القائد الأعظم محمد علي جناح

عباس محمود العقاد ت. 1383 هجري
63

القائد الأعظم محمد علي جناح

تصانيف

وكانت علاقاته بمعارفه، وبمن يلقاهم في عمله، علاقة خلت من التكلف، وربما بدا عليها من أجل ذلك مسحة من الخشونة، أو بدا عليها نقيض الخشونة حين يخشى أن يحسبه الناس خشنا في معارضته، فيخفض من جناحه ويلين في حديثه، وقوة معارضته في ذلك الحديث باقية في مدلوله ومرماه.

زواجه

صرفته الحياة العامة عن الزواج حتى بلغ الأربعين، فلما تزوج في تلك السن كانت لزواجه قصة «جناحية» تطابق ديدنه المطرد في حياته العامة، فإن سفير الوحدة قد تزوج من فتاة زردشتية، وأبت الأقدار إلا أن يكون زواجه آية أخرى من آيات هذه السفارة التي صمد عليها ما استطاع.

كان جناح رجلا وسيما وظل شيخا وسيما معتدل القامة إلى أن توفي وهو يجاوز السبعين.

كان علما بارزا في جلسات المؤتمر والعصبة التي انعقدت في سنة 1916، وكان يقود العصبة ويقود المؤتمر ويدير الحوار ويرد على كل سؤال، ويخرج عن كل معركة حامية بالحجة الناصعة والرأي المسموع، وكان السير «دنشا بتيت» أغنى أغنياء الفرس في بومباي يشهد الجلسات ومعه فتاته الذكية الحسناء رتن بتيت، فأعجبها الرجل الوسيم وأعجبها الخطيب المبين، وهامت به وفاتحته بحبها، وسمحت لها تربيتها الأوروبية أن تعرض عليه الزواج وهي دون العشرين.

وفوجئ جناح باقتراحها وراجعها في الأمر، وبصرها بالعواقب التي تترقبها عاجلا وآجلا من جراء هذا الزواج مع اختلاف الدين وتفاوت السن، ومحظورات التقاليد، فزادتها المراجعة إصرارا وقالت له: إنها لا تجهل هذه العواقب وأولها الحرمان من مال أبيها، والحرمان بعد ذلك من الميراث، فلما آمن أن يقال: إنه قبل زواجها لمالها، وأعلمها أنه يتوقع ما توقعته من حرمانها، قابلت هي هذا النبل من الرجل الذي أحبته بإعلان إسلامها، فنشرت الصحف أنباء عقد الزواج وإسلام الفتاة في وقت واحد، وقامت القيامة عليهما وثبت لها الزوجان في غير مبالاة.

ساقهما أهلها المقتدرون إلى القضاء، وودوا لو يدعون قصورها لولا أن سنها بشهادة الميلاد تخولها أن تختار زوجها بإرادتها.

ولما أراد القضاء أن يحرجه لينفض يده من هذا القران المغضوب عليه، واتهمه على ملأ من شهود الجلسة بأنه يجري وراء الفتاة الغنية طمعا في مالها، لم يشأ أن يجيب وترك لها الجواب، فقالت للقاضي مغضبة: إنه لم يجر وراءها ولم يجر وراء مالها، وارتضى أن يبني بها وهو يعلم أنها ستحرم من ثروة أهلها، وهي تعلن في ساحة القضاء وفاقا لما أراد أنها قد استغنت عن معونة أهلها كل الاستغناء.

ومن الأخبار القليلة التي وردت متفرقة في سيرة القائد الأعظم؛ نعلم أن هذه الزوجة النبيلة كانت جديرة بزوجها في أنبل مناقبه؛ وهي الشجاعة والاستقلال بالرأي والكرامة ، فهان عليها أن تنبذ الملايين في سبيل الرجل الذي أحبته، وهان عليها أن تكبت حياءها وهي تبرئه من إغوائها، وتجهر في ملأ من شهود الجلسة أنها هي التي عرضت نفسها عليه.

ومن قصة طريفة تناقلها الهنود يومئذ تتراءى لنا الفتاة الغضة جديرة بزوجها في بديهته الحاضرة، وصراحته النادرة، وصلابته القوية، وجوابه السريع؛ فإنها - مع تربيتها الأوروبية الكاملة - كانت تأخذ نفسها باحترام عادات قومها، وتنكر النزول عن سمت البلاد حين يكون النزول عنها تزلفا لأصحاب السيطرة الأجنبية، ودعيت مع زوجها إلى وليمة في قصر الحاكم العام فحيته حين قدمت إليه بالتحية الهندية، ولم تنحن متراجعة على طريقة الأوروبيين في مقام التعريف لأول مرة، فامتعض الحاكم العام واغتنم فرصة التحدث إليها فقال لها في لهجة السيد الموتور: «إن زوجك يا سيدتي لذو مستقبل عظيم أمامه فلا تفسديه عليه ... والمثل يقول: في روما اصنعي كما يصنع الرومان.» قالت غير متهيبة: «وهذا الذي صنعت ... ففي الهند نقدم التحية كما يقدمها الهنود!»

صفحة غير معروفة