وسار كليب حتى بلغ مرعى خيله، وكانت في واد مجاور، والعبيد مشتتون في أنحائه بعضهم يتعهد الأمهار، وبعضهم يعلم ما شب منها ويروضها، فنادى كليب أحدهم وأمره أن يأتي له بالرباب، وكانت أحب خيله إليه، فأسرع العبد إليها حتى قادها إليه، فأقبلت الفرس تسير إلى سيدها كأنها صديق يسعى إلى صديقه. حتى إذا قربت منه جعلت تحرك رأسها وهي تصهل كأنها تبدي سرورها بلقائه، ورفعت ذيلها، وضربت الأرض بحوافرها، فمسح كليب رأسها وعنقها وهو يبتسم لها، ثم وثب على ظهرها وركبها عريا، وقد أخذ كنانة سهامه في كتفه اليسرى وجعل القوس في كتفه اليمنى. ولما استقر في ركوبه مسح رقبة الفرس، وهمزها قائلا: «هيا يا رباب.»
وكأن الفرس قد فهمت خطابه، فانطلقت تعدو مثل وعل بري، وغابت براكبها وراء ثنية الوادي، وانطلق الكلب يجري في أثرها يقفز فوق الحجارة، ويحاول أن يلحق بها لاهثا.
وقضى كليب ذلك اليوم في الصيد حتى مالت الشمس نحو الغرب، ثم عاد وقد حمل زوجا من وعول عصماء تكاد الرباب تنوء تحتهما، وقد تدلى أحدهما عن يمين وآخر عن يسار، فلما بلغ مرعى خيوله في الوادي المجاور لمنازله أسرع إليه العبيد، فوثب عن فرسه وقال ينادي الغصين: أين المهلهل اليوم؟
فتردد العبد حينا ثم قال: لا أظنه اليوم في منازله.
فقال كليب: احمل إليه وعلا من هذين أينما كان يا غصين.
ثم سار نحو الروضة وقال وهو لا يلتفت: امسحوا الرباب ثم قربوها مني عند الروضة.
ومضى نحو روضته والعبيد يسارعون إلى الفرس ليزيلوا ما علق بها من أثر الدماء، وسار الكلب كعادته يتمسح في أذيال سيده ويشم آثاره، حتى بلغ كليب الروضة فسار بين شجرها الملتف، وأقعى الكلب عند المدخل ينظر فيما حوله وهو يلهث.
وقضى كليب هناك ساعة يسير بين الخمائل ويتأمل زهرها وأغصانها، حتى بلغ خميلة القنبرة، فوقف عندها هنيهة وسرت فيه هزة من الغضب، ولكنه مضى سريعا إلى خميلة أخرى حتى لا تلح عليه الذكرى.
ولم يلبث أن عاد إليه الهدوء وهو يسير فوق رمال ناعمة، جعد سطحها مر الريح، فبدا مثل الغدير قد انداحت عليه خطوط متراقصة من لمس النسيم، واطمأن إلى أن حماه ما زال عزيزا لم تستبحه اليوم قدم جريئة. فلما بلغ آخر الروضة واطمأن إلى سلامتها وأن امرأ لم يطأ بقدم عليها، عاد أدراجه خفيفا حتى صار عند مدخلها فرأى عبده وفرسه، فوثب على الرباب واتجه إلى منازله.
ولما خرج من الروضة رأى عن بعد شخصا يسير مسرعا وهو يخبط الأرض بزج رمحه، فتأمله فإذا هو جساس، وكان متجها نحو مراعي إبله في الوادي المجاور، فاعترته لمرآه قبضة لم يتمالك منها نفسه، ولكنه أخذ يصرف نفسه عنها، واستعاد صورة جليلة لعلها تسل من صدره تلك الموجدة التي كان يجاهد نفسه في مغالبتها. وفيما هو في ذلك سمع كلبه ينبح نباحا شديدا، فالتفت نحوه فإذا هو يعدو مسرعا نحو جساس في غضب يريد أن يهجم عليه فيعقره، فهمز فرسه لكي يدرك الكلب الغاضب وصاح به ليثنيه، ولكن الكلب اندفع في شراسة حتى وثب على جساس، فما أدركه حتى مزق ثوبه وأوشك أن ينهش لحمه، فوقف جساس والرمح في يده يسدده إلى الكلب، ولكنه عدل عن ذلك فجأة، واتجه نحو كليب وشخص إليه ببصره حينا لا يطرف ولا يتحرك، وخشع الكلب عندما أبصر سيده قريبا منه وسمع زجره. وكاد كليب ينطق بكلمة يعتذر بها إلى صهره الحانق، ولكن الكلمة وقفت على لسانه إذ سمع جساسا يقول له بصوت أجش: «هلم إذا شئت فأنت أولى بهذا!» ورفع رمحه كأنه يريد نزالا.
صفحة غير معروفة