحر في الأرضين ونشأ التزام الأموال المفروضة على الأرض الزراعية، وتولى الملتزمون تنفيذ قانون الفلاحة، والباحثون في تاريخ الاقتصاد الزراعي المصري يغفلون عادة عن الوجه الصحيح لتحديد موضوعهم، فيدور كلامهم عادة على محاولات لا تجدي للبحث عن نظريات للملكية مختلطا بأحكام مستخرجة من التاريخ الأوروبي أو من القانون المدني النابليوني، وهذه الأشياء وأشباهها لا تتصل بالموضوع فهو - كما رأينا - أعم من نظريات الملكية ومن طرق جمع الضرائب ومن تاريخ حاصلات زراعية بعينها، وهو - كما رأينا - نظام خاص لا يستند إلى تشريع إسلامي بعينه، بل تكون وتجمد ليلائم ظروف البيئة الطبيعية والاجتماعية - وهو في الجملة - نظام واجبات «لا نظام حقوق».
تحطيم هذا النظام الذي خلقته أجيال عديدة جدا من الحياة المصرية تم على يد محمد علي، وسهل عليه التحطيم لأن القوة التي وجد من أجلها النظام والتي كانت تقف دائما دون مسه كانت قد تلاشت في وقت محمد علي، ذلك أن الأصل - كما شرحنا - ربط أرزاق الأجناد على الأموال الأميرية المفروضة على الأطيان، ولما ضعف أمر الأجناد في العهد السابق للفتح الفرنسي تطرق الضعف والاختلال للنظام الزراعي كله، فاختل أمر الضرائب، ووضع كل من يستطيع يده على ما يستطيع من الأرضين أو من الحقوق الأميرية، وخرجت مساحات واسعة من نطاق الضرائب لتكون رزقا إحباسية وهكذا. حقيقة بقي من النظام: جمود الزراعة على ما هي عليه، منع التداول الحر في الأرض، وقانون الفلاحين، ولكن كان قد زال عنه حماته الطبيعيون: الأجناد.
وأول ما مسه محمد علي كان في مرحلة الفحص والتحقيق عن الحقوق الأميرية، وبخاصة في شأن الأموال الأميرية، وكشف له التحقيق عن ضرورة وضع حد لتشتيت السلطان، فقرر إلغاء نظام التزام الأموال على الأرض مع بعض التعويض للملتزمين عن خسارة حقوق مكتسبة، وأدى ذلك إلى عودة الأرضين لولي الأمر وإتالة المباشر بالفلاحين، ثبتهم فيما كان في أيديهم وزادهم على توالي الزمن حقوقا في أراضيهم، وإن بقوا طوال مدته على خضوعهم القديم لقانون الفلاحة، وتصرف في مساحات واسعة بالإنعام على رجال أرستقراطيته وأفراد بيته بشروط مختلفة أيضا أهمها شرط الإصلاح والاستغلال.
واستطاع محمد علي بذلك أن يشرف على تنفيذ السياسة الزراعية الجديدة التي رسمها، والتي كانت ترمي إلى عدم الاكتفاء بإنتاج ما يحتاج إليه السوق المحلي فقط، بل ترمي أيضا إلى إنتاج حاصلات للتصدير، وبخاصة القطن المصري الجديد.
أما التداول الحر في الأرضين فلم يتم في عهده؛ لما سنشرحه بعد قليل، ولكن تغيرت طريقة النظر إلى الأرض تغيرا تاما عما كانت عليه الحالة، وكانت الممهدات للنتائج التي ظهرت فيما بعد وأخصها نزول الأرض في سوق البيع والشراء وشتى أنواع المعاملات والاستغلال.
والظاهر من كل هذا أن محمد علي أحدث ثورة أو انقلابا في نظام عتيد، وهذا صحيح لحد ما، ولكنه ليس بالصحيح في أمر أساسي يشترك فيه التنظيم الجديد والنظام القديم؛ فكلاهما يقوم على قاعدة واحدة وإن اختلفت وسائلها لبلوغ الهدف، هذه القاعدة لا تزال في عهد محمد علي كما كانت في النظام القديم: إن شئون الزراعة لها من المقام في الاقتصاد القومي ما يجعلها على حدة، وإن خطورة تلك الشئون لمما يستدعي هيمنة خاصة من جانب الدولة عليها.
صفحة غير معروفة