فقالت له سلمى مترددة: «ذهب إلى الناس ليرى ماذا يصنع بهم ابن أبان.»
فتحرك المهلهل في مكانه قلقا وأراد أن يمد يده إلى سيفه، ولكنه ردها ممتعضا من الألم الذي أحسه عندما حركها، ونظر إلى ابنته وقال لها في غيظ: «لقد تحرك ابن أبان منذ اليوم، أو يحسب أن هذه الجراح تقعدني في كسر بيتي؟ لا وحق مناة، لا أدعه ينفث سمه. ولأسحقن رأسه قبل أن يستطيع أن يبلغ مأربه.»
ثم تحامل حتى قام وقال لسلمى: «ألقي علي ردائي وشملتي، فلأذهبن إليه لأهشم أنفه قبل أن يرفعه.»
فقالت سلمى: «لا يرعك ابن أبان يا أبت، فإن الهجرس هناك يرى ويسمع، ولا أظنه يدع له مجالا لإفساد الناس وتفريق كلمتهم. لقد حدثني الهجرس عن أصحاب له تواعدوا على أهبة ليفسدوا على ابن أبان تدبيره، وقد أخذوا السلاح وجعلوه تحت ثيابهم، فإذا لم يستطيعوا تدارك أمره باللفظ حكموا بينهم وبينه السيف.»
فاطمأن المهلهل لقولها شيئا، ولكنه أطرق قليلا ثم رفع رأسه وقال: «ما ينبغي لي أن أطيل احتجابي عن الناس يا سلمى، قد عرفت الناس، فهم لا يذكرون من تطول غيبته. هاتي شملتي وردائي.»
فلم تستطع سلمى إلا أن تطيع، فذهبت إلى ركن من الخيمة وأخذت تلتمس لأبيها بعض ما اعتاد لبسه في نوادي قومه من ثياب الديباج الأصفر، والقباطي البيضاء وبرود اليمن الموشاة. وحملت من ذلك شيئا في يديها ليختار منه ما يحب، ولكنها سمعت ضجة كانت تقترب عند ذلك، فيها أصوات ترتفع حينا وتخبو حينا، فوقفت في مكانها لتسمع، وأصاخ المهلهل بأذنه في شيء من الدهشة. ثم اقتربت الأصوات واتضحت، فإذا هي صيحات تهتف باسم المهلهل سيد ربيعة، وميزت منها سلمى صوت زوجها الحبيب الهجرس بن كليب. فتبسمت وتبسم المهلهل، وقد وقع في قلبيهما أن الهجرس قد حمل معه تغلب وأفسد وحده تدبير ابن أبان. وألبست سلمى أباها ووضعت ثوبا من الديباج على كتفه، فلما صار الهجرس وأصحابه في رحبة الحي خرج عليهم المهلهل هشا بشا، فما كاد جمع الشباب يراه حتى علت أصواته في تحية صاخبة ترددت أصداؤها بين ثنايا الشعاب. فتبسم المهلهل وركز رمحه في الرمل واتكأ عليه بيسراه، وقال بعد أن هدأت الأصوات: مرحى يا شباب تغلب! لقد أقررتم عيني وأزلتم ألمي. إن جراح الحرب التي مزقت جسمي تنطق مرحبة بكم، كأن في كل منها لسانا يتحرك بشكركم. لقد ثارت تغلب منذ سنين طويلة تطالب بدم بطلها الذي لم يكن في العرب له كفء، وأميرها الذي عجز النساء أن يلدن مثله وإن تطاول الدهر. ولم يكن في تلك الدماء التي أريقت من العدو ما يقوم بدمه أو يفي لنا بحقه. بل لقد قتل من أبطالنا في مواقعهم من لا تشفينا دماء بكر جميعا من وترنا بهم. فليس بيننا وبين القوم إلا حد السيف وأسنة الرماح، لا نوادعهم ولا نخيم عن لقائهم حتى نفنيهم تقتيلا ونقطع أوصالهم تقطيعا. وا كليباه! هل نرجع السيوف إلى أغمادها ولا يزال في بكر شريف؟ وا تغلباه! هل ندع دماء من قتل من تغلب ولا يزال لعدوكم جمع؟ ليس بيننا وبينهم إلا طعن الكلى وضرب الرقاب، وتفليق الهام وتخريق الصدور. وإذا كان في تغلب من زعزعته أول الصدمات فبعدا للجبناء! ألا بعدا للجبناء!
فتلقف الجمع هذه الكلمة وصاح في حماسة: «ألا بعدا للجبناء!» وجعلوا يرددونها.
وسكت المهلهل عند ذلك فإن الضجة التي علت من صيحات الجمع المضطرب أغرقت آخر كلماته فلم يستطع المضي في الحديث، وعاد السيل الثائر من ساحة المهلهل، وتفرق بين الأحياء مناديا للحرب، فلم يبق في منازل تغلب من تجرأ على أن ينطق بحرف في ذكر امرئ القيس بن أبان.
ودخل الهجرس إلى خيمة عمه فحدثه بما كان من قول ابن أبان وما كان من رده عليه، ثم قال: ولا أحسب الأمر ينتهى يا عماه إلى حيث انتهى إليه لو طال بنا المقام.
فقال المهلهل وقد عبس عبسة عميقة: أجل يا ولدي! لن أطمئن وهذا الأرقم يتحين الفرص للوثوب، ولكن هون عليك فما كان عمك ليخاف هذه الزواحف.
صفحة غير معروفة