وكان كلما سمع ضجة الشبان وسبابهم وثورة مجادلتهم تحرك في موضعه متألما، يحاذر أن ينطق بحرف خوف أن تنفجر حفيظتهم فيجرفهم المهلهل معه إلى الحرب في رعونة، وهم لا يدركون ما يدركه ولا يعرفون ما يعرفه. لقد عركته الحوادث في حياته وحلب الدهر أشطره، وجرب من الأمور ما لم يجرب هؤلاء الأغرار - ذلك المهلهل الماجن وشبانه الذين معه - هؤلاء الألى يتحرقون إلى خوض الحرب قبل استعار لهيبها، حتى إذا ما أوقدوا نيرانها كانوا أسرع الناس إلى الجزع منها.
ولكنه لم يقدر على أن يبقى على صمته طويلا؛ فإن الجدال بين الشبان والشيوخ قد حمي وأوشك أن يصير إلى نضال وعراك. ولم يطق المهلهل البقاء في النادي، فخرج إلى الفضاء ينتظر عودة الرسل في قلق، وتبعه بعض أصحابه من شباب القوم وهم يسخطون ويسخرون. ثم نهض شاب يريد أن يتبع المهلهل فقال في تهكم: ماذا تنظرون هنا أيها القوم؟ إن الوفد الذي بعثناه لكي يركع عند قدمي بكر سائلا أن يمنوا علينا بالصلح لم يعد إلينا منذ ثلاث، فلنذهب إلى بيوتنا، فما نحن بأهل للحروب؟
فتحرك أبو نويرة قلقا، وحاول أن يمسك عن الجواب، ولكن قام بعده شبان يريدون الخروج وراء المهلهل، وأوشك الجمع أن ينفض من حول أبي نويرة.
فأشار إليهم بيده أن يتريثوا، ثم قام يتكلم فقال: لقد علمتم يا معشر تغلب أنني أبو نويرة، أول فرسانكم عند اللقاء، وآخرهم عند اقتسام الفيء. وعلمتم أنني كنت عند كليب بن ربيعة في أكرم مكان، فما أصيب فيه بعد المهلهل وقومه أحد مثل مصابي. ولو كان أحد من تغلب يتحرق قلبه على طلب الثأر، لكنت أنا ذلك الرجل قبل سواي، ولكن الحرب تحطم وتفتك؛ فإذا هي كشرت عن أنيابها وشمرت عن ساقها جمحت فلن يملك أحد أن يكبحها. ولن يستطيعها إلا من عركها وصبر على حد نابها. وإني أشفق عليكم منها إذا أنتم سارعتم إليها وراء هذا الفتى الذي عرفتم أمره؛ فهو لن يلبث أن يحن إلى مجونه ويذوب شوقا إلى خمره ونسائه. والحرب لا يقوى عليها مثل ذلك السادر في لهوه، الذي لا يكاد يفيق من شرابه.
فتعالت من جوانب الوادي همهمة وتجاوبت الأصوات فيها بالجدال العنيف والسباب، وهم بعض الناس إلى بعض بالسيوف.
فصاح أبو نويرة غاضبا: على رسلكم أيها الفتيان! فما هذه إلا طلائع الخذلان.
فقام شاب من أقصى النادي يهز رمحه في يده وصاح: لقد حملتنا على الدنية، ورضيت لقومك الذلة. هذه بكر ترفع ذيلها وتتمنع. وهل كان جديرا بنا أن نأخذهم بغير السيف؟ ما هذه الثرثرة التي لا تزيدنا إلا ذلا. أما إننا سنصير في العرب مثلة أو أحدوثة؛ إذ وترنا قوم في عزيزنا فبعثنا وراءهم نسألهم أن يمنوا بالسلام علينا. أي عار جلبتم على قومكم يا شيوخ تغلب!
وعلا الضجيج مرة أخرى، وتزايدت ألفاظ السباب.
فقام أبو نويرة وأشار بيده حتى سكت الناس، فقال في صوت هادئ تشبه نغمته أن تكون اعتذارا: لقد كان حقا علينا أن نعذر إلى بني عمنا قبل أن نبدأ حربهم. ولقد عرفتم أن العرب لا ينصرون الظالم، ولا يؤازرون من اعتدى. لقد قتل جساس كليبا، وذهب إلى الناس يزعم أنه ما ثار عليه إلا لطغيانه وما قتله إلا لظلمه . وذهب الناس عنه بين مصدق ومكذب. فإذا نحن عجلنا إلى الحرب بادئ البدء لم نذهب إلا بكلمة مصدوعة ورأي متفرق. فإذا كنا قد آثرنا أن نرسل إليهم رسلنا، فما هذا إلا لكي نعذر إليهم، فنكون بهذا قد قمنا بما يجب علينا من رعاية الحرمة، وحفظ الحق الذي يوجبه الرحم بيننا وبين بني عمنا. فإذا هم أبوا أن ينزلوا على حكم الحق ويرضونا بالقصاص من الكفء؛ إذا هم أبوا أن يسلموا إلينا جساسا نقتله في ثأرنا، سرنا إليهم وكنا عند ذلك يدا واحدة، وسنرى قبائل العرب عند ذلك من ورائنا تشد أزرنا، وتقوي عضدنا. ولعل قبائل بكر لا تجمع على الظلم، فيقعد بعضها عن حربنا، فإذا لاقتنا شيبان وحدها بعد هذا، كان الحق يخذلها، ولم تجد من ورائها من العرب من ينصرها.
ولما انتهى من مقاله ارتفعت الأنظار إليه شاخصة لا تطرف، كأنها تحملق فيما وراء الأفق البعيد تستشف ما وراءه. وبقي أبو نويرة صامتا يدير بصره في القوم لحظة، ثم هم أن يعود إلى القول ليتم ما بدأه من الأثر، فإذا صوت يعلو من ناقة تحن وترغو في أنين متقطع عميق، تحمله الريح في الليل الساكن من بعيد؛ فسكت أبو نويرة وأصغى إلى الصوت، وسكن الجمع في مجالسه ينصت، فقد عرفوا أن تلك ناقة الحارث بن حي أحد الرسل الموفدين إلى بكر، وكانت الناقة والدة في الحي تركت فصيلها، فما كادت تعود وتقترب من موضعه وتشم رائحته حتى ضجت له بالحنين.
صفحة غير معروفة