ثم استطرد إلى الوظائف فقال: إن القيادة العليا التي كانت من وظائف المسلمين قد نزعت بطبيعة الحال من جميع الهنود: «أما الوظائف الأخرى فكانت مشغولة هكذا في سنة 1869 ... أربع عشرة وظيفة من وظائف المهندسين بدرجاتها الثلاث يشغلها الهنديون، وليس معهم مسلم واحد، وكان بين المهندسين تحت التمرين أربعة هنديين وإنجليزيان، وليس معهم مسلم واحد، وكان بين وكلاء المهندسين أربعة وعشرون هنديا، ومسلم واحد، وبين المشرفين مسلمان وثلاثة وستون هنديا، ولم يكن في إدارة الحسابات مسلم واحد مع موظفيه الهنديين وعدتهم خمسون، وكذلك لم يكن في ديوان الرؤساء الثانويين مسلم واحد مع اثنين وعشرين من الهنديين.»
وهذه النسبة هي التي أحصاها الدكتور هنتر في البنغال، وهي نسبة نموذجية يقاس عليها في سائر الأقاليم، ومنها ما هو أسوأ حالا بالنسبة للموظفين وأصحاب الأرض المسلمين من ذلك الإقليم.
نظر السيد أحمد خان إلى هذه الحالة، وعرف من حقائقها ما لم يعرفه الدكتور هنتر ولا غيره من الإنجليز؛ لأن صاحب الدار كما يقال أدرى بالذي فيها، فأدرك عاقبة الحكم النيابي الذي تتولاه كثرة الناخبين، وعلم أنه حكم لا نصيب فيه للنواب ولا للموظفين ولا للساسة من المسلمين.
ومما زاد هذا الرأي اختمارا في نفسه قيام الدعوة القومية الهندية على أساس محاربة الإنجليز والمسلمين على السواء، بغير مواربة ولا مجاملة، فقد بدأت هذه الدعوة بعد حركة الفتنة، وظهر أنها تنتشر ولا تنحسر كما كان مرجوا في أول عهدها؛ إذ كان أناس من المتفائلين يحسبون أنها رد فعل للفتنة لا يلبث أن يستقر على قرار ثابت من الهوادة والاعتدال، وقد كان السيد أحمد خان أبعد منهم نظرا، وأعرف منهم بالحقائق فتشاءم من الحركة منذ نشأتها، وحققت الأيام ظنه، فلم يوجد في المؤتمر الوطني على عهد الزعيم طيلاق، أكبر المجاهرين بالعصبية الهندية، أكثر من سبعة عشر عضوا بين سبعمائة وخمسة وستين (سنة 1905).
رجل عمل
وفضل الزعيم الكبير أنه كان رجل عمل، ولم يكن رجل شكوى وانتقاد وكفي، فأول ما عمله لإصلاح هذه الحالة السيئة أنه أسس كلية «عليجرة» على النظام الحديث للتعليم العالي والدراسات الجامعية، وهذه الكلية هي التي أنجبت قادة الأمة الإسلامية في الهند إلا العدد القليل ممن حافظوا على التعلم في المدارس الدينية، ومن مصائب الدنيا أن هذا العمل الجليل الذي عرفت آثاره اليوم كان مثار السخط على الرجل بين الجامدين أنصار القديم، فأشاعوا بين أتباعهم أن السيد أحمد خان صنيعة للإنجليز، وأنه زنديق يريد تكفير شبان المسلمين، ويبيع ضميره في سبيل الوظائف والزلفى عند ولاة الأمور، ولم يغنه مع هؤلاء الجهلاء ما هو معلوم من رفضه كل منحة مالية تبرع بها الإنجليز لمكافأته على أثر الفتنة، وقد كان يرفض تلك المنح مع ضيق الحال به يومئذ حتى هم بالهجرة إلى مصر؛ كما قال في خطاب وصف به عواقب الفتنة وسوء منقلب المسلمين بعدها.
إلا أن قلبه الكبير لم يستسلم قط لليأس في أحرج الأوقات فمضى في تأسيس الكلية، وجعل شعاره في الإصلاح الاجتماعي كلمة واحدة كررها ثلاث مرات وهي: «علم، ثم علم، ثم علم» ودع كل شيء بعد ذلك لما يثمره التعليم.
أما في ميدان السياسة فقد أعلن رأيه منذ سنة 1883 عند الكلام على المجالس المحلية فقال في خطاب صراح: «إن نظام التمثيل بالانتخاب يعني تمثيل مصالح الكثرة وآرائها، وهو خير الأنظمة ولا ريب حيث يكون السكان من جنس واحد وعقيدة واحدة، ولكنه ... في بلاد كالهند حيث فواصل الدين على أشدها، وحيث التعليم لم يجر على سواء بين طوائف السكان، يقترن بأضرار جمة لا تنحصر في الشئون الاقتصادية ... وما دامت فوارق الجنس والعقيدة وحواجز الطبقة تعمل عملها الخطير في حياة الهند الاجتماعية السياسية، وتسيطر على سكانها في المسائل التي ترتبط بالإدارة والثروة ... فليس من المستطاع الاعتماد على النظام الانتخابي بمأمن من العواقب؛ لأن الطائفة الكبرى ستغمر الطائفة الصغرى، ويذهب الجمهور الجاهل مذاهب في اعتبار الحكومة مسئولة عن كل تصرف من شأنه أن يزيد مشكلات الجنس والعقيدة شدة على شدة ...»
عاش السيد أحمد بعد أن أعلن هذا الرأي خمس عشرة سنة، لم يحدث في خلالها ما يحمله على تغيير رأيه أو تعديله، بل كان كل ما حدث في هذه الفترة مضاعفا لمخاوفه مؤيدا لاعتقاده، فراجت في الهند الشمالية دعوة «آريا سماج»، وأعلن الزعيم البرهمي طيلاق دعوة «شيفاجي» التي تنادي بتخليص الهند من الإنجليز والمسلمين الأجانب، وتعتبر المسلمين جميعا «ميلاش»؛ أي دخلاء، وتصايح من هنا وهناك بعض الدعاة بإبطال اللغة الأردية وحذف الكلمات الفارسية والعربية التي دخلت في اللغة الهندية، ومات الزعيم الكبير وهو أشد ما يكون يقينا بأن قضية الهند لا تحل إلا على قاعدة واحدة، وهي اعتبارها قضية قومين أو أمتين.
طريق النصر
صفحة غير معروفة