الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
المهلهل سيد ربيعة
المهلهل سيد ربيعة
تأليف
محمد فريد أبو حديد
الفصل الأول
كان اليوم الأول من تلك الأيام المطيرة القليلة التي يجود بها شتاء الصحراء. وقد أسفر وجه السماء بعد أن جلل المطر أعواد الخزامى والشيح، وصفا الجو ورق النسيم البارد، وسطعت أشعة الشمس رفيقة دفيئة تغمر الرمال الصفراء الندية، وتلمع تحتها الجداول الدقيقة المتعرجة.
وكان وائل التغلبي - وائل بن ربيعة، فارس تغلب وسيدها - يسير في جانب الوادي المعشب الذي ضربت فيه خيامه، ويجول ببصره في التلال الجرداء المحيطة به، ليس عليها إلا أعواد من طرفاء الكالحة، وأشواك العوسج تبسم فيها الزهرات الزرقاء، متوارية كأنها تخجل من ثوبها المقدد، وكان في سيره يتجه إلى جدول يترقرق ماؤه من تلعة شجراء عالية، وينساب متلألئا إلى بطن الوادي حتى يغيب في روضة ملتفة الشجر، يتماوج حولها العشب الأخضر البارض مع ريح الشمال، وتتراقص أعوادها في رفق، وتتلامس كلما هبت عليها نفحة من النسيم الفاتر.
وتبسم البدوي للمنظر الفاتن ولكن ابتسامته كانت خافتة لم تنفرج لها العبسة العميقة التي كانت تعقد جبينه الواسع، وتنفس نفسا عميقا ملأ به صدره من الهواء الصافي، ومضى في سبيله نحو الروضة بخطي قصيرة ثابتة؛ سار كأن في قلبه ثقلا ينوء به، وكأن في صدره اضطرابا يصرفه عن أن يهتز لجمال ذلك اليوم البديع.
وسار في أثره عبد أسود يترقب حركته في خشوع، وينظر إليه بطرف عينيه في حذر، يتلفت نحوه كلما بدرت منه لفتة، كأنه يخشى أن تفوته إشارة من مولاه، أو تشرد عن سمعه همسة من همساته، وسار من ورائه كلب يتمسح بأذياله، وقد وضع ذيله بين فخذيه، يطرق برأسه يشم الأرض حينا، ثم يرفع عينيه نحو سيده مترددا ويعود إلى إطراقه يشم الأرض في مواطئ قدميه.
ولما اقترب السيد من الروضة وقف هنيهة، ثم نادى ولم ينظر إلى ورائه: «يا غصين!» فأسرع إليه العبد حتى وقف على خطوة منه وقال: «لبيك!»
فقال وائل: «جهز لي طعاما وشرابا، واتبعني إلى هناك!» وأشار بيده نحو قلب الروضة، ثم سار بغير أن ينظر نحو العبد، فحنى هذا رأسه وسار مسرعا نحو البيوت المنتشرة في أعلى الوادي، حول القبة الحمراء العالية المشرفة على الحي.
كان وائل يبدو لمن نظر إليه شابا يتألق على وجهه الأسمر رونق الشباب، وهو يسير مرفوع الرأس كأن قوامه النحيف عود رمح سمهري، وينظر بعينين لامعتين تبصان ببريق فيه قسوة، وقد انعقد ما بينهما في عبسة، كأن جبينه الواسع لم ينفرج يوما عن بسمة، وكان أنفه الدقيق الأقنى ينتهي إلى فم رقيق الشفتين، وشارب أسود الشعر مفتول الطرفين، تشذ منه شعيرات قائمة في وسطه قد تمازجت فيها خيوط بيضاء وأخرى سوداء، وكانت لحيته الخفيفة تدور حول وجهه، لا ترى العين أثرا من الشيب في شعرها الأسود الجعد.
وكانت عمامته البيضاء تنتهي من وراء بطرف مسبل يبلغ مجمع كتفيه، وتبرز من تحتها ذؤابتان من شعره الأسود تلمعان به بما عليهما من دهن وعطر.
وسار وائل بخطاه البطيئة نحو الروضة الخضراء، والكلب يسير من خلفه يتمسح في أذياله.
ولما بلغ السيد مدخل الروضة وقف هنيهة ينظر فيما حوله يفحص عما في الرمال من آثار، ثم أشار إلى الكلب بطرف سيفه المتدلي من حمائله وصاح به: «ههنا يا عساف؟» ففهم الكلب الإشارة وأقعى حيث أشار إليه سيده، وعوى عواء خفيفا.
ودخل الرجل الروضة، فجعل يمشي في مساربها ينظر ما بها من آثار، ويميل إلى كل زهرة يراها فيتأملها مليا، ثم يمضي عنها متباطئا، ويمد يده إلى الأغصان المتدلية عابثا بأوراقها حينا، ونازعا بعض أوراقها حينا. ثم أوغل في الروضة حتى بلغ مكانا قد ظللته أشجار ملتفة، فحمته من بلل المطر، وسقطت عليه الأوراق فكسته فراشا وثيرا. فمهد الورق بقوسه، ثم ألقى القوس إلى جانب، وألقى كنانته إلى جانب، ونشر شملة كانت عليه فجعلها فوق الأوراق الجافة، ومال فاضطجع عليها فوق ظهره، متكئا برأسه فوق كفه، وجعل يتأمل السماء من خلال الغصون المتدلية، ويتلقى شعاع الشمس المائل داخلا إليه من بين الجذوع والفروع.
اعتاد وائل كلما نزل القطر وغسل الغبار عن الأغصان وسالت به جداول الوادي أن يذهب إلى تلك الروضة ليتمتع بيوم في ظلالها. وكانت بهجة الحياة تتحرك فيه عند ذلك فيلتمس نداماه ويقضي معهم يومه يطاردون متع اللهو، ثم يعود بعد يومه، طروبا ممتلئ القلب بالبشر. ولكنه لما خرج في ذلك اليوم كان على غير عهده بنفسه. خرج إلى روضته وحيدا يحس في قلبه حزنا كامنا لا يتبين مبعثه، وخيل إليه أن العالم يفيض حوله بنبضات حزينة تطن في أذنيه، وأن السماء الصافية تخفي وراء أنوارها الشفافة أسرارا غامضة، وأن الصحراء التي تمتد تحت ناظريه إلى الأفق المستدير، ليست كما عهدها فضاء فسيحا يسرح فيه بصره مطمئنا، بل كانت تزدحم وتضطرب حتى تكاد لا تدع له فيها خلوة، وأن النسيم البليل الذي يملأ صدره منه يزيد نفسه القلقة ضراما واختلاجا.
خرج في ذلك اليوم وحده إلى روضته التي طالما شهدت مجالس أنسه وطربه، وكان يطمع لو استطاع أن يجد في جمالها الساذج ذلك السلام الذي عجز أن يجده في نوادي قومه أو في فناء منزله الفسيح، أو في الوادي الأعشب الذي ترعى به إبله. ولكنه عندما اضطجع في ظلال الروضة وجدها أعلى ضجة من المجامع المزدحمة المضطربة.
لقد كانت نوادي قومه منذ حين تضيق بنفسه وتملؤها ضجرا، وكان فناء منزله يبعث في قلبه وحشة وكآبة؛ ولكن تلك الروضة نفسها قد خيبت أمنيته فلم يجد فيها إلا وحشة وكآبة.
وتواردت عليه وهو مضطجع تحت ظلال الغصون المتدلية صور من حياته مرت في خياله سراعا، فتذكر حروبه ومواقعه عند أراط والكلاب، ثم موقعته الكبرى عند جبل خزازى، حيث تهاوى بفرسانه ليلا نحو النيران الموقدة على رءوس الجبال، وأحاطوا بأهل اليمن فحطموهم حتى لم تقم لهم بعد قائمة، فانتصف منهم لقومه ربيعة، وألقوا نير اليمن عن رقابهم وتبوءوا مقاعد السيادة في هضاب نجد. إنه هو الذي اجتمعت حوله الكلمة، فقاد عرب الشمال جميعا من ربيعة ومضر حتى انتهى بهم إلى النصر البارع، وطرد السادة من ملوك اليمن من تلك الربوع التي رتعوا بها من قبله أجيالا. ولكن قبائل ربيعة قد تغيرت عليه وجحدت فضله ونسيت بطولته، فأصبحت تتحدث في نواديها عن كبريائه وظلمه، وصار الشبان منهم يتحدونه وينكرون عليه ما سمحت به نفوس آبائهم طائعة عقب ذلك الانتصار. أينكر قومه سابق فضله وينازعونه في الحق الذي بايعوه من قبل عليه؟ أيحسبون السيف الذي قضى به على قبائل اليمن قد صدئ في غمده من طول ما مر عليه من السلام؟ أم هو العقوق الذي يدفعهم إلى هذه الهمسات الحانقة التي تبلغ أذنيه مهما بالغ الهامسون أن تكون فيما بينهم سرا؟ أم هو الحقد الذي يملأ صدور منافسيه، ويحملهم على تناسي فضله والتجهم له؟
وتنبه وائل من خواطره على صوت رفرفة بين الأغصان التي فوقه، فحرك رأسه فاترا وأحس بشيء من الارتياح إلى أن يخلص ولو حينا من شجونه المضطربة، فرأى بين الأوراق قبرة تنتقل بين الفروع في حذر كأنها تريد أن تهبط، وكان يلوح عليها أنها تخشى ذلك الدخيل المضطجع تحتها. فجعل يتأملها حينا ثم رأى اضطرابها فرق لها وقام من مكانه متسللا يحاذر أن يعنف في حركته حتى لا يفزعها، ونظر نحوها يرقب حركتها، فرآها تنظر إليه في ذعر واضطراب تهم أن تطير هاربة، فتقفز عن غصنها، ثم تتردد فتنزل على غصن آخر وتصرصر وتنقنق في خشوع كأنها تتوسل وتبدي الحنين.
وفيما هو في ذلك سمع صوت رفرفة ضعيفة عند قدميه.
وتلفت حوله إلى أطراف الأغصان المتدلية، فرأى عش القبرة وفيه فرخان صغيران لا يغطي جسميهما إلا الزغب الأخضر ، وهما يتطلعان نحو أمهما ويحركان جناحيهما العاريين في لهفة إلى ظل جناحيها. فأسرع في خفة فرفع قوسه وكنانة سهامه، ثم وضع شملته على كتفه وتراجع في هدوء حتى خرج من ظل الخميلة. وهبطت القبرة تهوى مندفعة نحو فرخيها وتدرج إليهما في العش ترفرف عليهما بجناحيها وهي لا تزال تنظر في قلق إلى الخيال القائم من وراء الأغصان. فتبسم وائل ابتسامة حزينة، ثم سار إلى خميلة أخرى من الروضة يلتمس في ظلها مضجعا. وقال وهو سائر كأنه يحدث نفسه: «لقد تحرمت المسكينة في حماي.»
ولكنه ما كاد ينطق بهذه الكلمات حتى عاودته خواطره الأولى وكانت أشد حنقا؛ إذ تذكر ما يتحدث به قومه وما بلغوا من الجرأة عليه؛ فقد أطلقوا ألسنتهم فيه بما لم يكونوا من قبل يجرءون عليه. إنهم صاروا يتحدثون عنه أنه يحمي الوحش والطير مبالغة منه في الكبر والعتو، ويتحدثون عن مراعيه التي لا يستطيعون أن يلتمسوا فيها صيدا من ظبي أو أرنب أو ضب؛ لأنه قد حمى تلك المراعي وسدها في وجوههم. ويتحدثون عن الماء الذي لا يستطيعون أن يردوه إلا بعد أن تصدر عنه إبله، وعن كلأ الأرض الذي لا يقدرون على أن يطلقوا فيه إبلهم؛ لأنه قد حمى ذلك كله وحازه لنفسه لا يبيح لأحد فيه شيئا إلا بإذنه. لقد تحدث قومه بهذا كله، ووصفوه بالطغيان والكبر والبطر وكأنهم تناسوا أن ذلك كان من حقه عليهم؛ إذ قد ارتضوه وتطوعوا به له إقرارا بفضله عليهم واعترافا له بسلطانه فيهم.
وفيما كان يناجي نفسه بهذه الخواطر سمع كلبه ينبح، فوقف ينظر نحو مدخل الروضة ليرى من يكون ذلك الجريء الذي اقترب من حماه، وقال في نفسه: لعل هذه آية جديدة تطلعه على ما داخل قومه منذ حين من الجرأة عليه. لقد طالما جاء إلى هذه الروضة وأمر كلبه أن يقعي عند مدخلها، فما كان أحد يجرؤ على أن يقترب منها، فكان ذلك الكلب إذا جلس عند أسفل التلعة نظر إليه الناس من بعيد وتيامنوا عنه أو تياسروا حتى لا يستبيحوا حمى سيد ربيعة المخيف وائل بن ربيعة. بل لقد كانوا يجعلون اسم ذلك الكليب علما يذكرونه فيما بينهم إذا أرادوا التحدث عن بطلهم الباسل الذي ملأت هيبته القلوب، حتى لا يمر اسمه على ألسنتهم إكبارا له وتقديسا.
أوقد تجرأت ربيعة حتى لم يبق في نفوسها رهبة من الكليب؟
واتجه نحو مدخل الروضة هابطا على جانب الربوة مسرعا والغضب يملأ قلبه، لا ترى عيناه إلا حمرة الدماء، وقد عزم على أنه لن يصبر بعد ذلك، بل ليجعلن سطوته طاحنة حتى يصرف قومه عن تلك الهمسات التي يهمس بها الحاسدون فيما بينهم إذا خلا بعضهم إلى بعض. لقد جاءت إليه الأنباء يسعى بها صحبه الأوفياء وآله الأقربون؛ فهو لا يجهل ما تغلي به الصدور عليه، وإن كانت الخشية من بطشه لا تزال تخفي النيران تحت ستار واه من الرياء والبسمات الزائفة. وكان قلبه وهو يسير نحو مدخل الروضة يغلي حنقا ويحدثه صائحا أنه لا بد له أن يفتك وأن يسطو، حتى يعلم هؤلاء أنه ما زال السيد الذي طالما انعقدت ألسنتهم عن ذكر اسمه، وأنه ما زال البطل الذي لا يجرؤ أحد على أن يملأ منه عينيه.
ولما بلغ مدخل الروضة تلفت حوله فلم يجد أحدا. وأقبل الكلب نحوه يعوي متألما وهو يتلوى، حتى اقترب منه وجعل يتمسح به ويبصبص بذنبه، ثم ذهب عنه ينبح في حنق متجها إلى جانب الربوة. فسار وائل في أثره حتى بلغ قمة الربوة فأشرف على الوادي المجاور، فإذا هو يسيل بأعناق الإبل الحمراء ومن ورائها فارس يعرفه، هو جساس بن عمه مرة، جساس أخو امرأته جليلة بنت مرة سيد بني بكر. هو أخو تلك الزوجة الحبيبة التي اصطفاها ونعم بالحياة في بيتها الهادئ. وكان جساس يسير وراء إبله مثل الرمح الرديني بأنف أشم، تدل هيئته على أنه لا يرى في قبائل ربيعة من يليق أن يكون عليه سيدا.
وتمنى وائل لو لم يكن جساس أخا لزوجته، أو لم يكن ابن عمه الشيخ مرة بن ذهل بن شيبان؛ فإنه لو لم يكن في حمى تلك القرابة لعرف كيف يكسر ذلك الأنف الأشم، وكيف يحني تلك الهامة المرفوعة، وكيف يجعله يغضي تلك العين الجريئة التي يحملق بها في وجهه إذا كلمه؛ فهو لا يقدر على أن يمنعه من الرعي في مراعيه، ولا يقدر على أن يجعل إبله تنتظر حتى تصدر إبله هو عن الماء لأنه ابن الشيخ مرة وأخو زوجته الحبيبة جليلة.
واشتعل قلب وائل غيظا إذ رأى ذلك الفتى يسوق إبله في مراعيه التي حماها، ثم يجتاز بالروضة التي لم يجرؤ أحد من قبل أن يمر بها، ويبطش بالكلب الذي كانت ربيعة كلها تتحامى الاقتراب من موضعه.
وكان جساس لا يخفي جرأته وتحديه؛ فقد طالما جهر في نوادي بكر بكراهية كليب، وطالما جرأ الشبان من قومه على أن يتكلموا فيه ويسخروا منه في غيبته. كان جساس يحرض عليه ويثير النفوس، ويوشك أن يوقد بين الناس فتنة عمياء. بل لعله هو الذي فتح عقول القوم إلى التذمر مما كانوا من قبل لا يرونه إلا حقا وعدلا، ووقف وائل ينظر إلى ذلك الشاب المتحدي وثارت في قلبه الحفيظة، وعزم على أن يتنبه وأن يضرب وإلا كانت عاقبة أمره وبالا.
ونزل عن الربوة ولم يعد إلى روضته التي كان قد أزمع أن يقضي فيها اليوم وحده يلتمس نزهة تهدئ من قلبه الثائر، بل عاد إلى بيته يسرع الخطى وقلبه يفور، وأنفاسه تضطرب، وقد تمثلت أمام عينيه مناظر الصراع المقبل الذي يوشك أن يقع بينه وبين ذلك الفارس الجريء.
ولما بلغ مضرب خيامه المشرفة على الوادي لم يلتفت إلى من كانوا في فنائه الفسيح من عبيد وأتباع، بل سار مسرعا والكلب يجري وراءه لاهثا.
ولما بلغ خيمته دخل إليها، ثم نادى في شيء من العنف: «جليلة»، فنهضت امرأته مسرعة وأقبلت نحوه تبتسم، ولكن نظراتها إليه كانت تنم عن دهشة؛ فقد كانت تعد له زق الخمر، وتهيئ له شواء من الكبد والسنام لكي ترسله إليه مع العبد «الغصين » في الروضة كما أمره منذ حين قصير. وأحس قلبها أن في رجوعه إليها بعد ذلك الحين القصير دليلا على أمر خطير أزعجه لم يكن في حسبانه. ونظرت إلى وجهه فأدركت أنه قد عاد إليها غاضبا ثائرا، فقد كانت عيناه محمرتين تقدحان شررا، وخيل إليها أن الشعرات القائمة في وسط شاربه تهتز في قلق. وأرادت أن تزيل ما عنده من الشجن الثائر حتى لا تبدر منه بادرة قاسية؛ فإنه كان إذا ثار لم يملك بوادره الدموية. كان لا يعبأ أن يبقر بطن فرس عزيز، أو يطيح بسيفه رأس بعض عبيده المساكين الأبرياء. حتى إذا ما سكن غضبه وعاد إلى نفسه استولى عليه الحزن وكاد يبخع نفسه أسفا. ولم يكن أكبر ما يحملها على أن تذهب ما في نفسه أنها كانت تحرص على فرس أو تشفق على عبد مسكين، بل كان الذي يعنيها هو هذا الهم الذي رأت عليه بوادره منذ حين؛ فقد أحست تغيرا عظيما اعتراه في تلك الأيام الأخيرة، وكان قلبها يعصر عصرا قاسيا كلما رأته يقضي اليوم والليل كاسفا متململا لا يكاد يذوق نوما ولا راحة، وتقدمت نحوه ووضعت يديها على كتفه في وداعة وقالت في صوتها الرخيم: مرحبا بك. لقد كنت أعد لك طعامك.
فنظر وائل إلى وجهها نظرة سريعة، ثم بدت على وجهه ابتسامة ضئيلة، ولكنه حول نظراته عنها وأمسك بيديها برفق فأزاحهما عن كتفيه، ونزع قوسه فقذف بها في حنق إلى ركن من الخيمة، ثم قذف بكنانة سهامه على الأرض في عنف حتى قعقعت، وذهب إلى نطع من الجلد في صدر الخيمة فجلس عليه واحتبى بسيفه ونظر إلى الخارج وهو ساهم صامت. فقربت جليلة منه وجلست إلى جانبه، وجعلت تعبث بيدها حينا في شملته، ثم قالت بصوت خافت: أراك مهموما.
فانفجر وائل قائلا: لقد طال صبري ولم يبق بعد في القوس منزع. قاومت نفسي وكبحت جماحها من أجلك. من أجلك أنت يا جليلة، ولكنه يتمادى ولا يزيد إلا جرأة علي.
فأطرقت جليلة صامتة، ووقع في قلبها من يكون ذلك الجريء الذي يقصده زوجها؛ فلم يكن في قبائل ربيعة كلها من يجرؤ عليه إلا أخوها جساس بن مرة الذي لا يعرف لنفسه سيدا. أطرقت حزينة وقلبها يغوص إلى أعماق صدرها وتواردت عليه الخواطر سراعا. لقد طالما سمعت بما يقوله أخوها في نادي قومه من التعرض لزوجها الحبيب، وطالما غاضبته وأنحت عليه بلومها. وكم توسلت إليه وهي باكية لكي يتجنب ما يوجب القطيعة بين زوجها وقومها؛ فإن تلك القطيعة لم تكن لتجر في هولها جساسا أخاها وحده، بل هي داهية محطمة تخبط وتنزع وتمزق الشمل كله. فلو كان جساس يجني بها على نفسه لما كان ذلك يطعن قلبها مثل تلك الطعنة، فإنه فتى عنيف متكبر لم يدع في قلبها رقة عليه، ولكن ثورته كانت جناية عليها وعلى قومها جميعا؛ قوم أبيها وإخوتها من بكر، وقوم زوجها وبني عمها جميعا من تغلب.
وأفاقت جليلة على صوت زوجها يهدر قائلا: إن أخاك جساسا يتحدث عني حديث الكاره المستهزئ ويجرئ علي هؤلاء الأحداث الذين كانوا أطفالا في أفنية آبائهم يمرحون ويلعبون، عندما كانت المعارك الدامية تثور من حولنا؛ إذ نجاهد أقيال اليمن وملوكها في جبال العالية من تهامة. كنا نبني لهم المجد لكي يصعروا خدودهم للعرب جميعا، فإذا هم اليوم قد أذهلهم البطر والجهل، فحسبوا أنهم أصحاب ذلك المجد الذي ينفخ أوداجهم كبرا. أما وأنصاب بكر وتغلب كلها، لئن لم ينته ذلك الأخرق لألحقنه بالعبيد، ولأجعلنه عبرة لأصحابه الآخرين.
فرفعت جليلة يدها إلى غديرتيه، وجعلت تفتلهما بأصابعها، ثم قالت بصوت هادئ: هون على نفسك يا ابن العم أمر جساس، ما هو إلا منك وما أنت إلا منه. لا تستمع إلى ما يسعى به إليك الواشون؛ فرب واش لا يريد إلا فسادا.
فقال وائل ولا يزال حانقا: لا تعتذري عنه يا جليلة؛ فلقد كنت تعذلينه وتلومينه. ألم تأتني أنباء ما قلت له؟
فنظرت إليه جليلة في شيء من الفزع. إن الأنباء تبلغه وهي تعلم صدق ما يقول، ولكنها لم تيئس وأرادت أن تستعين بما تعلم أنه في قلبه من حبها، فقالت كأنها معاتبة: ألا يرضيك منه عمك وأبناء عمك؟ إنك تعرف ما يحملون لك جميعا من المودة، فهلا أكرمتهم بالتغاضي عن جهل ابن عمك الصغير؟
فانتفض وائل حتى نزع غدائره من بين أناملها وقال في عنف: أتغاضى عن جهله! ومن لي بتحمل ما يتبع ذلك من جهل من يشاركونه؟ هل كنت لأسيغ أن يجعلني هؤلاء ملهاة لهم إذا مالت الخمر برءوسهم، وأن يتخذوا اسمي في أسمارهم العابثة هدفا لسخريتهم وعبثهم؟ لا وحق مناة! ما ذلك من شأن وائل.
ثم قام خارجا، ولم تجد كلمات جليلة إلى قلبه سبيلا، فقامت وراءه وهي دامعة العين وسألته بصوت متهدج: إلى أين يا ابن العم؟ إنك لم تطعم شيئا منذ الصباح.
فلم يجبها، بل سار وهو يرفع رداءه في اضطراب، ويلقي الشملة على كتفه في غضب، ووقفت جليلة حينا تنظر في أعقابه والحزن يعصر قلبها عصرا، حتى بعد واختفى عن عينها، ثم أسرعت وألقت عليها إزارها وخرجت مسرعة نحو منازل أبيها.
ولما صار كليب في الفناء الواسع بين خيامه دعا عبده الغصين، فجاء نحوه مسرعا، فصاح به في غضب: الرباب!
فأسرع العبد إلى جانب من الوادي، وسار كليب في خطوات واسعة لا يلوي على شيء وكلبه يتبعه ويشم آثاره. فلما بلغ آخر ثنية الوادي وقف ينتظر العبد حتى أقبل يجري وفي يمينه لجام فرس تخطر رشيقة في خيلاء، فوثب كليب على ظهرها وهمز جانبيها، فوثبت به لا تكاد تلمس سطح الرمال. وكانت كميتا غراء محجلة لا يرى الرائي منها إذا انطلقت إلا ساقين مثل ساقي النعامة تمدهما من أمام وأيطلين كأنهما لظبي تسبح بهما من خلف، وكأنها بينهما طائر يخترق الهواء.
وكان كليب مع ذلك يهمز فرسه في عنف على غير عادته ويصيح بها كأنه قد خرج يطارد عدوا؛ فإن الشجون التي تجيش في صدره كانت تلتمس منفذا في تلك الحركة العنيفة وتلك الصيحة الحانقة. ولما خرج من الوادي عرج متياسرا إلى براح من أرض صلبة قد غطى المدر سطحها، فكانت الفرس في عدوها تثير حولها نثارا من الحصى المتطاير، وكأنها أحست ما في قلب راكبها من الثورة، فأجابتها بوثبات لا تبالي فيها أين تقع حوافرها. وما كانت إلا هنيهات حتى بلغ وائل هضبة عالية فهدأ من سرعته وترك فرسه تعلو جانبها على رسلها، ولكنها وثبت على السفح الصخري كما يثب الوعل الأعصم، حتى علت ظهر الهضبة الفسيح، وكان العشب الأخضر يغطي سطحها المتموج، ولا تزال قطرات الماء من أثر الأمطار تلمع تحت ضوء الشمس في ثنايا الأعواد، وفي ثغور أزهار الأقاحي والعرار، فملأ كليب صدره من الهواء وأرخى الحبل للفرس ومسح عرفها بكفه، فاطمأنت في سيرها ومضت بين التلاع والوهاد تعلو وتهبط في هوادة كأنها تتحرك بما تحسه من إرادة سيدها، وقلب كليب نظره في أرجاء الأفق الواضح، وكانت السماء الزرقاء صافية بعد أن تحلبت أمطارها كأنها قد غسلت من أدرانها. فدب السلام رويدا إلى قلبه، وانفرجت عقدة جبينه ولاحت على وجهه بسمة الارتياح. ولما عادت إليه صورة ما حدث في الصباح لم تعد إليه غضبته، كأن المنظر الوديع هدهدها وقطع فحمتها. وعادت إليه صورة جساس بن مرة أخي زوجه الحبيبة فساءل نفسه: أما آن لجساس أن يدع تلك الوساوس التي توغر صدره؟ ولكنه لم يكن يحس عند ذلك تلك الكراهة التي ملأته غيظا منذ ساعة على ذلك الشاب الفارس الجريء، بل لقد كان في قرارة قلبه يتمثل بسالته فيعجب به ويتمنى مودته. إن مثل جساس من يحمي الظهر عند اللقاء، ويشفي النفس من دماء الأعداء، وإن مثله من يركن إليهم الملوك في رد غيبتهم والذب عن حياضهم. وهو أخو جليلة العزيزة، وما كان أجدره أن يكون إليه حبيبا ومنه قريبا، فإذا كان قلب جساس قد امتلأ غيرة منه وحقدا عليه، حتى أطلق فيه لسانه، فإن غيظه قد يسل وغيرته قد تهدأ. إنه لا يحاول إذا لقيه أن يخفي عليه ثورته. ولكن ذلك أخف كيدا وأسلم عاقبة من أولئك الذين يلقونه بالبسمات، فإذا تولوا عنه سلقوه بألسنة حداد. لقد تمنى كليب عند ذلك لو عاد جساس إليه صديقا يؤنسه بمودته ويسند ملكه بشجاعته.
وما زالت هذه الخواطر به حتى أزاحت عن كاهله ثقله فتنفس نفسا عميقا، وشعر بالأشجان التي تضطرم فيه تتصاعد معها، ودب إليه دبيب من السلام، وسار على رسله يقلب طرفه في الأفق الصافي وفي جوانب الربى الخضراء.
وفيما هو في ذلك لمعت أمام عينه لمعة على مرمى سهمين فرأى بياضا يبرق ثم ينساب، فإذا هو بطون الظباء وهي تثب في خفة من خميلة فوق طريقه لتقصد إلى أخرى آمنة إلى جانب من الهضبة. فصرخ صرخة وهمز فرسه وحرك اللجام إلى قصدها فانطلقت الفرس تعدو نحوها ووثب عساف يهدر من حلقه حتى سبقها. وما كادت الظباء تحس المطاردة حتى خرجت تهيم على الهضبة الفسيحة تعلو وتهبط بين ناشز من سطحها ومتطامن، والخوف يقذف بها قذفا، وقد مدت رءوسها حتى بلغت قرونها الطويلة جانبي ظهرها. وعدا الكلب والفرس في آثارها، وطالت المطاردة في تيامن وتياسر حتى بدا شيء من التردد على الظباء، فتفرقت تحاول أن تجد لها عاصما. ولكن الهضبة الفسيحة لم يكن بها صخر تتوقل في جانبه، فانطلقت تعدو في فزع حتى أدرك الكلب عساف زوجا منها كان أثقل الربرب وثبا، فجعل يهر في وجهيهما ويتواثب من حولهما وهما يحاورانه ويحاولان الخلاص منه حتى صار كليب على مرمى السهم من الظبيين، فجذب قوسه وسدد الرمية إلى أقربهما إليه، وهو يحاذر أن يصيب كلبه الباسل برميته، فإذا الكبش يخر وقد أصاب السهم مفصل كتفه، ثم سدد رمية أخرى فإذا النعجة تخر على خطوات منه وقد وقع النصل ما بين عينيها، وهمز كليب فرسه همزة فوثبت به حتى كانت عند الرميتين، وهما تفحصان الأرض بأظلافهما الدقاق. ونزل عن فرسه في خفة وجرد سيفه فذفف على الظبيين ومال عليهما يتأمل أعضاءهما في إعجاب.
ثم رفعهما إلى ظهر الفرس فربطهما في سرجه عن يمين وشمال، ثم مسح رأس كلبه وصاح به: عشاء طيب يا عساف!
فبصبص الكلب بذنبه ونظر إليه كأنه يضاحكه، ثم وثب الفارس فوق ظهر فرسه فاستوى عليه ومسح بيده على رأسها وعرفها وأرخى لجامها، وأخذ يتغنى ببعض شعره.
وقضى كليب في عودته ساعة طويلة يسير على هينته وهو يقلب نظره في الفضاء، وقد هزته نشوة أنسته كل شجونه الثائرة، حتى مالت الشمس منحدرة نحو الأفق الغربي، ولمعت تحتها الأزهار تتألق بين بياض في صفرة، وحمرة في زرقة. فلما بلغ جانب الهضبة مما يلي روضته، نزل عن فرسه وأرسلها فسارت وحدها متجهة إلى مضارب الخيام، وسار كليب وحده نحو الروضة حتى تبعث امرأته إليه الطعام. ورأى في طريقه إلى الروضة إبل جساس صادرة عن الماء، ورأى جساسا في عدوة الوادي على فرسه يسير في أعقابها. وكان في يده رمح قد ركزه في ركابه، فنظر كليب نحوه نظرة قصيرة فرآه ينظر نحوه، وخيل إليه وهو على تلك المسافة البعيدة أن نظرته لم تخل من التحدي، فصرف وجهه عنه ولم يرد أن يفكر في أمره حتى لا يعكر الصفاء الذي شمله من جولة اليوم.
ودخل الروضة حتى بلغ موضع الخميلة وسار في خفة يرفع بيده أطراف الغصون المتدلية باحثا عن عش القبرة التي رآها في الصباح.
وكان يتغنى بصوت خافت:
قنبرة تدعو بإلف قنبر
هاتفة بين رياض الحجر
لا ترهبي خوفا ولا تنقري
فأنت جاري من صروف الحذر
إلى بلوغ يومك المقدر
وما كاد يدير بصره بين الفروع حتى هاله ما رأى: كان العش هناك محطوما في أذيال الغصون المتدلية، وكانت الأفراخ فيه مدكوكة قد سويت بالأرض واختلطت دماؤها القليلة بأعواد القش والأوراق المتساقطة من الشجر.
إذن لقد دخل الروضة دخيل تعمد أن يستبيح حماه حتى وطئ القنبرة المسكينة التي آوت إليه.
فاعتدل وتطلع فيما حوله وعاد إليه الغضب أشد مما كان، ولم يشك في أن ذلك الجريء الذي اعتدى عليه لم يكن سوى جساس؛ فهو وحده الذي يستطيع أن يقدم على إيماءة مثل هذه ليظهر بها ما في نفسه من استخفاف. فهو الذي آذى كلبه في الصباح، وما كان أحراه أن يكون هو الذي حطم عش هذه القنبرة المسكينة وحطم أفراخها الزغب تحت عينيها.
ولما رفع بصره إلى أعلى الخميلة رأى في الغصون القصية مواضع قضم ونزع، فألقى نظرة على الأرض فإذا آثار إبل، ورأى إلى جانب موضع العش رسم خف على الرمال، فزاد يقينه أن جساسا هو الذي استباح حماه. فذهب وهو ممتلئ من الغيظ وقد عزم على أن يفصل فيما بينه وبين الفتى الجريء؛ إذ صار الأمر بينهما إلى ما لا يستطاع معه احتمال. ولما هم بالسير لاحت له من خلال أشجار الروضة ناقة تقطف الأوراق الخضراء من أعالي الغصون، وتسير متباطئة بين الشجر تنزع من غصونها لقيمات. فتأملها فإذا هي ناقة بيضاء ضئيلة البدن هزيلة حدباء الظهر، ليس لها سنام. ولم تكن هذه من إبل جساس؛ فقد كانت إبله حمراء عالية تهتز أسنامها من خصوبة المرعى وعذوبة المورد، فوقف يتأملها حتى نزلت من الروضة وذهبت لتختلط بإبل جساس.
فأسرع كليب في أثرها حتى أدركها، ثم وضع يده على مقبض سيفه ليعقرها.
ولكنه سمع صوتا من ورائه ينادي في فظاظة: «تمهل يا كليب لا تفعل!»
فرفع يده عن سيفه ونظر فرأى من ورائه جساسا ينظر إليه في غضب ويبرق وجهه بما اعتاد من نظرات التحدي.
فقال له معبسا: «أهذه الناقة لك؟»
فقال جساس: «أجل. هي ناقتي.»
قال كليب: «ليست ناقتك فإني لم أرها من قبل.»
قال جساس: «هي ناقة ضيف نزل عندي وهي في جواري.»
فقال كليب وقد عاد إلى القبض على سيفه: «لقد وطئت حماي.»
فقال جساس متحديا: «إذا كان لك حمى فإن ناقة ضيفي في حماي.»
فصاح به كليب: «أتحمي علي يا جساس؟»
فقال جساس: «قلت إنها ناقة ضيفي.»
فكظم كليب غيظه وقال متساهلا: «لقد هممت أن أقتلها ولكن احذر أن تعود تلك الناقة إلى الرعي في مرعاي.»
فقال جساس وقد ضحك ساخرا: «مرعاك! كأننا لا يحق لنا أن نرعى في هذه الأرض! إنما هي أرض بكر، كما هي أرض تغلب، ولم يورثها لك أبوك ربيعة.»
فتألم كليب لذلك القول الذي لم يتعود سماع مثله وعلا الدم في وجهه، ولكنه تمهل في الجواب، ثم قال: «أنصحك أن تبعد هذه الناقة عن إبلك.»
فأجاب جساس متحديا: «لن أبعدها، وسترعى مع إبلي وحق مناة.»
فتقدم كليب نحو الشاب وقال مهددا: «أيها الفتى! وحق آلهة ربيعة لئن عادت هذه الناقة إلى الرعي هنا لأضعن سهمي في ضرعها.»
فضحك جساس مرة أخرى ساخرا وقال: «لئن وضعت سهمك في ضرعها ليكونن لي شأن.» وصمت قليلا ثم قال في حقد: «لئن وضعت سهمك في ضرعها لأضعن رمحي في لبتك.»
ثم همز فرسه ومضى وهو يطعن الأرض برمحه وعيناه تقدحان شررا.
فانتفض كليب كأنما لذعته نار، وقال وهو ينظر في أثره: «أيها الفتى الوقح! ويل لك!»
فوقف جساس والتفت نحوه رافعا رأسه وقال: «سترى لمن الويل يا كليب.»
فقال كليب وهو يكاد ينفجر من الغيظ: «وحق مناة لأكبحن من سفهك.»
فلوى جساس عنان فرسه حتى صار أمامه وجها لوجه وقال ساخرا: «ما قلت سفها ولكنه الحق يصدعك. نحن الذين سودناك، لم تسدنا بعبيدك بل سدت لأننا عززناك. أحاربنا معك حتى انتصرت بنا، ثم تريد أن تجعلنا عبيدا لك؟»
فخشي كليب أن يخرج الفتى في قوله إلى أكثر من ذلك، فاكتفى بأن قال: «سأعرف كيف أؤدبك.»
ثم مضى عنه مسرعا.
وصاح جساس من ورائه: «بل يؤدبك رمحي.»
وكانت جليلة واقفة عند باب البيت تحمل في يديها صحفة فيها طعام وشراب، فلما وقعت عينها عليه عرفت في وجهه الغضب، فارتاعت واضطرب فؤادها، وألقت بالصحفة وسارت مسرعة نحوه ووجهها ينم عما يثور في نفسها من المخاوف.
ولم يأخذها بين ذراعيه كعادته إذا أقبل، ولم تهم هي بالاندفاع إليه كعادتها عندما تراه راجعا، بل وقفت على خطوة منه، وجعلت تفرك بيديها لتزيل أثرا من الدهن فيهما، ثم قالت وهي تحاول إخفاء ما بها: لقد أصبت صيدا كريما يا ابن العم.
فقال وهو يعلق سيفه في عمود الخيمة في وجوم: «بل أصبت شرا مستطيرا وحق مناة.»
فقالت وهي تمانع نفسها من إظهار الجزع: «هل غضبت لأمر؟»
فقال متجهما وقد نظر إليها: «أترين يا جليلة أحدا من العرب يمنع مني جاره؟»
فقالت: «ومن يجرؤ على ذلك إلا أن يكون عمك مرة. هل حدث بينكم أمر؟»
فقال كليب: «لم أر أباك اليوم.»
فقالت جليلة في شيء من الارتياع: «إذن هو جساس بن مرة.»
فقال كليب بحقد: «وشتمني.»
فقالت جليلة وقد أقبلت فطوقته بذراعيها: «دع جساسا يا ابن عمي إنه فتى أخرق.»
فقال كليب وهو يتخلص من ذراعيها: «أخرق؟ أعلي أنا يكون خرقه؟»
فعادت جليلة إلى التعلق به وقالت: «أتوسل إليك يا ابن عمي أيها الحبيب، أتوسل إليك ألا تقطع رحمك.»
فقال كليب: «هو الذي يقطع الرحم. أترضين أن يهان كليب يا جليلة؟»
فقالت جليلة وقد أخذت وجهه بين يديها: «اعف عنه من أجلي، اعف عنه يا كليب. هو أخي فأكرمني بالتجاوز عن خطئه، عدني بحق مناة أن تفعل.»
فسكت كليب ولم يجب، وحاول أن يتخلص من يديها، ولكنها تعلقت به، واستمرت تتوسل وترجو.
ونظر إليها كليب فرأى دمعة تنحدر على خديها وهي متجهة إليه بعينيها المغرورقتين. فتردد لحظة ثم ضمها بين ذراعيه بقوة وقال لها: «لقد طالما عفوت عنه يا جليلة من أجلك.»
ثم قبلها بين عينيها، ومضى يحدثها فأفضى إليها بما كان من جساس.
الفصل الثاني
كانت الشمس قد مالت للغروب، وصبغت الأفق الغربي بلون القرمز، ولم يبق من شعاعها إلا فلول ذهبية تتعثر في أذيال سحابة بيضاء تسير قرب الأفق متباطئة. وكان نسيم المساء المقبل يهب باردا من صوب الشمال، يحمل معه طلائع برد ليل الشتاء في صحراء اليمامة من بلاد نجد.
وجلس مرة شيخ بكر وحوله شيوخ العشائر يتحدثون عن أحداث اليوم، وعن عزمات الغد، والعبيد يجمعون الأحطاب من بطون الأودية، ويكدسونها أكداسا في وسط حلقة الجلوس ليوقدوا منها النيران.
وأقبل جساس بن مرة يسير متباطئا حتى اقترب من أبيه الشيخ، فوقف وراءه وهو صامت، وقد استند على رمحه المركوز في الرمل الناعم اللامع.
فنظر إليه الجلوس في صمت إلا أباه مرة فقد أطرق ولم يلتفت إليه، وعلت وجهه سحابة خفيفة من كآبة كأنه لم يسترح إلى مقدم ابنه الشاب في ذلك الوقت.
وكان جساس مقطب الجبين تلمع عيناه لمعة الغضب، وكان شعره الطويل الأسود مضفورا في غدائر ملتوية، تهتز أطرافها مع النسيم فوق كتفيه.
وكان طويل القامة دقيق العود، ليس في لحمه فضلة من شحم تدور ملامحه؛ فبدا في وقفته تلك كأنه رمح يتكئ على رمح، وبدت تقاطيع وجهه حادة قوية، تجمعت حول فم منقبض تكاد شفتاه لا تنفرجان.
وقطع جساس السكون بعد قليل، فقال بصوت أجش: «أما لهذا الهوان من آخر؟»
فنظر الجلوس إلى أبيه الشيخ ولم يتكلموا، وانتظروا ما يقوله الشيخ لابنه الغاضب.
وكان الأب محتبيا في جلسته، جمع ركبتيه في حبل دقيق مربوط من تحت إبطيه، فلم يحل حبوته ولم يلتفت وراءه، بل قال بصوت هادئ لا يكاد يسمع، وقد زاد وجهه عبوسا: «دعنا اليوم من هرائك.»
فانفجر الفتى عند ذلك، وقد أنساه الغضب ما يجب لأبيه من توقير فقال: «إني لن أصبر على ما تصبرون عليه ها أنا ذا قد أنذرت.»
فأحل أبوه حبوته وانتفض كأنه قد أحس وخزة أليمة، ثم قام ودار بوجهه إلى ولده وصاح به: «ماذا تقول؟»
فوقف الشاب مرفوع الرأس في تحد، وقال وصوته لا يزال أجش جافا: «أقول إنني لن أصبر على الضيم، هذا رجل يسومكم الخسف ولا تتحركون، قد وضعتم أعناقكم إليه ليطأها بقدميه، ولكني لن أكون معكم في ذلك العار.»
فقال أبوه وقد اربد وجهه: «من تعني بقولك أيها الفتى الجاهل؟ أتعني سيد ربيعة؟ أتعني كليبا؟ أتعني الرجل الذي حفظ قومك من العار، وحماهم من الذل؟ أتعني وائل بن ربيعة؟»
فقال الشاب ولا يزال في صوته رنين الحقد والغضب: «نعم أعني وائل بن ربيعة. أعني كليب بن ربيعة، ذلك الذي يجعلكم عبيدا، ولا يعدكم إلا أتباعا وخدما.»
فسرت في الجلوس ضجة مكتومة، ولا سيما من شيوخ بني تغلب، وتحرك بعضهم يريد القيام غضبا.
فأشار إليهم الشيخ بيده أن يصبروا، فهدأت الضجة وسكن اللغط، ونظر القوم إلى الشيخ، وقد اعتدل أمام ولده الغاضب كأنه يريد أن يبطش به، ولكنه تحول بعد لحظة قصيرة وكأنما جال في نفسه خاطر طارئ صرفه عما كاد يهم به من عقاب ابنه. ثم نظر إلى القوم وقال لهم وهو يحاول أن يجمع شعوره ويكبح العاصفة الثائرة في صدره: «يا إخواني وأبناء عمي! اجعلوا ما قاله هذا الفتى يذهب مع الريح، فما هو إلا من جهل شاب ليس يدري ما حق هذا الأمير عليه.»
ثم نظر إلى ولده، وقال وهو متجهم: «أيها الابن المنكود. لقد صبرت على كثير من أذاك، ولكني أراك تماديت، وأحب أن أعلمك بشيء لست تعلمه لعلك ترجع عما يوغر صدرك، ويوشك أن يقطع بينك وبين أبيك.»
فأطرق الفتى وخشع قليلا عندما سمع قول أبيه، واعتدل في وقفته وقد أحس شيئا من الخجل لما أظهر من التحدي لشيخه، ولحظ أبوه ذلك فلان من عبسته، كأنه قد أمل أن يستلين قلب ابنه بالحجة والموعظة؛ لأنه كان يعلم أن الرهبة لن تمنع ذلك الابن من الإقدام على عظائم الأمور.
واستمر مرة فقال يخاطب شيوخ قومه ويسمع ابنه: «لقد علمتم ما كان من سطوة قبائل اليمن بنا وإذلالهم إيانا، أيام كنا لا نملك لأنفسنا أمرا، ولا نقوى على رد اعتداء.»
فقال شيخ أبيض اللحية، كان أقل الجلوس اكتراثا بما يجري حوله: «قسما بمناة لقد كانت قبائل اليمن تجتاح أرض تهامة ونجد، لا يقوى أحد على أن يرفع رأسه لها.»
قال مرة متجها إلى ابنه: «صدق أبو عامر؛ لقد كانت مذحج تسومنا الخسف، ولا تجتمع لنا كلمة في مقاومة عسفها، وبقينا مفرقين أشتاتا حتى أتى وائل بن ربيعة، ذلك الأمير الذي نتحدث عنه هذا الحديث القبيح، فاجتمعت عليه كلمة قومك من بني شيبان، ومن بني أبيهم بكر، ومن بني عمهم تغلب، فوقف بهم يوم خزازى، حتى قادهم إلى النصر والعز والمجد.»
فسرت في الجمع عند ذلك همهمة الارتياح، وعاد أبو عامر إلى الكلام فقال: «أما إنك تذكرنا بأيامنا المجيدة يا أبا همام، إني لأذكر النار التي أوقدت فوق خزازى لنهتدي بها ونجتمع عندها، وإني لأذكر كيف قاتلنا وكيف كانت كل ساعة تطلع بنا على بطل جديد من بيننا. كان ذلك كأنه بالأمس القريب، ولقد شفى وائل بن ربيعة نفوسنا وحق مناة من العدو المندحر.»
فعاد مرة إلى الحديث فقال: «وإنا لو أعطينا وائلا أموالنا وأنفسنا لكان ذلك بعض حقه علينا؛ فقد حفظ أعراضنا، وأعلى أمرنا، وجعل سيادة العرب لنا.»
فرد الجميع موافقين وقال أبو عامر: «إن يد وائل بن ربيعة علينا لا تكافأ بمال.»
فتحرك جساس في غيظ وانفجر بعد أن عجز عن كتمان ما في نفسه وقال وهو يهدر: «وحق مناة ما أراكم تنطقون بما تطوون عليه الجوانح، فهل آن لكم معاشر بني بكر أن تعرفوا أن كليبا قد أركب عليكم قومه تغلب؟ إنكم لتعلمون أنه يمنعكم الماء حتى يصدر عنه عبيده، ويمنعكم الرعي حتى تمتلئ بطون إبله، ويحمي عليكم الوحش في الفلاة فلا تستطيعون أن تصيدوا بها ظبيا أو تحترشوا ضبا. وإن صدوركم لتتمزق من الغيظ ولكنكم تخفونه من خوف بطشه.»
فتقدم مرة نحوه مهددا، ووضع يده على مقبض سيفه وصاح به: «لا كنت أيها العقوق!»
فأسرع إليه أبو عامر وأمسك بيده يمنعه، ووقف جساس حينا ينظر إلى شيخه وهو يرتعش في اضطرابه ثم حول وجهه وأسرع ذاهبا عنه في حنق وعيناه تقدحان شررا.
وكان الليل في أثناء هذا قد أقبل وأرخى على الآفاق سدوله، ولمعت أنوار النيران على وجوه القوم وهم جلوس حولها مطرقين، يشفقون أن يرفعوا عيونهم نحو الشيخ في ثورته. ولم يجد مرة في نفسه ارتياحا إلى البقاء في نادي قومه، بعد أن كان من ولده ما كان، ولم يدر كيف يستطيع أن يداوي وقع تلك الألفاظ القاسية التي فاه بها الفتى في ثورته، ورأى الأمور تتعقد وتتجهم.
ولم يدر ماذا ينبغي له أن يفعل، ولا أين يجب عليه أن يقف، فقد فتح جساس عليه بابا من الفتنة ما كان أحب إليه أن يبقى مغلقا. ولم يدر كذلك ماذا يحمل الغد المقبل في طياته بعد أن أقحم ذلك الشاب المنكود في غضبته ذكر بكر وتغلب، فإن بكرا وتغلب من صلب أب، وقد أقاما معا على حالي العسر واليسر، فماذا يخفي لهما الغد في طياته؟ هذا جساس بن مرة ينادي بكرا أن تثور، وما كانت تغلب لترضى أن يطمع أحد في ملكها، فلم يجد الشيخ في حيرته هذه إلا أن يذهب عن الجمع لعله يهتدي في خلوته إلى ما يضيء له تلك الظلمات.
وكان الهواء قد برد ولف الشيوخ عليهم العباء، فلما تركهم مرة قاموا في أثره إلى البيوت يستدفئون وراء جدرانها الصوفية، ويتم كل منهم الحديث مع عشيرته في خلوة من الرقباء.
وأقبل مرة نحو بيته وكان يسير مطرقا، يفكر فيما عساه يفعل مع ولده الغاضب، وهو يتوجس خيفة من طيشه وحمقه. فقد عرف جساسا سريعا إلى الفتك، مقداما على الشر، لا يتردد في أن يلجأ إلى سيفه إذا ظن أن أحدا اعتدى على كرامته أو مس كبرياءه، وعرفه لا يبالي من يكون ذلك الذي يقدم على عداوته، ولا يعبأ بما يجره إليه غضبه.
عرف الشيخ أن ولده لن ينصرف عن كليب إذا تعقدت الأمور بينهما، ولن يثنيه عن الانتقام لكبريائه شيء، ولو سالت دماء قومه في حرب ضروس تفرق بين بني العم، وتجر الشؤم على القوم.
جعل مرة يقلب وجوه الرأي فيما يصنع مع ابنه حتى يصرفه عن التعرض لكليب. حتى لقد فكر في أن يبعده عن منازل قومه؛ لكيلا يجمع بينه وبين الرجل الذي داخله الحقد عليه.
ولم ينتبه من تفكيره ذلك إلا عندما سمع صوت ابنته جليلة تتكلم مع أمها في الخيمة من وراء الستار، وتبين من صوتها أنها كانت تتحدث وهي مرتاعة ثائرة النفس. فدخل إلى بيته، وكان بيتا رفيع الأركان قد أقيم على أعواد عالية، وشدته إلى الأرض أوتاد كبيرة، تمتد إليها حبال ضخمة من أوبار الإبل وأصواف الغنم . فلما سمعت جليلة وقع أقدام أبيها سكتت، ثم وقفت تنتظر دخوله، وقد ارتسم على وجهها ما كان في قلبها من الخوف، ثم اقتربت إليه وقبلت يده في خشوع.
فقال مرة: «مرحبا بك يا جليلة، خيرا ما جاء بك هذه الليلة!»
ثم التفت فرأى ابنه يجلس إلى جانب في ركن من الخيمة، وأمه تنظر إليه كأنها كانت تحدثه في غضب.
فقالت جليلة وهي تحاول أن تهدئ من روعها: «ليس بي إلا ما تحب يا أبي.»
فقال مرة: «لقد سمعتك تتكلمين مع أمك.»
وما كاد يتم قوله حتى انفجرت جليلة تبكي، ووضعت يديها على عينيها تحاول كتمان صوت البكاء.
فوضع مرة يده على رأسها ملاطفا، ثم قال: «ماذا يحزنك يا بنيتي؟»
فاستمرت في بكائها مليا، ثم قالت بين شهقاتها: «أدرك جساسا يا والدي.»
فقال لها وقد نظر نحو ابنه: «لا تخافي يا ابنتي.»
قال ذلك ليهدئ من روع ابنته، ولكنه كان يكذب قوله بنبرات صوته المترددة ونظراته الغاضبة إلى ولده.
فقالت جليلة: «أما سمعت يا أبي بما كان بينه وبين وائل؟»
فسكت الشيخ ولم يرد أن يزيد من ارتياعها، فقال: «لم يكن بينهما إلا ما يكون بين ولدي العم، إنها غاشية لم تلبث أن تنجلي.»
قالت جليلة: «إذا لم تعلم يا أبت. إذا لم يخبرك جساس.»
فقال مرة وهو يحاول كتمان غضبه: «لا تخافي يا ابنتي، لن يكون بينهما إلا ما تحبين.»
ثم التفت إلى جساس وقال: «أكان بينكما نزاع؟»
قال جساس وشفتاه تختلجان: «قال لي قولا فرددته عليه.»
فصاحت جليلة: «ألم تهدده؟ ألم تسبه؟»
قال مرة مرتاعا: «هددته؟»
فقال جساس وقد أعلى صوته على صوت أبيه: «نعم هددته إذ هددني. ألست جساس بن مرة؟ ألست من شيبان سادة بني بكر؟ فبماذا يفضلني كليب؟»
قال مرة وقد أودع كل ألمه في كلمته: «أيها المنكود!»
ونظر إليه غاضبا، فأغضى الفتى أمام نظرة أبيه وبقي صامتا، فقالت جليلة تخاطب أخاها: «أي جساس! أنت أخي وهو زوجي، فبحقي عليك لا تقطع رحمك، ولا تؤذني في صاحبي.»
فعاد مرة إلى ملاطفتها قائلا: «لا تخافي يا جليلة، لن يكون هذا الولد مني إذا هو عصى أمري.» ثم نظر إلى ابنه وقال: «أأنت يا جساس ولدي؟ أأنت مطيع أمري؟»
فقال جساس: «قد علمت أنه قد حمى خير مراعي جبالنا، وعلمت أنه يطغى علينا ويذلنا ويأبى إلا أن يكون سيدا لنا.»
قال مرة: «علمت قبلك، ولست في حاجة إلى قولك، وقد أقررنا ذلك ورضينا عنه، على أن إبلنا ترعى مع إبله فلا يتعرض لها، وتسعى إلى موارده فلا يمنعها عنها، وهو بعد ذلك صهري ويتخذني له والدا.»
قال جساس: «ولكنه يريد أن يفضحني مع جاري.»
قال مرة: «جارك؟ ومن جارك هذا؟»
قال جساس: «سعد بن شميس الجرمي، رجل نزل ضيفا على خالتي البسوس، وله ناقة ترعى مع إبلي، فطردها كليب وقال لو عادت إلى الرعي ليضعن سهمه في ضرعها.»
فسكت مرة، وبقي ناظرا إلى ولده ينتظر أن يتم الحديث.
فقال جساس: «فقلت له لو وضعت سهمك في ضرعها لأضعن رمحي في لبتك.»
فقال مرة وهو يكتم ما ثار في نفسه من الغضب: «سآخذ ناقة جارك لأرعاها مع إبلي.»
قال جساس معاندا: «ولكني لا أفرط في أمر جاري.»
قال مرة يحاول تهدئة ولده: «وأنا كذلك لا أفرط في جارك، سأرعى ناقته مع إبلي.»
فقال جساس غاضبا: «لا بل ترعى مع إبلي، والويل لمن تعرض لها.»
ثم خرج من البيت غاضبا، فذهب ولم يرجع، ولم يعرف أحد أين قضى ليلته.
وجعل مرة يخفف من خوف ابنته ويهدئ من روعها، وجلس يحادثها ويضاحكها، وهو ثقيل القلب يتوجس خيفة مما قد يجره عليه نزق ولده، فلما اطمأنت جليلة إلى وعود أبيها قامت لتعود إلى بيتها، وخرج أبوها معها ليؤنسها في ظلمة الليل، حتى إذا بلغ قبة كليب العالية، تركها عند المدخل وعاد إلى بيته، وكان الهم يملأ قلبه، من توقع ما يكون بين ابنه وبين زوج ابنته.
الفصل الثالث
مضت أيام كانت منازل بكر وتغلب في أثنائها لا تظلل إلا وجوها جاهمة عابسة ، وكانت الأندية خالية لا يتبادل فيها الشيوخ الهمسات، ولا توقد في وسط براحها النيران، قد شغل الجميع هاجس من توقع الفرقة بين أبناء العم الذين عاشوا معا في ربوع تهامة واليمامة سنين متصلة يتقاسمون العيش في سراء وضراء، ويتعاورون المروج في رعيهم وصيدهم، تجمعهم جميعا ذكريات الجهاد المشترك مع عدوهم من ملوك اليمن وقبائله. فإن الصيحة التي صاحها جساس لم تكن إلا صدى لما في قلوب شباب بكر جميعا.
كان الشيوخ إذا أحسوا من كليب طغيانا طووا ما أحسوه تحت الصمت العميق وشفعوا سابق فضله. كانوا يحسون أن كليبا قد أطغاه الملك وأبطره ما يلقاه به قومه من التبجيل والتكريم، ولكنهم كانوا كلما ثارت نفوسهم من طغيانه تذكروا سابق الذلة الي كانوا يئنون تحت أعبائها عندما كانت قبائل اليمن تتحكم في أرضهم، فيؤثرون الذلة لابن العم ويصبرون على كبرياء كليب وعسفه، فإن ذلك لا يجرعهم من الغصص مثل ما كانت تجرعهم وطأة حكم الغريب. ولكن جساسا صاح صيحته وتلقفها من ورائه الشبان ممن لم يعانوا حكم قبائل اليمن، ولم يشهدوا عسف أقيالهم وجور ملوكهم. لم ير هؤلاء الشبان كيف كانت شيوخهم تقتل وتسجن، ولا كيف كانت أموالهم تسلب، ولا كيف كانت حرماتهم تستباح. لم يشهدوا شيئا من ذلك، وكان كل ما شهدوه هو كبرياء كليب واستئثاره بالسلطان دونهم وحماية الوحش من صيدهم.
فلما سمع هؤلاء الشبان صيحة جساس اهتزوا لها ورددوها فيما بينهم، لا يبالون أن يضرموا في قبائل ربيعة نارا لا تطفئها إلا الدماء السائلة بين بني الأب والأم. فكان الشيوخ كلما سمعوا صيحاتهم أشفقوا وجزعوا مما يحمله الغد من كوارث تفجعهم في الولد والحميم، وفي النفس والمال. لقد طالما عركوا الحروب وخاضوا غمارها، وما كانوا ليخفوا إليها إذا استطاعوا إلى تجنبها سبيلا. لقد عمهم السلام ودرت لهم الأخلاف وأمرعت لهم المروج، واستقرت السيوف في أغمادها، إذ هابتهم قبائل العرب جميعا وتحامت عداوتهم وتركتهم يستمتعون بثمار النصر الباهر الذي كان رمزه وصاحب علمه كليب؛ وائل بن ربيعة.
كان الشيوخ يشفقون أن يستبدلوا بذلك السلام وهذا الرخاء حربا، تستنزف دمائهم وتخرب عمرانهم وتضيع ما حازوه من أموال؛ ولهذا قضوا تلك الأيام التي أعقبت صيحة جساس واجمين، كل منهم منطو على نفسه يفكر فيما هو صانع بنفسه وفيما هو محتال فيه مع بنيه وحفدته من أولئك الشبان الأغرار الذين لا يكتمون ما في نفوسهم ولا ينظرون في أعقاب نزواتهم.
ولكن الأمور لم تقف؛ فإن قلب جساس كان يغلي من غيظه وحقده، فلم يدع له اطمئنانا في صباح ولا مساء، بل كان يدفعه ويثور به فلا يزال يضرب في النجوع ليلم بكل فتاك من الشبان يحرضهم وينقل إليهم ما لم يبلغهم من أنباء عسف كليب. فصار لا يأوي إلى منازل أهله إلا الساعات القلائل في طويل الأيام، فإذا آوى إليها لم يرتح إلى حديث أحد ولم يرتح أحد إلى حديثه؛ إذ استبدت بخياله صورة واحدة، صورة كليب وهو يرفع رأسه عليه شموخا وينظر إليه ساخرا باسما، كأن السيد يأمر بعض عبيده ويشير إليهم بإصبعه فلا يسعهم إلا أن ينحنوا وأن يطيعوا.
في تلك الأيام الجاهمة الساكنة كان شابان اثنان لا يعبآن بشيء مما يفكر فيه الشيوخ، ولا يباليان شيئا مما يصل أسماعهما من ثورة جساس. وكانا صديقين شبا معا وتقاسما حياة النعيم في أكبر بيتي ربيعة. نشآ في سلام لم يعرفا مآزق الحروب، وفي بحبوحة من العيش لم تلجئهما ضرورة إلى كبح النفس عن لذات الحياة. وكانا جميلين ناعمين تركهما الأهل للهو، فلم تكن بهما حاجة إلى الجد، واكتفى الشيوخ بأن يتحدثوا فيهما وأن يتهكموا بانصرافهم إلى اللذات، وعنفوا عليهما في الأحاديث، ولكنهما لم يباليا من ذلك شيئا، فما كان يضرهما أن يسمعا رأي الشيوخ فيهما؛ إذ كان ذلك أبعث لهما على المرح والاستهتار بالمجون.
كان أحدهما عدي - المهلهل بن ربيعة - الذي كان أخوه كليب يسميه زير النساء تهكما وسخرية، وكان الآخر همام بن مرة أخو جساس.
ترك الصديقان الشابان منازل الحي الساكنة الجاهمة، واعتزلا في روضة من الرياض عند رأس واد صخري ضيق تنحدر جوانبه في درجات وعرة، تجري من فوقها جداول من مياه المطر المجتمعة عند رأسه، وكانت المياه في هبوطها على الجوانب الصخرية تهمس في خرير رقيق يشبه وسوسة أوراق الأغصان إذا هزها النسيم. كانت السفوح مخضرة تكسوها خصل متفرقة من أعشاب بارضة وشجيرات قصيرة أحياها الموسم المطير.
وأعد الصديقان ليومهما عدته من خمر وفاكهة وطعام، ورياحين من زهور العرار العطرة البيضاء ذات الحدقة الصفراء، وبعثا إلى فتيات من خليعات القبائل ليؤنسنهما في المنادمة على الشراب كما اعتادا في مجالسهما؛ إذ كانا لا يرهبان أن يتحدث عنهما الناس، فما كان ذلك عنهما بالحديث الجديد.
وبقيا في مجلسهما إلى أن تصرم النهار، وهب النسيم باردا يؤذن باستطالة الظلال، واضطربت غصون الأشجار، وتمايل سعف النخلات ودارت الخمر بهما فاضطجعا، ومالت النسوة حولهما يتهاتفن بضحكات وسنى. ولكن زقاق الخمر كانت في وسط جمعهم بعضها ممتلئ وبعضها مفشوش، ولا يزالون يملئون منها كأسا بعد كأس، وهم كلما شربوا منها زاد بهم الظمأ وطلبوا المزيد. وفيما هم في ذلك لاح لهم قادم من أسفل الوادي، فنظرت إحدى النساء إليه وقالت ضاحكة بلسان متلعثم: «هذا ضيف كريم!»
فنظرت أخرى نحوه وهمت قائمة وهي تقول: «ما رأيته مرة إلا كرهت الرجال.»
فجذبتها أخرى وهي ضاحكة في خلاعة وهي تقول: «لنسقينه معنا حتى يلين، فإنا لا نعرف الانهزام.»
وعلت الضحكات من الجميع حتى سمعها القادم وهو يعلو فوق جانب الوادي الصخري متكئا على رمحه، فرفع نحوهم رأسه فرآه الجالسون، وصاح همام في شيء من الفزع: جساس!
فضحك مهلهل وقال: إنك لترهبه رهبة لا تحمل مثلها لأبيك مرة.
فضحك النساء وقالت إحداهن: وحق مناة لو جاء مرة إلى هنا لأبلن لحيته من هذا الزق حتى تعود صفراء!
فصاح همام وهو يضحك: حسبك أيتها الخرقاء فلسنا عن الزق في غنى.
فعلا ضحك الجميع، وكان جساس قد بلغ موضعهم وحياهم في وجوم، فدعاه المهلهل إلى الجلوس وهو يضحك، ولكنه لم يجب إلى المرح، وجلس صامتا معبس الوجه، مضطرب الأنفاس، ومد رمحه أمامه وجعل يعبث فيه بإصبعه وكفيه، ويقرع به الصخر حينا، أو يرسم به على الأرض خطوطا، فقال له همام ضاحكا: هل لك في كأس يا جساس؟
فأطرق جساس وزادت عبسته عمقا وقال في صوت خافت: قد حرمتها على نفسي وأنت أولى بها.
فقال المهلهل يمازحه: لعل لك ثأرا فآليت لا تشرب حتى تدركه.
فقال جساس في مرارة: بل ينبغي للعبد ألا يطرب.
فلم يرتح أخوه همام إلى جوابه، وقال: ومن العبد ويحك؟ إنك جساس بن مرة.
فقال جساس مسرعا وقد نظر إلى أخيه حانقا: «وهل ينبغي لابن مرة إلا أن يكون عبدا؟»
ولم يرتح النساء إلى هذا الحديث، فقد كان منظر جساس لا يدع لهن جرأة عليه، فقمن واحدة بعد أخرى وتسللن وتركن المجلس الكريه.
وما سمع همام إجابة أخيه حتى انتفض كأن النار قد لذعته، وهم أن يرد على أخيه ردا قاسيا، لولا أنه رأى عبدا يقبل وهو يحمل على كتفه شيئا ضخما، فنظر إلى أخيه نظرة قاسية، ثم صرف عنه وجهه إلى العبد القادم، فإذا هو من خدم كليب يحمل على كتفه وعلا من الصيد.
فقام المهلهل نحوه مسرعا متعثرا يكاد ينكفئ، ومد ذراعيه نحو العبد وساعده على إنزال الوعل، وصاح وهو ممتلئ بالسرور: «هدية بطل حبيب، ربح كليب وحق أوال!»
فما كاد جساس يسمع صيحة المهلهل حتى وثب قائما، وركز رمحه في الأرض ووجهه ينم عن الغيظ والحقد، وقال يتمتم من بين أسنانه موجها الحديث إلى أخيه: تمتع بفضلات الكرام؟
ثم انصرف وهو يطعن الأرض بسن رمحه حتى غاب وراء الكثبان.
ووقف همام أخوه ينظر في أعقابه حتى غاب عنه وهو يزدرد غيظه، حتى لا يفسد على نفسه متعة اليوم. ثم ذهب نحو صديقه ليشاركه فيما هو فيه، فسمعه يسأل العبد: ومتى عاد كليب من صيده؟
فقال العبد في خضوع: حضر الساعة ومعه الصيد، فسأل عنك حتى علم بأنك خرجت منذ الصباح، فأعطاني هذا وأمرني أن ألتمسك حيث تكون لتذوق من صيده.
فصاح المهلهل في حماسة : «أنعم مساء يا كليب! إنك لتذكر على البعد زير النساء.»
ثم ضحك وشاركه همام في ضحكه قائلا: كليب للصيد والحرب، وأما المهلهل ...
ولم يتم همام قوله لأن المهلهل صاح ضاحكا يتم له كلمته: والمهلهل للمجون والشراب.
ثم علا ضحكهما وأقبلا على الوعل يساعدان العبد في سلخه وإعداده للطعام.
الفصل الرابع
لم يجد كليب استراحة إلى الإقامة في منازله، ولم يكن في ثورة نفسه يرتاح إلى النزهة في روضته، وعاف الطعام فكان لا يصيب منه إلا إذا ألحت عليه جليلة، ثم لا ينال منه إذا أكل إلا اليسير. وعاف الشراب ومجالسة الندمان، وخيل إليه أن الجو الذي حوله كله يأتمر به ويخادعه. فكان لا يجد راحة إلا في الفلوات، يضرب في كبدها ويغرق شجونه في السير الطويل والركوب العنيف، حتى تمنى لو صارت الحرب لكي يجد في ضجة معامعها ما يبعد عنه تلك الوساوس التي ساورته، وكان الصيد أحب ما يخرج إليه، فكانت مطاردة الوحش لا تدع فراغا لهواجس غضبه المكتوم، تلك الهواجس التي كانت تزدحم في صدره حتى يضيق به كلما خلا إلى نفسه. فكان يخرج إلى الصيد فيقضي فيه يوما أو أياما، ثم يرجع حينا قصيرا فلا يلبث إلا قليلا، ثم يعود إلى الفلوات يلتمس فيها التفريج عن قلبه المكروب.
قام يوما من تلك الأيام من نومه في بكرة الصباح، فأخذ قوسه وكنانة سهامه وهم بالخروج، وكانت امرأته جليلة تنظر إليه وعيناها مغرورقتان بالدمع، تتبع حركته في لهفة ووجل، وتسأل نفسها متى يعود السلام إلى قلب هذا الزوج الحبيب الذي قد تبدل فصار لا يطمئن ولا يستقر. وكانت آلامها تزيد كلما تذكرت أن سبب كل هذا الذي أصاب زوجها من الاضطراب، إنما هو أخوها الذي أثار عليه النفوس وتجرأ عليه في غيبته وأمام عينيه، ولم تستطع هي ولا أحد من أهلها أن يسلوا من قلبه الحقد الذي ملأه وملك عليه زمامه. ولقد طالما حدثته وتوسلت إليه وسمعت أمها تجادله وتحاول أن تثنيه عن عداوته، وسمعت أباه وهو يعنفه ويغلظ عليه القول، ولكن ذلك كله ذهب مع الريح وبقي جساس يغذي وساوسه وعداوته بكل ما استطاع أن يلتمسه من علل. فكان يرى في كل نظرة من نظرات كليب احتقارا، وفي كل كلمة من كلماته إهانة، وفي كل فعل من أفعاله آية جديدة على كبريائه وطغيانه. ولج به الخيال حتى حلت هذه الوساوس محل العقيدة لا يتزعزع عنها، ولا يقبل المجادلة فيها، فكان هذا أبعث على زيادة تألمها واشتداد حيرتها.
فلما رأت زوجها خارجا ولم يستقر في منزلها إلا بعض ليلة، برح بها الحزن ووقفت في سبيله تنظر إليه صامتة والدمع يجول في عينيها.
فنظر إليها كليب واهتز فؤاده إشفاقا، وقال لها وهو يحاول الابتسام: ما لي أراك مكتئبة يا جليلة؟
وكأن هذه الكلمة قد حلت عقدة حزنها فانفجرت تبكي، وألقت يديه على كتفيه وطوقت بهما عنقه، وأمالت رأسها إلى صدره وهي تنشج بالبكاء.
فوضع يده على رأسها ثم ضمها بعطف، وقال لها: «إنني لا أطيق بكاءك يا جليلة، فما الذي يحزنك؟»
فقالت له في بكائها: «لو كنت تتألم لحزني لما غبت عني كل تلك الأيام، إنك لم تأت من صيدك إلا الليلة وأراك تبكر بالخروج.»
فقال لها وهو يحاول الابتسام لتهدئتها: «أتحبين أن تكوني معي يا جليلة؟ لقد وددت لو ركبت الخيل ورميت بالقوس، فإنك خير من أحب صحبته.»
فقالت جليلة وفي صوتها رنين اللوم: «بل تريد أن تبعد عن منزلك وتتعمد أن تغيب عني.»
ثم نظرت في عينيه قائلة: «بحق مناة يا وائل ابق معي، بحق أوال لا تخرج اليوم عني.»
فقال كليب باسما: «كأنك تخشين علي إذا خرجت؟»
فأسرعت قائلة وقد خفضت رأسها: «بل أخشاك أنت. إنني لا أخشى عليك؛ فليس في قبائل ربيعة من يتجرأ عليك.»
فزم وائل شفتيه وصمت لحظة، ثم قال كأنه يحدث نفسه: «ليس في ربيعة من يتجرأ علي؟»
ثم تدارك كلمته فضحك وقال: «لا تخشي يا جليلة.»
فنظرت إلى وجهه ورفعت كفيها إلى عارضيه فضمتهما بينهما، وقالت بصوت متهدج: «لم لا تستقر في بيتك حينا؟ لم لا تبقى هنا كما كنت بين أهلك وقومك؟ إنك كل يوم تضرب في أفق جديد، وقد يحملك الصيد إلى مهالك البيد. لست آمن عليك أن تقتحم أرضا فيها عدو لك، ولا آمن أن تبدر منك بادرة فلا تملك نفسك.»
فقال وقد مد يده إلى رأسها، وجعل يمسح بكفه على شعرها: هدئي روعك ولا تطيعي جزعك.
ثم ضمها إلى صدره ضمة أودعها ما في قلبه من المحبة لها.
فقالت جليلة: وماذا عليك لو أقمت اليوم؟ إنك لم تذق راحة منذ أيام، وأولى لك لو بقيت اليوم في منزلك.
فقال وائل مترددا: وما الذي يحملك على هذا القول يا جليلة؟ لقد طالما خرجت وأقمت الأيام في صيدي ولم أر منك مثل هذا الحزن.
وسكت حينا ثم قال ضاحكا: لقد قلت لي هذه الليلة أنك كنت عند عرافة تغلب، وهذه تميمتها قد وضعتها بيدك حول عنقي، ولم أرد أن أعصيك حتى أزيل عنك خوفك، فهل هي التي أمرتك أن تقعديني؟
فحولت عينيها عنه ولم تجبه، فضمها إليه باسما وقال لها: إذن فهي التي حذرتك من خروجي، وأنت تريدينني على الاحتجاب حتى تأذن لي عرافتك.
فتبسمت جليلة ابتسامة ضئيلة، وأخفت وجهها في صدره وقالت: وماذا عليك لو أطعتني؟
فقال لها: أتحبين أن تتحدث الناس أنني خشيت أن أخرج؟ لقد تحدثت الأندية بما قال جساس عن طغياني وكبريائي، أتريدين أن تتحدث المجامع بأنني احتجبت خوفا حتى تأذن لي عرافة تغلب؟
فقالت جليلة في عناد وهي تنظر إليه: ألا تطيع رجائي؟ ألا تجيب توسلي؟ بحق حبي لك أطعني إذا لم تجد من حبك لي ما يحملك على البقاء. ابق اليوم إلى جانبي. لا يستطيع أحد أن يقول إنك خشيت الخروج. أنت فارس العرب وسيد ربيعة كلها، ولن يستطيع أحد أن يقول إنك تخشى.
فحول وائل عينيه عنها حتى لا يرى دمعها، وقال: «إن حبي لك يا جليلة لا يعدله عندي في الحياة حب، ولكنك لا ترضين أن يتحدث الناس عني حديث السخرية أو يظنوا بي الخوف، مريني أن أخرج إلى صيدي وأن أخرس لسان عدوي.»
وسكت لحظة ثم قال: «وإذا كنت تخشين أن يتعرض أخوك لي فإني أعدك أنني سأفسح له من صدري وأمد له من عفوي.»
ثم تخلص برفق من بين ذراعيها، واتجه نحو باب الخيمة، ووقفت جليلة تنظر إليه في صمت وقلبها يخفق وعيناها لا تزالان تدمعان.
ولما خرج كليب إلى باب المنزل لاح له يربوع يجري من جانب الوادي، فأسرع إلى قوسه فوضع فيها سهما فرمى اليربوع قبل أن يبلغ الجانب الآخر من الوادي، فصرعه في مكانه وقد أصاب السهم رأسه. وأراد عند ذلك أن يجعل وداعه مرحا، فنظر إلى زوجته وضحك ضحكة عالية وقال لها: «هذا عشاء عساف يا جليلة.»
فلم تملك جليلة إلا أن تبسمت وصاحت به: حرستك مناة!
ووقفت تنظر إليه وهو سائر وتتأمل قامته المعتدلة، ورأسه المرفوع وخطاه الواسعة، وكان كلبه عساف يسير كما اعتاد في آثاره يتشمم مواطئ أقدامه.
ولما بعد وأوغل بين الكثبان أسرعت جليلة خارجة إلى طرف الوادي، وسارت تهرول حتى دخلت في شعب من شعابه، وقصدت إلى بيت العرافة لتلتمس لزوجها عندها بركة إلهيها مناة وأوال.
وسار كليب حتى بلغ مرعى خيله، وكانت في واد مجاور، والعبيد مشتتون في أنحائه بعضهم يتعهد الأمهار، وبعضهم يعلم ما شب منها ويروضها، فنادى كليب أحدهم وأمره أن يأتي له بالرباب، وكانت أحب خيله إليه، فأسرع العبد إليها حتى قادها إليه، فأقبلت الفرس تسير إلى سيدها كأنها صديق يسعى إلى صديقه. حتى إذا قربت منه جعلت تحرك رأسها وهي تصهل كأنها تبدي سرورها بلقائه، ورفعت ذيلها، وضربت الأرض بحوافرها، فمسح كليب رأسها وعنقها وهو يبتسم لها، ثم وثب على ظهرها وركبها عريا، وقد أخذ كنانة سهامه في كتفه اليسرى وجعل القوس في كتفه اليمنى. ولما استقر في ركوبه مسح رقبة الفرس، وهمزها قائلا: «هيا يا رباب.»
وكأن الفرس قد فهمت خطابه، فانطلقت تعدو مثل وعل بري، وغابت براكبها وراء ثنية الوادي، وانطلق الكلب يجري في أثرها يقفز فوق الحجارة، ويحاول أن يلحق بها لاهثا.
وقضى كليب ذلك اليوم في الصيد حتى مالت الشمس نحو الغرب، ثم عاد وقد حمل زوجا من وعول عصماء تكاد الرباب تنوء تحتهما، وقد تدلى أحدهما عن يمين وآخر عن يسار، فلما بلغ مرعى خيوله في الوادي المجاور لمنازله أسرع إليه العبيد، فوثب عن فرسه وقال ينادي الغصين: أين المهلهل اليوم؟
فتردد العبد حينا ثم قال: لا أظنه اليوم في منازله.
فقال كليب: احمل إليه وعلا من هذين أينما كان يا غصين.
ثم سار نحو الروضة وقال وهو لا يلتفت: امسحوا الرباب ثم قربوها مني عند الروضة.
ومضى نحو روضته والعبيد يسارعون إلى الفرس ليزيلوا ما علق بها من أثر الدماء، وسار الكلب كعادته يتمسح في أذيال سيده ويشم آثاره، حتى بلغ كليب الروضة فسار بين شجرها الملتف، وأقعى الكلب عند المدخل ينظر فيما حوله وهو يلهث.
وقضى كليب هناك ساعة يسير بين الخمائل ويتأمل زهرها وأغصانها، حتى بلغ خميلة القنبرة، فوقف عندها هنيهة وسرت فيه هزة من الغضب، ولكنه مضى سريعا إلى خميلة أخرى حتى لا تلح عليه الذكرى.
ولم يلبث أن عاد إليه الهدوء وهو يسير فوق رمال ناعمة، جعد سطحها مر الريح، فبدا مثل الغدير قد انداحت عليه خطوط متراقصة من لمس النسيم، واطمأن إلى أن حماه ما زال عزيزا لم تستبحه اليوم قدم جريئة. فلما بلغ آخر الروضة واطمأن إلى سلامتها وأن امرأ لم يطأ بقدم عليها، عاد أدراجه خفيفا حتى صار عند مدخلها فرأى عبده وفرسه، فوثب على الرباب واتجه إلى منازله.
ولما خرج من الروضة رأى عن بعد شخصا يسير مسرعا وهو يخبط الأرض بزج رمحه، فتأمله فإذا هو جساس، وكان متجها نحو مراعي إبله في الوادي المجاور، فاعترته لمرآه قبضة لم يتمالك منها نفسه، ولكنه أخذ يصرف نفسه عنها، واستعاد صورة جليلة لعلها تسل من صدره تلك الموجدة التي كان يجاهد نفسه في مغالبتها. وفيما هو في ذلك سمع كلبه ينبح نباحا شديدا، فالتفت نحوه فإذا هو يعدو مسرعا نحو جساس في غضب يريد أن يهجم عليه فيعقره، فهمز فرسه لكي يدرك الكلب الغاضب وصاح به ليثنيه، ولكن الكلب اندفع في شراسة حتى وثب على جساس، فما أدركه حتى مزق ثوبه وأوشك أن ينهش لحمه، فوقف جساس والرمح في يده يسدده إلى الكلب، ولكنه عدل عن ذلك فجأة، واتجه نحو كليب وشخص إليه ببصره حينا لا يطرف ولا يتحرك، وخشع الكلب عندما أبصر سيده قريبا منه وسمع زجره. وكاد كليب ينطق بكلمة يعتذر بها إلى صهره الحانق، ولكن الكلمة وقفت على لسانه إذ سمع جساسا يقول له بصوت أجش: «هلم إذا شئت فأنت أولى بهذا!» ورفع رمحه كأنه يريد نزالا.
فغلى الدم في رأس كليب ووضع يده على مقبض سيفه، ولكنه تردد بعد قليل، ورفع يده ونظر إليه صامتا لحظة، ثم أدار عنه وجهه وقال في مرارة: لقد وعدت جليلة.
ثم انصرف متجها إلى منازله وهو لا يكاد يرى ما أمامه من شدة غضبه المكظوم، ووقف جساس لحظة ينظر في آثاره وهو مضطرب القلب يكاد يتمزق من الغيظ، وقد طعنته الكلمة التي سمعها في صميم فؤاده وزادت حقده التهابا.
ولما بلغ كليب ساحة بيته هب من فيها سراعا، ولكنه وثب عن فرسه وسار نحو خيمته مطرقا، وقامت جليلة مسرعة في لهفة تريد أن تبلغ باب الخيمة قبل أن يدخل، فقد كانت تريد أن تتريث به قليلا قبل الدخول حتى يطأ خطوطا رسمتها بدقيق عند بابها، ولكن كليبا سار مسرعا فلم تدركه جليلة حتى دخل إلى الخيمة بغير أن ينظر إليها، ووقفت جليلة مضطربة الصدر تنظر نحوه وشعور الخيبة يثور بأنفاسها، فلقد ذهبت في الصباح، بعد أن خرج زوجها، إلى عرافة تغلب، واستعانت بها أن تدبر لها من سحرها وكهانتها ما يمنع الشياطين عن ولوج بيتها، ويحفظ لها الزوج الحبيب من وثباتها. فصنعت لها العرافة دقيقا تخط به رسما عند مدخل البيت، لكي يطأه كليب إذا عاد داخلا، وأمرتها أن تذر منه في أركان البيت وتحت أوتاده، وأن تجعل منه تحت وسادتها وحول فراشها لعل زوجها يصيب بخفه أو بيده منه شيئا. فإذا فعل ذلك أمن المهالك، وكان محروسا أينما سار وحيثما استقر.
وشردت جليلة ببصرها نحو الخطوط المرسومة عند الباب لترى هل مسها زوجها بخفه، ولكنها رأت الخطوط سليمة كما رسمتها، فعادت ببصرها إلى كليب، وراعها ما على وجهه من علامات الغضب، ثم تنبهت إلى أنه دخل ولم يبسم لها ولم يأخذها بين ذراعيه كما عودها. فقالت له في صوت العتاب: عمت مساء يا ابن العم.
فقال كليب وهو يحاول الهدوء: عمت مساء أيتها الحبيبة!
ثم عاد إليها ففتح ذراعيه يريد أن يصرفها عن اضطرابه وغضبه، فألقت نفسها بين ذراعيه وقالت مترددة: لعلك قضيت يوما هنيئا في رياض الخزامى.
فقال وهو يلفها بيمناه ويشم شعرها بشغف: وأين الخزامى من عطرك؟
ثم أرسلها وحاول أن يصرف نظره عنها، فخنست في صدره وطوقته بذراعيها، وقالت بصوت خافت فيه رنة الحزن: حمدا لمناة إذ أراك سالما.
ثم أخذت تنشج في هدوء.
فقال يحاول صرفها عن حزنها: وكيف مضيت أنت اليوم يا جليلة؟ هل عاودك الدوار؟
وكانت جليلة حاملا يعتريها دوار الوحم بين حين وحين فيصيبها بضيق شديد.
فقالت جليلة: ما أبالي اليوم دوارا.
ثم تشبثت به واستمرت تقول: قل لي بحقي عندك. أغاضبت أحدا؟ هل تعرض لك جساس؟
فلم يستطع كليب أن يكذب في جوابه بعد أن ألقت إليه ذلك السؤال الصريح.
فقال: «ولكني وعدتك يا جليلة.»
ثم سار داخلا حتى بلغ صدر البيت، فجلس على فروة قد فرشت فيه، وذهبت جليلة إلى ناحية أخرى من الخيمة فحملت إناء مملوءا باللبن، وأتت به فقدمته إليه وهي صامتة، ثم جلست إلى جانبه تنظر إليه في شيء من الوجوم، فشرب كليب بعض اللبن ووضع الإناء إلى جانبه، وقرب جليلة إليه وجعل يحدثها بما كان من أخيها وهي تسمع مطرقة.
ولما انتهى من وصف ما حدث من جساس نظر إليها بابتسامة مرة وقال: «ولكني مع ذلك أعفو عنه لأنه أخوك يا جليلة.»
فقالت جليلة: «أنت سيد ربيعة كلها ولا يضرك نزق شاب مثله.»
فقال كليب: «سوف أصبر عليه حتى تغضبي لي.»
فقالت بصوت ثابت: «حاشاك أن يلحق بك ما يغضبني. ومن يظن أن في حلمك نقصا؟ بل من يستطيع أن يجعل جساسا لك قرينا؟»
قال كليب: «لقد عرفت العرب يا جليلة، إنهم لا يكبرون إلا العزيز، ولا يجلون إلا المنيع.»
فرأت جليلة صدق قوله، ولكنها آثرت أن تداري جزعها، وعزمت على أن تسعى مرة أخرى عند أخيها وأبيها لعلها تتدارك الخطب، وتتقي تلك الكارثة التي كان قلبها ينذر بها. وأخذت تلاطف كليبا وتسليه، واستطاعت بعد قليل ما تستطيعه الزوجة المحبة وحدها، فإذا الحديث يعود إلى عذوبته، وإذا زوجها الغاضب يرتد حبيبا رقيقا، يتحدث باسما إليها واصفا لها ما كان في يومه من مطاردة الوحش، وصيد الوعول من قلل الصخور، ويتغنى لها بمحاسن الرباب، وبسالة كلبه عساف وهو يمشط بأصابعه شعرها.
فقالت جليلة باسمة: «وأين ذهب الصيد؟»
فقال: «أهديت مهلهلا أخي وعلا ليكون طعاما له في شرابه، وأغلب ظني أنه اليوم لاه مع أخيك همام.»
وأراد أن يتم حديثه فقاطعته قائلة: «وأين إذن نصيبي؟»
فضحك وضمها إليه وقال: «أما يكفيك كليب أيتها الحبيبة؟»
فانحنت برأسها على صدره وهو لا يزال يعبث بشعرها الأسود، ثم همس في أذنها يقول: «ستجدين بعد حين عني سلوة يا جليلة.»
فقالت جليلة في شبه صيحة: «ومن ذا يسليني عنك؟»
فضحك وقال: «ولدك الذي سيقبل بعد حين.»
فقالت وهي تحرك رأسها على صدره: «لن يزيدني ولدي إلا حبا.»
ثم استسلما معا لأحلام المستقبل العذبة.
الفصل الخامس
أصبح الصباح فقام كليب كعادته مبكرا يريد الخروج، وهمت جليلة أن تعيد عليه رجاءها أن يبقى معها في البيت كما فعلت بالأمس، ولكنها أيقنت أنها لن تجد منه في يومها إلا مثل ما وجدت في أمسها، فما كان سيد ربيعة ليرضى أن يطيع امرأته ويبقى في بيته، خشية من قالة عرافة تخيفه من اعتداء عدوه؛ فليس في قبائل بكر أو تغلب من توقع عداوته الرعب في قلبه، وما كان ليتوارى من ذلك العدو لو رآه أمامه بسيفه أو برمحه.
فتركته يمضي بغير مراجعة، وجعلت تكاوح نفسها بما تحسه من الخوف، وتطمئنها بأنه قد لبس التميمة السحرية ونام على الوسادة التي ذرت من تحتها الدقيق الأبيض، ولئن فاته أن يمس الخطوط المرسومة عند مدخل البيت في المساء، لعله يصيب منه في خروجه ذلك الصباح، بل إنها شعرت بشيء من الهدوء والبشر عندما تذكرت أنها قدمت لمناة القرابين من لبن وتمر، ومن لحم وسمن، وقربت لأوال كبشا من غنمها، أهدت ذلك إلى العرافة لترفعه إلى إلهيها. وخرجت مع زوجها إلى الباب تحاول أن تجره إلى الرسم السحري لعله يمسه. فلما خرج استوقفته لتودعه ولكنه كان قد أسرع فلم يقف إلا بعد أن تعدى الخطوط المرسومة بالدقيق، واضطرت هي أن تذهب إليه لتضع رأسها بين ذراعيه الممدودتين، وكانت بادية الحيرة، تنم نظراتها عن أنها تريد أن تقول له قولا ولا تجرؤ عليه، ففطن كليب إلى ذلك وعزاه إلى ما في قلبها من القلق عليه، وأراد أن يذهب ذلك الاضطراب عنها فقال لها باسما وهو يضمها: «لا تراعي يا جليلة، فهذه هي تميمتك.» ثم أمسك بمثلث من الجلد تحت ثيابه، فتبسمت جليلة وسرى عنها بعض التسرية وقالت له: سر إلى صيدك في حراسة الأرباب.
فقال لها وهو يمسح بيده على رأسها: ليس اليوم للصيد يا جليلة، قد علمت أن الإبل لم تشرب منذ خمس.
فصاحت جليلة في فزع مكتوم: إذن فأنت اليوم في الحي.
فتبسم وقال وهو يرسلها في رفق: لا تراعي يا جليلة، فلن أتعرض لجساس، لن أتعرض له وإن تعرض هو لي.
وسار عنها حتى أخفته كثبان الوادي عن عينيها.
وقضت جليلة ذلك الصباح وهي مكتئبة، فلم تذهب إلى زيارة أحد من أهلها، وعاودها دوار الحمل فاستلقت على الفراش حتى يزول عنها، وبقيت كذلك ساعات وهي تفكر في أمر زوجها وأخيها. ورنت في أذنيها أقوال جساس وهي تحدثه في بيت أبيها، وتمثلت لها صورته وهو يحملق فيها ثائرا، واحتوشتها المخاوف، فكانت تارة تتصور زوجها وقد سطا بجساس، ثم تتصور أخاها وقد سطا بزوجها، ثم يعود إليها الهدوء حينا فتطمئن إلى حماية مناة وأوال، ثم ترتد إليها الوساوس فتهزها مرة أخرى وتضنيها.
وفيما هي كذلك إذ سمعت صارخا يتعالى من بعيد من ناحية خيام أخيها جساس، وكانت في الوادي المجاور، فذهب ظنها إلى أن مكروها قد أصاب شقيقها، فقامت مذعورة ونسيت دوارها، وحل الخوف على أخيها محل القلق على زوجها، وسارت تترنح حتى اعتلت جانب الوادي تتوقل في الرمال والصخور، ثم هبطت إلى منازل جساس فرأت في ساحتها جمعا، فأسرعت تهرول حتى اقتربت منه، فرأت سعد بن شميس الجرمي ضيف خالتها البسوس واقفا يتحدث إلى من حوله.
وصاحت في لهفة: «أين جساس؟»
فأشاروا لها نحوه، وكان واقفا عند خيمة خالته في جمع مضطرب هائج، قد قامت من وسطه امرأة تصيح صيحات متقطعة تعلو على اللغظ الذي حولها، فأسرعت جليلة نحوها وقد داخلها شيء من الاطمئنان منذ رأت أخاها حيالها، وشقت الصفوف حتى صارت إلى جوار المرأة فإذا هي خالتها البسوس، وقد شقت ثوبها وحسرت رأسها، وكانت تلطم وجهها في هياج يشبه الخبل، وتصيح: «وا ذلاه!» وكان جساس واقفا ينظر نحوها صامتا والغضب يتطاير من عينيه، فاقتربت جليلة من خالتها وحاولت أن تهدئ منها، فقالت لها: هوني عليك يا خالة. ماذا بك؟
فلم تلتفت المرأة إليها بل استمرت تصيح وتتكلم، وهي بين حين وحين تصرخ صرخة مفزعة ترن في الوادي قائلة: «وا ذلاه!» ورأتها تختلس النظرات إلى جساس وهي تصرخ كأنها توجه لسعات تأنيبها إليه، وتقول: ليتني لم أنزل سعدا في جواري، ليتني بعثته إلى جوار عزيز لا يناله الذل عنده. ليتني لم أر يوما هذه المنازل ولم تطأ قدماي هذه الساحة، فليس فيها من يحمي جاره ولا من يدفع عن ذماره.
وما زالت تهتف بمثل هذه الأقوال وتتجه بنظراتها إلى جساس، وهو صامت مطرق بوجه أصفر كأنه يقطر السم. ولم تستطع جليلة أن تهدئ من ثورتها ولا أن تسمعها لفظا من كلامها، فإنها كانت تهدر وتصرخ، لا ينقطع صوتها ولا تتردد الألفاظ على لسانها. فذهبت جليلة نحو جساس لتسأله، ولكنه صرف وجهه عنها، وقال في صوت الحانق كأنه يحدث نفسه: لو كانت خالتي في جوار عزيز لما هانت ولما هان ضيفها، ولو كانت نازلة عند آل أبيها منقذ لحماها بنو تميم قومها، ولكنها نزلت في جواري فكان الهوان ينتظرها، وهذه ناقة ضيفها ترتع والسهم في ضرعها.
وأشار بيده نحو ناقة تجري بين الكثبان وهي تضطرب وتصيح صياحا عاليا، وفي ضرعها سهم مرشوق يهتز بين رجليها.
وتحرك جساس عند ذلك يريد أن يسير، فأمسكت جليلة بذراعه وقالت بجفاء: ماذا تقول يا جساس؟ وما معنى كل هذا؟
فتملص جساس منها ونظر نحوها في قسوة وقال: لا أقول شيئا سوى أنني رجل ذليل الجار، ترمى ناقة ضيفي في ضرعها، ولا أملك أن أدفع عنها.
فلم ترد أن تطيل الحديث وقد أدركت ما كان. إنه - بغير شك - زوجها قد بر بيمينه، ورمى الناقة الغريبة في ضرعها عندما رآها ترد الماء مع إبل جساس.
وسمعت أخاها يقول وهو ينصرف عنها: لأجعلن للبسوس حديثا تسير به الركبان.
فأسرعت جليلة من ورائه حتى أدركته وأمسكت بذراعه وصاحت به: أي حديث تريد يا جساس؟
فضحك جساس ضحكة مرة وقال: «لأقتلن في ناقتي فحلا سوف يتحدث الناس عنه، سوف أقتل أسمن الفحول في ثأر ناقة ضيفي.»
ثم ضحك مقهقها ومضى مسرعا يقصد نحو سعد بن شميس.
فشرد خيال جليلة في كلمات أخيها، لقد عرفته لا ينطق لغوا، ولا يفوت أمرا عقد عليه نيته. فما ذلك الفحل الذي سيقتله؟ أي فحل هذا الذي يقتله جساس في الثأر لسراب، هذه الناقة العجفاء سراب؟ وكادت المخاوف تتجسم لها وتزيد من تهويل الخيال لولا أنها صرفتها وردتها، فما كان لجساس أن يقتل إلا فحلا سمينا من إبل زوجها.
وكان لزوجها فحل ليس في إبل العرب فحل مثله، هو الفحل «علال» الذي كانت تضرب الأمثال بعظم هامته وعلو قامته ، وقوة هديره وشدة وطأته. فذهب ظن جليلة إلى أن أخاها يريد أن يقتل هذا الفحل العزيز على زوجها، لكي يفجعه فيه كما فجع جاره في ناقته الهزيلة. وتبسمت عند ذلك بسمة سخرية من أخيها الذي يسف ويدفعه حنقه وحقده إلى مثل هذا الهراء.
ووقفت حينا تنظر في اشمئزاز إلى خالتها الشعثاء وهي تصرخ صراخها المنكر في ثيابها الممزقة، ثم عادت أدراجها نحو بيتها وهي تضحك ساخرة.
ولكن صرخات البسوس كانت تلاحقها وهي تنشد صائحة:
لعمري لو أصبحت في دار منقذ
لما ضيم سعد وهو جار لأبياتي
ولكنني أصبحت في دار غربة
متى يعد فيها الذئب يعدو على شاتي
فيا سعد لا تغرر بنفسك وارتحل
فإنك في قوم عن الجار أموات
وذهبت إلى فراشها عقب عودتها، فاستلقت فيه ضعيفة، ولا تزال الوساوس تعاودها حتى أقبل زوجها عند المساء، فدخل الخباء إليها قبل أن تنهض للقائه، وقد سري عنها عندما رأته باسما مرحا كثير الدعابة والفكاهة. فقضى معها صدر المساء في سمر ثم قاما معا فأصابا شيئا من الطعام، فإنها لم تذق منذ الصباح طعاما. ثم جلس إليها يحدثها ويضاحكها حتى زال عنها أثر الدوار الذي ألم بها، ولكنه لم يتكلم بشيء عن ناقة سعد بن شميس جار البسوس، ولم تفاتحه جليلة بالأمر خوف أن يعرف منها ما قاله جساس.
وجاء في جوف الليل طارق يزور كليبا، فانتحى به مكانا في جانب الخيمة، وجعل يساره ببعض الحديث، ثم مضى بعد حين وعاد كليب إلى مكانه مع زوجته، وأخذ يحدثها بذكر أيامه الماضية ومواقعه المشهورة مع قبائل اليمن منذ سنين، ولكنه لم يذكر لها كلمة عن خالتها البسوس، ولا عن الناقة سراب، ولا عن أخيها جساس.
وكانت جليلة منذ خرج الزائر تحب أن تستطلع من زوجها ما أسر الرجل إليه، فقد خشيت أن يمشي الوشاة بينه وبين أخيها بالكذب فيزداد ما بينهما من البغضاء، ولكنها لم تجد وسيلة لفتح أبواب الحديث الذي يؤدي إلى ذلك الاستطلاع، غير أن كليبا عرض في حديثه إلى ذكر فحله علال، وجعل يعدد محاسنه بين الإبل، فاستخلصت جليلة من ذلك أن الزائر قد حمل إليه ما قاله جساس، وتهديده بقتل أسمن الفحول في ثأر ناقة جاره، وتنفست الصعداء وشاركت زوجها في مرح الحديث.
الفصل السادس
ماتت «سراب» ناقة سعد بن شميس ضيف البسوس، وما كان موت ناقة ليقع على قوم مثل ما وقع موت هذه الناقة على بني مرة قوم جساس. لقد حاولوا جهد طاقتهم أن يترفقوا في نزع السهم من ضرعها، وأن يداووا جرحها، وكانوا يتلهفون على سلامتها كأنها مريض عزيز يحيط العواد بفراشه.
فلما ماتت اهتز لها الناس، وقضوا أياما في وجوم يتوجسون من خوف ما قد تطالعهم به الأماسي والأصباح، ولكن الأيام مرت أسابيع بعد أسابيع ولم يحدث حدث مما كانوا يخشون، فأخذت المخاوف تهدأ، وأخذ شبان تغلب يتفكهون فيما بينهم بتهديد جساس، فقد عرف العرب أن يثأروا لرجالهم بطلب الدماء، ولكن هذا جساس يثور لطلب دم فحول الإبل انتقاما للنياق! وكانوا يقولون إذا رأوا جساس بن مرة: «ما بال الركبان لا تسير بالحديث؟ ما بال هذا الثائر لا يزال يتربص بالفحول؟ هذا هو جساس يسكن ويركد ويخشع بعد أن أظهر له كليب بن ربيعة أنه يبر بيمينه ويحقق وعيده، ولا يبيح لأحد أن يستبيح حماه. وأي امرئ يكون جساس إذا قيس بسيد ربيعة المنيع؟ إنه تجرأ واعتدى وكان اعتداؤه بدعة، حتى إذا ما سطا كليب وأظهر له نواجذه غضبا خشع ولزم الحدود.»
وكان جساس في أثناء هذه الأيام يسمع الهمسات التي يفتكه بها شبان تغلب، فتقع في نفسه وقع السهام، وداخله من ذلك هم مضن حتى حال لونه، وصار لا يأنس إلى أهل ولا أصحاب، فما كان أحد يراه إلا في الأطراف البعيدة الموحشة سائرا وحده، فإذا أنس إلى أحد من الناس فما كان أنسه إلا إلى فتى صئيل من أهون بيوت بكر وأضعفها حولا، فتى ضعيف لم يشترك مرة فيما يشارك فيه الفتيان من لهو أو جد. ولم يعرف أحد له محلا في أمر تافه أو عظيم. كان هذا عمرو بن الحارث البكري غريم الكلب عساف الذي عرف الناس جميعا قصته.
كان عمرو هذا يحمل لكليب بن ربيعة صنفا من الكراهية عجيبا، كان لا يتحمل أن يسمع ذكر اسمه، فإذا سمعه اضطرب واختلج ومضى في سرعة تشبه الذعر، ولكنه كان لا ينطق بكلمة تنم عن كرهه، ولا يشارك في الهمسات التي يتهامس بها شبان بكر عن طغيانه وعسفه. وقد وقع في قلبه هذا الكره العجيب منذ يوم بعيد، إذ كان يسير على مقربة من روضة كليب بن ربيعة، فنبحه الكلب عساف الواقف عند مدخلها، وهجم عليه فمزق ثيابه وعضه في فخذه فكاد ينزع نساه، فجرى الفتى في ذعر خيفة أن يراه الأمير المخيف فيوقع به، كما كان يوقع بكل من تجرأ واقترب من موضع الكليب، وأحس من ذلك ذلة طعنت قلبه، ولكنه لم يستطع أن ينفس عنها بكلمة إلى حميم.
منذ ذلك الحين انقلب شعوره بالذلة حقدا يأكل القلب، وزادت كراهته عمقا وقوة على مر الأيام كلما تبين له عجزه عن الانتصاف من الأمير العنيف، وسماه الناس منذ ذلك اليوم غريم عساف سخرية وازدراء.
فلما وقع ما وقع بين جساس وكليب، ورأى ذلك الفتى ما آل إليه أمر جساس من مباعدة الناس وانطوائه على نفسه أنس إليه فأطلعه على خبيئة نفسه؛ فإنه إذا لم يستطع أن ينتقم بنفسه من الأمير العزيز قد يستطيع أن ينفس عن حقده إذا شاركه جساس بن مرة، فهو في منعة من أبيه شيخ شيبان وإخوته وأبناء إخوته، وكلهم من فرسان بكر الذين لا يسلمونه ولا يتخلون عنه، ولكنه كان يحاذر ويتوارى إذا أراد لقاء جساس خيفة أن يراه أحد من أتباع كليب فيشي به إليه؛ ولهذا كان لا يجتمع به إلا خلسة في ظلمة الليل في أمن من الأنظار، فإذا ألم به ساعة من نهار لم يبق معه إلا إذا اطمأن على أن العيون لا تراه، فإذا رأى أحدا قريبا ترك صاحبه وذهب مسرعا إلى بعض الشعاب.
ولما مضت الأيام بغير حدث جديد نسي الناس الأمر وحسبوه قد مضى، وظنوا أن جساسا قنع بعزلته وانصرف عما لا يستطيعه، واطمأنت تغلب على رئيسها وبطلها، واطمأنت بكر على أمنها وسلامتها، ولم يبق من ذكر الناقة إلا فكاهة عابرة تساق في مجالس السمر.
غير أن قلب جليلة كان دائم الترقب والحذر، فقد كانت تعرف أخاها وما كان يملأ قلبه من الغيظ الذي ظهر لها مما سمعته منه، فكانت لا تزال تخشى الغد وما يأتي به، وتحس في قرارة نفسها شعورا مبهما أن أخاها إنما كان ينتظر الفرصة السانحة والغرة الملائمة.
فكانت تجلس كل ليلة في خشوع قبل نومها، تناجي مناة وأوال وتدعوهما ليحفظا لها زوجها العزيز.
وخرج كليب في صباح يوم كعادته، وكان يقصد ذلك اليوم أن يتنزه عن الحي، فذهب إلى مرعى الخيل فركب فرسه الرباب، وكلبه يلهث في أثره، وسار سيرا هنيئا وقلبه ممتلئ بنشوة الصباح، وكان النسيم البارد يبعث في جسمه نشاطا وفي نفسه خفة وسرورا وتملكه الطرب إلى الحياة، فأخذ يغني بملء صدره، وبدت له الدنيا تفيض سعادة وجمالا، ولمح أثناء سيره شخصا جاثما عند ثنية من ثنايا الوادي. فلما وقع بصر الشخص عليه أسرع ذاهبا عن طريقه، فتبينه فإذا هو عمرو بن الحارث الفتى الضئيل الذي كان يراه أحيانا يجالس عبيده في مراعي الخيول، فلم يكترث به ولم يحفل بوقوفه عند الثنية، ولا بإسراعه هربا عند مقدمه، فلم يكن عجيبا أن يسرع مثله ليبعد عن الطريق التي يسلكها سيد ربيعة.
وذهب إلى الروضة فوقف عند مدخلها حينا يتأمل جمال منظرها، ويملأ عينيه من اخضرار أشجارها ونخيلها، ونضرة أعشابها وزهورها، وقد عقد الندى قلائد منثورة على أديم الأرض الزبرجدي، وانتظمت حباته في أسلاك نسج العنكبوت، فبدت كأنها درر تتلألأ في شعاع الشمس المشرقة. وفيما هو واقف بفرسه سمع كلبه ينبح نباحا يخالطه انزعاج، ثم سمع من خلفه وقع حوافر فرسين يقتربان، فتكبر أن ينظر وراءه لعلمه أن الراكبين إذا فطنا إلى وجوده أسرعا مبتعدين، وبقي واقفا ينظر أمامه ويتملى بحسن روضته، ولكن وقع الحوافر أسرع وتقدم في تجاهه، حتى صار على قيد خطوات منه، وعند ذلك سمع صوتا يناديه من ورائه: «يا كليب الرمح وراءك!»
فعرف أنه صوت جساس، ولكنه لم يلتفت إليه، وقال في لهجة ساخرة: «إذا صدقت فأقبل من أمامي.»
وما كاد كليب ينتهي من كلامه حتى أحس طعنة شديدة في ظهره، فارتمى عن فرسه ووقع على الأرض يتشحط في دمائه. ورنت في أذنيه صيحات عالية وحشية، ونزل جساس مسرعا عن فرسه واقترب منه مكشرا كابن آوي إذا وجد جيفة.
فنظر إليه كليب نظرة تمثل فيها معنى الاحتقار والحنق، واختلط فيها شعور الغيظ والضعف، وهم أن يقوم إليه فلم يقو على النهوض، ففحص الأرض بقدميه وتقلب في دمائه. وما هي إلا لحظة حتى لحقه دوار النزيف، واعترته غشية الموت.
وأقبل جساس ينزع الرمح من ظهره وهو يخضخضه في قسوة ويقول له: «ذق الموت أيها الطاغية.»
وفهق كليب فهقات ألم ثم غشي عليه، وكان يفيق من غشيته إفاقة قصيرة، فيحاول أن يتكلم فلا يستطيع إلا تمتمة خافتة لا تسمع ألفاظها، ثم اعتراه عطش شديد فقال وهو لا يدري من يخاطب: «أغثني بشربة ماء.»
ولكن جساسا نظر إليه ثم ضحك ضحكة مخيفة وقال في صرخة جشاء: «لا ابتل لك ريق أيها الطاغية!» ووقف يتأمل نزعه في سرور.
وكان عمرو بن الحارث في تلك الأثناء واقفا وراء جساس وهو يرتعد، وقد علته صفرة تشبه صفرة الموت، فلما سكن كليب أشار إليه جساس أن يتقدم، فأتى إليه مترددا، فطلب منه أن يساعده على تغطية القتيل بالحجارة حتى لا تأكله السباع.
ولما أتما وضع الحجارة عليه ركبا عائدين نحو مضارب الخيام، ولكن عمرو بن الحارث لم يجرؤ على أن يواجه قومه بخبر الجريمة، فركب فرسه لا يلوي على شيء حتى دخل بيته، فقبع فيه وهو يتفصد عرقا ويهذي هذيان المحموم، وركض جساس فرسه نحو خيمة أبيه مرة ليحمل إليه النبأ المشئوم، ولكنه لم يملك نفسه في ركوبه فبدت ساقاه عاريتين وهو لا يتنبه إليهما مما اعتراه من الذهول.
وكان الشيخ مرة جالسا في فناء بيته مع بعض بنيه وحفدته وبعض إخوته وأبناء عمومته، فرأى جساسا يقبل على فرسه راكضا عاري الركبتين، فالتفت إلى من حوله وقال في فزع: «ما رأيت جساسا يركب كما أراه اليوم.»
ثم صاح بابنه وقد صار على مسمع منه: «ما بك يا جساس؟» فقال جساس في صرخة مفزعة: «لقد طعنته طعنة يجتمع لها بنو وائل غدا رقصا.»
فقال مرة وقد قام مذعورا: «ومن قتلت ويلك؟»
فقال جساس في وحشية: «قتلت كليبا؟»
ثم رفع رمحه فوق رأسه وجعل يلوح به في الفضاء، وقال في ضحكة جنونية: «وأدركت ثأر البسوس.»
فصاح أبوه وهو يرفع يده كأنه يريد أن يضرب: أكليب في ثأر ناقة؟
فقال جساس وهو يلوح برمحه فوق رأسه: أنا ابن مرة. أنا جساس! لست ممن يخفر جواره.
فاتجه إليه الشيخ وأخذ حفنة من الرمل فرماه بها في وجهه، وقال صارخا: «ويل لك من مشئوم منكود! ماذا جلبت على قومك من الهلاك؟ اذهب عني فلست من أهلي، اذهب عني فلقد سللت نفسي من جريرتك!»
فرفع جساس رمحه وهزه، وجعل يرقص في سرجه كأنه يتغنى وهو يقول: «فزع الشيخ من خوف القتال!»
ثم نزل عن فرسه واقترب من أبيه قائلا: «دعني أيها الشيخ وحدي، لست أريد حمايتك، فقد عرفت أنك لا تجرؤ على الدفاع عني.»
فانتفض الشيخ في غضب، ونظر نحو ابنه المخبول لحظة وهو حائر، واستغلق عليه التفكير والقول فلم يجب بكلمة، بل وقف مشدوها ينظر إلى من حوله في اضطراب، وقد وقع رداؤه عن كتفيه وسقطت عصاه من يده المرتعدة، وصاح بعد حين بصوته المختنق: أين همام؟
وكان أبناؤه وحفدته قد هبوا جميعا، فوقفوا حوله في حيرة ودهشة، وتقدموا نحوه يرفع بعضهم الرداء ليغطي به كتفيه، ويمد آخر يده بالعصا إليه وهم سكوت من الجزع والحزن.
فصاح بهم الشيخ في حنق: أين همام؟ أهو اليوم في لهوه؟ أين هو؟ اذهبوا إليه فليجئ!
وكان في ثورة نفسه يتحرك في اضطراب، ويتردد متجها إلى جهة ثم يرتد عائدا إلى أخرى، ثم وقع نظره على شيخ كان جالسا في جواره، فرآه لا يتحرك في مكانه، فمد مرة إليه يديه كأنه يستنجد به في حيرته، فقام إليه الرجل متباطئا، ثم قبض على ذراعه وانتحى به جانبا، فلما صار الرجلان بحيث لا يسمع أحد حديثهما، قال مرة وهو لا يكاد يبين: «ماذا ترى يا أبا عامر؟»
فقال أبو عامر في هدوء: «أترى تقدر على إعادة كليب؟ أيعود الأموات إلى الحياة؟»
فنظر مرة إليه مبهوتا ولم ينطق بلفظ، فاستمر الشيخ في كلامه هادئا: «لقد كان ما كان، ولم يبق إلا النظر فيما يكون، وأنت إذا تماديت في لوم جساس خذلت بني بكر وبني شيبان إذا احتجت يوما إلى نصرتهم.»
فهدأ مرة قليلا وقال: «وماذا ترى يا أبا عامر فداؤك نفسي؟» قال أبو عامر: «إن تغلب لا بد غاضبون ولن يقعدوا عن طلب الثأر منك، وإن تبرأت من جريرة ولدك، فدع اللوم والجزع وأظهر للقوم شدة؛ فإن ذلك أدعى أن يقتصدوا في طلب الثأر، وذمر بني بكر وحرضهم على القيام لنصرة جساس.»
وسكن الرجل قليلا، ثم نظر إلى الشيخ مرة وقال له هامسا: «يا أبا همام. أما إنها لطعنة حر أبي! أما تذكر كيف كان كليب يسومنا الذل ونحن لا نستطيع أن نرفع نحوه عيوننا.»
فانتفض مرة، ومد يده مسرعا فأمسك بذراع أبي عامر، وتلفت حوله حذرا، ثم قال هامسا: «أو ترضى يا أبا عامر؟»
فقال الرجل: «أما وحق الآلهة جميعا، لقد وددت أن طعنة جساس قد مدت بها رماح بكر كلها. كان كليب طاغية يحمي المراعي ويمنع الماء أن نرده، ويبالغ في طغيانه، فيجعل كلبه يأمر سادتنا، وما كاد أحد يستطيع أن يرد عليه لفظا.»
فتنفس الشيخ مرة، وقال ولا يزال صوته هامسا: ولكنها الحرب يا أبا عامر! هي الحرب الطاحنة والبلاء العظيم.
فقال أبو عامر: أراك سكنت إلى الدعة يا أبا همام! وماذا تخشى من الحرب وأنت فارس بكر العتيق؟ هل تسلس ربيعة القياد لمن يكره حر الجلاد؟
فسكت الشيخ لحظة يفكر فيما يقوله صاحبه، واستمر أبو عامر فقال: وما فضل تغلب على بكر حتى يستأثروا دون بني عمهم بهذا الأمر؟ أقنعت يا مرة بأن تكون صهر العزيز؟ أقنعت يا شيخ بكر بما يلقيه إليك بنو أبيك من فضلات عزهم؟
فصر الشيخ على أضراسه، ثم سحب صاحبه من ذراعه وعاد نحو ولده، وكان أهدأ عند ذلك قولا.
ولما صار عند الجمع المنتظر، قال يخاطب ولده: «نحن للحرب يا ولدي! أنت منا ولن تسلمك بكر أبدا. لست أسلمك حتى أقتل دونك مع قومي، أو نشعلها نارا حامية على قوم الطاغية الظالم.»
فلما سمع بنو شيبان قول شيخهم مرة، اهتزوا وعادت إليهم نفوسهم، وتصايحوا: «يا لبكر! قتل الطاغية!»
واندفع جساس عند ذلك إلى أبيه فعانقه وقبل يديه، وقال في خضوع وصوته يكاد يختنق من التأثر: «لا عدمتك ناصرا يا أبي!»
ثم أخذ رمحه وهزه فوق رأسه وجعل يرقص رقصة التحدي والاعتداد بالنفس، ويتغنى بأناشيد يدعو فيها قومه إلى حرب الطغاة.
وصاح مرة في قومه وقد تبدلت لهجته، فقال: «يا بني شيبان سأضرب بأطراف العوالي، وأنفي الذل عن قومي وشرفي، فما كانت بكر لترضى أن يخفر جوارها أو تستكين لطاغية يذلها.»
فقال أبو عامر: «يا بني شيبان، من يكون للحرب إذا لم تكونوا فرسانها؟»
فتصاعدت صيحات من القوم «سنسل السيوف وندفع الظلم! لقد هلك الطاغية! سندفع البغي، ونحمي قومنا من العار.»
واختلى مرة وأبو عامر ساعة، ثم بعثا الرسل إلى قومهم في شعاب الأودية بالاستعداد للرحيل؛ فقد علما أنه لم يكن لشيبان بعد مقام في جوار تغلب، وأنهم لا بد لهم من انتظار الغد وما يأتي به من الأحداث.
الفصل السابع
كان همام بن مرة مختليا بصديقه المهلهل عدي بن ربيعة كعادتهما يشربان الخمر عند ربوتهما المختارة في عزلة من قومهما، وجلسا يلعبان النرد وهما يرشفان الشراب، وانتهى الدست، وكان المهلهل غالبا، فمد يده إلى كأسه مرتاحا ورفعها، فنظر فيها إلى الخمر المصفاة وجعل يشمها في شغف، ثم رفعها إلى فمه وهو يضحك ضحكة ماجنة، وقال ناظرا إلى صاحبه: أبشري يا أرامل ربيعة! إنها جزور من خير مال همام بن مرة.
فرفع همام كأسه ليشرب منها، وقال وهو يجيب بضحكة مثل ضحكة صاحبه: ما كانت أموال همام بن مرة لتباح إلا للأرامل.
ثم وضع الكأس وقال للمهلهل: دست آخر إذا شئت أن تطعم سائر أرامل تغلب.
وكان المهلهل قد شرب كأسه في جرعة، فقال وهو يمص شفتيه: مهلا يا عدي! فإن حظي اليوم غالب.
ووضع الكأس، وأخذ النرد في يده فضرب به ولعب لعبته، فإذا النرد يواتيه بلعبة بارعة، فصاح صيحة فرح ولعب اللعبة وهو يقول: لئن طال بنا المجلس لم أدع لك يا همام مالا.
فقال همام وهو يضحك: أرى الحظ يواتيك يا عدي منذ اليوم.
ثم رمى النرد فخرج له أخس وجوهه، فضحك الصاحبان معا، ورفعا كأسيهما فرشفا منهما، ثم لعب همام لعبته وقال: أرى السعد لك خدنا يا عدي، يواتيك في لعبك كما يواتيك في حبك، هل رضيت عنك سلمى؟
فرمى المهلهل النرد وهو يقول: ما أبالي إذا هي لم ترض عني.
وكانت رمية رابحة أخرى، فضحك الصاحبان ضحكة عالية، ولعب المهلهل لعبته وهو يقول: أما قلت لك إنني لن أدع لك مالا؟ أبشري يا أرامل بكر وتغلب بجزور أخرى من أموال همام!
واستمر الصاحبان يلعبان ويشربان حتى مالت الشمس للمغيب، وكان المهلهل في كل مرة غالبا حتى قمر صاحبه بعشر جزر من ماله ينحرها لأرامل بكر وتغلب، ثم جلسا يتناشدان آخر ما قيل في قبائل العرب من شعر، وجعل المهلهل ينشد صاحبه بعض ما قاله من الغزل في صويحباتهما اللاتي كن أحيانا يرضين عنهما ويشاركنهما مجالس المجون، وأحيانا يغاضبنهما ولا يحضرن مجلسهما. وفيما كان المهلهل ينشد بعض شعره رأى صاحبه يلتفت إلى ناحية من الوادي وينظر إليها في اهتمام. فقال ضاحكا: أراك فاترا عن سماع الشعر يا همام، كأن شعري لا يعجبك.
فلم يجبه همام إذ كان منصرفا بنظره إلى أسفل الوادي، فالتفت المهلهل ومد عنقه ليرى أين ينظر صاحبه، وقال له في مجون: هل أقبلت سلمى؟
ولكن هماما لم يجبه، بل قام من مجلسه وسار هابطا إلى الوادي الذي تحتهما، فأتبعه المهلهل ببصره فرأى جارية تشير إليه تستعجله أن يذهب إليها.
فقعد المهلهل ينتظر عودته وملأ لنفسه كأسا، وأخذ يتغنى وحده بشعره حتى رجع صاحبه وهو ممتقع اللون مضطرب، يكاد يتعثر في خطاه، فقال له المهلهل ضاحكا: ماذا حملت إليك الجارية؟
فقال همام مترددا وهو يحاول الابتسام: هات لي كأسا.
وكان الصديقان قد تعاهدا على الصدق لا ينكر أحدهما من صاحبه حديثا؛ فقال له المهلهل معاتبا: أراك تكتم عني سرك يا همام.
فقال همام مرتبكا: أما إنه لقول لا أصدقه.
فقال المهلهل ضاحكا: لعلها تنبئك بغدر سلمى؟
فقال همام في وجوم: لا أبالي اليوم سلمى!
وكان المهلهل سادرا في الخلاعة لا ينصرف عن أحاديث الخمر والنساء، فقال: إذن فهي مي أو أميمة.
فقال همام متكلفا الابتسام: أي زير أنت يا عدي!
فضحك المهلهل من قوله، فما كان أحب إليه أن يلقب بهذا اللفظ الماجن الذي سماه به أخوه الحبيب كليب بن ربيعة. لقد سماه زير النساء فتلقف الناس عنه ذلك الاسم، فما كانوا يذكرون المهلهل إلا به. ولكن المهلهل كان يحب أن يسمع اللقب الذي اختاره له الشقيق العزيز على ما به من تعنيف ولوم. وماذا عليه أن يسميه الناس زيرا؟ فهذا أعذر له أن يسدر في غوايته، وأحرى بأن يحمل الناس على تركه لنسائه وخمره، ولا بأس عليه منه إذا كان هو يفوز باللذات، فقال لصاحبه: دع ذكر هذا، فأنت أولى بهذا الاسم مني. ولكن ماذا قالت لك الجارية؟
فلم يكن لهمام بد من أن يصدق صاحبه، فقال جادا: لقد زعمت الجارية أن جساسا قتل كليبا.
فضحك المهلهل ضحكة عالية، وقال وهو يملأ كأسين: أما إنها لفكاهة من جارية لكاع، إن جساسا لا يقوى على أن ينظر إلى ظهر كليب بن ربيعة. خذ هذه الكأس.
فتناول همام الكأس وشرب منها قليلا، ونظر إلى صديقه وهو يرفع الكأس ويتجرعها، وشعر كأن حملا ثقيلا ينزاح عن عاتقه، وقال له مداعبا: أترى لو صدقت الجارية، أكنت ثائرا لأخيك؟
فتجهم وجه المهلهل وقال متلعثما: وحق مناة ليس له من كفء إلا أنت.
فقال همام: أتحب أن تراني قتيلا يا عدي؟
فتقبضت عضلات وجه المهلهل وبرقت عيناه، وهز رأسه في عنف وقال: والله ما أدري أيكما أحب إلي يا همام. دع هذا الحديث فلست أحبه.
فتنفس همام في حزن، ونظر إلى صاحبه وقد مال رأسه واختلت حركته، حتى صار لا يستوي من السكر، وكان الليل قد أقبل فنظر همام حوله وقال: أحس التعب يا عدي والليلة مظلمة.
فقام المهلهل وهو يترنح، وأسنده صاحبه من ذراعه حتى ركب فرسه عائدا إلى منزله، ومضى همام معه حتى بلغ ثنية الوادي التي تفترق عندها الطريق إلى منزليهما، فودعه وأسرع إلى مضارب قومه، فرآها خالية وقد ارتحلوا عنها؛ فهمز جواده وانطلق في أثر قومه وهو يلتفت بين حين وحين إلى ورائه في الظلام، لعله يرى ضوء نار يملأ به عينيه من الديار العزيزة التي شهدت لذاته ووثبات لهوه مع صديقه الخليل عدي بن ربيعة.
ولما بلغ المهلهل منازله طالعته ضجة من قبلها؛ فدار به رأسه المخمور وخيل إليه أن الضباب يغطي ناظريه، ثم رأى أمامه النساء يندبن ويبكين ويشققن ملابسهن ويلطمن خدودهن، فعجب وحار كأنه في حلم مزعج، ونزل عن فرسه يسألهن عما أصابهن في لسان معوج، فكان لا يسمع إلا صياحا أو سبابا، ثم رأى الرجال يضطربون في الظلام ويتنادون في فزع، وقد أقبل بعضهم على سلاحه يكسره، وبعضهم على خيله يعقرها، فكان ذلك كله عجبا من أمرهم لم يفهم منه شيئا إلا أن يكون الخبل قد أصابهم. ومرت في خياله الفاتر صورة كليب، وتذكر قول همام إذ قال له حديث الجارية، وساءل نفسه: أيكون جساس قد قتل كليبا؟ أليس هذا الذي يراه بعض أحلام الخمر ووساوسها؟
واقترب من الناس يريد أن يسألهم، فجعلوا ينظرون إليه في ازدراء ثم يصرفون عنه وجوههم، وسمع قائلا منهم يقول: لم يبق لنا إلا هذا السكير الماجن، الذي لا يكاد يفيق.
ومضى في سيره حتى بلغ ساحة بيته، فصاح بمن هناك وقد عاد إليه بعض وعيه: ما بالكم تكسرون السلاح؟
فأسرعت إليه امرأته وصاحت به وهي حانقة: قتلوا كليبا وأنت منصرف إلى شرابك ولهوك!
فنظر إليها المهلهل في غضب، وقد وخزته كلماتها وثار الدم في رأسه حتى ذهب عنه أثر الخمر، وقال لامرأته: ماذا تقولين يا امرأة؟
ورفع رأسه واعتدل في وقفته، وتغير لون وجهه فصاح به القوم في غضب: قتل المنيع العزيز، فكن حيث شئت. كن حيث شئت، فما نراك تبالي.
فاربد وجه المهلهل ونظر إلى قومه غاضبا، واكتسى مظهره عزما لم يعهده فيه أحد، وقال كأنه يفيق من حلم: «قتل كليب؟»
ثم ذهب إلى جانب من الفناء، فجلس على صخرة ووضع ذقنه على يده، وجعل ينظر إلى القوم حينا، وهم في شغل عنه بما هم فيه من اضطراب وجزع، يكسرون السيوف والرماح، ويتصايحون لكي يبعثوا إلى الخيل ينحرونها؛ فاشتعل قلبه غضبا، ودبت فيه ثورة عجيبة، فوثب من مقعده، وصاح صيحة ترددت أصداؤها في الليل المظلم: أيها الحمقى! ماذا تفعلون؟
فنظر إليه القوم في عجب، ورأوه يتجه إليهم عنيفا، فوقفوا ينظرون ماذا يريد منهم ذلك السكير. ووقف رافعا رأسه وعيناه تلمعان، وضوء النيران الملتهبة تتلاعب على وجهه المربد، وقال لهم بصوت أجش: إنكم تسبونني منذ الليلة، وما أنتم إلا كبعض النساء، أراكم تكسرون السلاح وتقتلون الخيل، وأنتم الآن أحوج ما تكونون إليها.
فنظر إليه الرجال لحظة لا يصدقون آذانهم إذ يسمعون. أهذا المهلهل الذي يكلمهم؟ واستمر المهلهل فقال: دعوا الحزن للنساء، دعوهن يشققن الثياب ويصبغن الوجوه، ويصرخن ويبكين. أما أنتم فاتخذوا السيوف وأعدوا الخيل وقوموا الرماح. دونكم الحرب فاستعدوا لحرب ضروس.
ثم ترك الناس وقوفا، وذهب عنهم صامتا مطرقا، يعلوه شيء من الحنق وشيء من الخزي، حتى إذا ما صار في بيته ارتمى في ركن وجعل يبكي وحده، ويتمثل ما هو فاعل إذا أصبح الصباح.
واجتمع نساء تغلب في تلك الليلة للنواح في بيت سيد ربيعة، وعلا صراخهن حتى ترددت أصداؤه في جوانب الشعاب.
وكان في وسطهن امرأة طويلة القامة سمراء اللون، هيفاء دعجاء، قد شقت ثيابها، ونشرت شعرها الأسود الطويل، وعفرت وجهها الجميل، وكانت تختلج وتهتز من شدة البكاء، وكان النساء يشرن إليها ويتهامسن بين صرخاتهن: هذه جليلة ابنة مرة سبب البلاء، إنما هو أخوها جساس وقومها الجناة.
وهاجت إحداهن فصاحت في عويلها وهي تنظر نحوها: ما مقام الأعداء بين ظهرانينا؟
فنظرت جليلة بعينيها المحمرتين، وقالت بين شهقاتها: إنما أنا المفجوعة المكلومة.
فصاحت بها أخرى في مرارة: إنما أنت وقومك سبب البلية، أخرجي عنا أيتها البكرية.
ثم تعالى الصراخ والسباب من جوانب الفناء.
فقالت جليلة وهي تنشج بالبكاء: علم الله ما أقاسي وما ألاقي! إنما المصاب مصابي.
فعلت الضجة مرة أخرى وانهالت عليها قذائف السباب: إنما أنت شامتة! إنما أنت عدوة! ابعدي عن منازلنا! لا بقيت بيننا.
فقامت جليلة غضبى، وقالت وهي لا تزال تختلج وتضطرب: كيف أبعد عن مناحة زوجي؟ إنني صاحبته، وأنا التي فجعت فيه، وهذا الجنين الذي في أحشائي يتفجع معي في مصابه. ولئن كان مصابكم واحدا فمصابي مضاعف: هذا زوجي قتل، وهذا أخي مطلوب بدمه؛ فنواحكن مصانعة ومجاملة ونواحي تفجع وتوجع. بعض نفسي يبكي على بعض، وبعض دمي يثور ببعض، ولو شئت لسرت مع قومي، ولكني آثرت البقاء في تغلب، حنينا إلى قوم صاحبي، حتى لا يولد هذا الجنين بين قومي فيكون فيهم غريبا عدوا.
فضج النساء وزاد اضطرابهن، وجعلن يشتمن جليلة ويطردنها، وأقبل بعضهن نحوها يردن إخراجها دفعا والإيقاع بها؛ فلم تستطع إلا أن تخرج، ولا تكاد تنظر طريقها وقد حبس الحزن لسانها. وأسرع عبدها فأعد لها مطية، وسارت حتى ركبت في طريقها، وانطلقت تتبع آثار قومها وهي تقول: «واحر قلباه! قتل الحبيب، وقاتله أخي! تعسا لمناة وويلا لأوال.»
ثم جعلت تنشد:
فعل جساس على وجدي به
قاطع ظهري ومدن أجلي
يا قتيلا قوض الدهر به
سقف بيتي جميعا من عل
هدم البيت الذي استحدثته
وانثنى في هدم بيتي الأول
خصني قتل كليب بلظى
من ورائي ولظى مستقبل
يشتفي المدرك بالثأر وفي
دركي ثأري ثكل المثكل
وكاد الحزن يذهب عنها لبها، وهي ثائرة وحدها تطلب آثار قومها، ولا يصاحبها في ظلام الليل إلا عبدها يقود ناقتها.
وأصبح الصباح عليها وقد أدركت القوم، وسارت معهم في غمرة من حزنها، وحث الركب المطي يطلبون أرض اليمن ليمتنعوا بها، ويعتصموا في جبالها من تغلب قوم كليب.
الفصل الثامن
اجتمع بنو تغلب في ناديهم، وقد أقبل الليل وأخذ البرد يشتد ويقسو. وكانت النيران الموقدة في وسط الفضاء ترسل ضوءها على الوجوه، وتتلاعب فوقها في خفوت، وتمتزج بالظلال فتبدو الملامح فيها غامضة مبهمة. وكانت ظلال الأشخاص تتراقص على جوانب الكثبان المحيطة بالفضاء، كأنها أشباح متحركة من الجان، تخلع على المجتمع رهبة شاملة.
وكان القوم في اجتماعهم قلقين لا يستقر بهم حديث ولا ينظمهم رأي، بل كانوا متفرقين في حلقات متباعدة، وقد مالت كل جماعة إلى ناحية تتناجى في حيرة وحنق، وتهب فيهم بين حين وآخر عاصفة من الهياج، فيعلو ضجيجهم ويحتدم جدلهم ثم يعودون بعد حين إلى التناجي القلق الحانق والمحاورة المضطربة.
كانوا في ذلك الاجتماع ينتظرون عودة رسلهم الذين ذهبوا وراء بني عمهم بني بكر ليفاوضوهم في تدارك الأمر ومداواة الجرح الذي أصابهم بقتل كليب، قبل أن يسيروا إليهم بطلب الثأر. وكان يظهر من حديثهم المضطرب أنهم لم يكونوا متفقين على رأي، ولا متحدين في غاية؛ فكانت فيهم طائفة غير راضية بالانتظار تنكر إرسال الوفد لمفاوضة العدو، وتأبى إلا المبادرة إلى القتال في طلب الثأر، لا ترضى بهوادة ولا مسالمة. على حين كانت طائفة أخرى تشفق من الحرب وويلاتها، وتنادي بالأناة والصبر مؤملة أن ينزل بنو عمهم البكريون على حكم العدل والإنصاف، فيجيبوا إلى ترضية شريفة تطمئن لها نفوسهم، وتقنع بها كرامتهم.
وكانت هذه الطائفة تظهر في جدالها الحانق أنها لا تريد الحرب أنفة من زعامة ذلك السكير الماجن، عدي بن ربيعة «المهلهل»، ذلك الذي عرفته تغلب كلها، لا يقطع يومه إلا على نوم من أثر الخمر والنساء، ولا يقطع ليله إلا على مجلس للخمر والنساء. فهل كان مثل هذا الخليع ليخلف كليبا على زعامتهم؟ وهل كانوا ليلقوا قيادهم إلى ذلك الشاب المعجب بجماله، التياه في نعيمه، الذي لا يحسن إلا المناغاة والتغني، والذي جعل وكده المنادمة والغزل؟ هل كانوا ليأتمنوا مثل ذلك الشاب الداعر على عز تغلب ومجدها؟
وكان في صدر النادي فارس تغلب أبو نويرة، يجلس محتبيا بسيفه، وتكاد لحيته السوداء تلمس ركبتيه وهو مطرق لا يلتفت إلى من كانوا حوله، وكان ضوء النار الملتهبة يقع على وجهه فتظهر فيه أخاديده وندوبه سوداء تكاد تملأ صفحته، وكان يسمع ما يتقاذف به الشبان والشيوخ من عبارات المجادلة، وهو يتغطرش فلا يدخل في شيء من أحاديثهم الحانقة.
كان أبو نويرة يفكر عند ذلك حزينا فيما تئول إليه أمور تغلب إذا هي تعجلت الحرب، فإنه لم يكن إلا أبا عشيرة بين العشائر، لا يستطيع أن يقود عشيرته إلى الحرب وحدها. وقد علم أن تغلب قد انفرط عقدها فلا تستطيع أن تجتمع على واحد من فرسانها، ولم يجد حوله من شبان تغلب أو كهولها من يستطيع أن يلم الشمل حوله، ويقود قومه جميعا إلى النصر.
كانت تغلب قد استنامت إلى بطولة أميرها وسيدها كليب بن ربيعة الذي فجعوا فيه منذ يوم، وكان كليب مستأثرا بالزعامة والقيادة والبطولة، فلم يدع لغيره مجالا إلى جواره. كانت تغلب كلها رعية له تطيعه إذا أمر، وتسير وراءه إذا سار، وتتجه معه حيثما أشار، فلم ينبغ فيهم من تعود الأمر والقيادة، ولم يعتد الناس أن يلتفوا حول أحد من رؤسائهم، إذ كان كليب لا يدع لأحد منهم رياسة ولا سلطانا ولا جاها. كان يستأثر بالسلطان كله في غيرة؛ فلا يرى أحدا من فرسان قومه يرفع رأسه إلى زعامة حتى يبطش به ويذله وينزع منه كل مطمع فيها. فلم يكن في عشيرة كليب من هو جدير بأن يقود الناس في تلك الأزمة الشديدة. لم يكن له ولد، ولم يكن في إخوته من يستطيع أن يسد مسده، فهذا هو أخوه عدي المهلهل لا يقطع أيامه ولياليه إلا على مواعيد في مجالس اللهو والشراب. وماذا يستطيع مثل المهلهل الماجن أن يصنع إذا الحرب شمرت عن ساقها، وفتحت أفواه الموت لفرسانها؟
كان أبو نويرة يفكر حزينا في مصير تغلب. وما كان له أن يسارع إلى حرب لم يكن قومه مستعدين لها، وكان يرى أن الحرب إذا وقعت لم تلبث أن تكشف عن تغلب سر العز الزائف الذي أسبله عليها بطلها. كان الحزن يأخذ على أبي نويرة أسباب التفكير وهو جالس في صدر النادي ينتظر عودة الرسل الذين ذهبوا لمفاوضة بني بكر في مصالحة بني عمهم وإرضائهم في مقتل سيدهم.
وكان كلما سمع ضجة الشبان وسبابهم وثورة مجادلتهم تحرك في موضعه متألما، يحاذر أن ينطق بحرف خوف أن تنفجر حفيظتهم فيجرفهم المهلهل معه إلى الحرب في رعونة، وهم لا يدركون ما يدركه ولا يعرفون ما يعرفه. لقد عركته الحوادث في حياته وحلب الدهر أشطره، وجرب من الأمور ما لم يجرب هؤلاء الأغرار - ذلك المهلهل الماجن وشبانه الذين معه - هؤلاء الألى يتحرقون إلى خوض الحرب قبل استعار لهيبها، حتى إذا ما أوقدوا نيرانها كانوا أسرع الناس إلى الجزع منها.
ولكنه لم يقدر على أن يبقى على صمته طويلا؛ فإن الجدال بين الشبان والشيوخ قد حمي وأوشك أن يصير إلى نضال وعراك. ولم يطق المهلهل البقاء في النادي، فخرج إلى الفضاء ينتظر عودة الرسل في قلق، وتبعه بعض أصحابه من شباب القوم وهم يسخطون ويسخرون. ثم نهض شاب يريد أن يتبع المهلهل فقال في تهكم: ماذا تنظرون هنا أيها القوم؟ إن الوفد الذي بعثناه لكي يركع عند قدمي بكر سائلا أن يمنوا علينا بالصلح لم يعد إلينا منذ ثلاث، فلنذهب إلى بيوتنا، فما نحن بأهل للحروب؟
فتحرك أبو نويرة قلقا، وحاول أن يمسك عن الجواب، ولكن قام بعده شبان يريدون الخروج وراء المهلهل، وأوشك الجمع أن ينفض من حول أبي نويرة.
فأشار إليهم بيده أن يتريثوا، ثم قام يتكلم فقال: لقد علمتم يا معشر تغلب أنني أبو نويرة، أول فرسانكم عند اللقاء، وآخرهم عند اقتسام الفيء. وعلمتم أنني كنت عند كليب بن ربيعة في أكرم مكان، فما أصيب فيه بعد المهلهل وقومه أحد مثل مصابي. ولو كان أحد من تغلب يتحرق قلبه على طلب الثأر، لكنت أنا ذلك الرجل قبل سواي، ولكن الحرب تحطم وتفتك؛ فإذا هي كشرت عن أنيابها وشمرت عن ساقها جمحت فلن يملك أحد أن يكبحها. ولن يستطيعها إلا من عركها وصبر على حد نابها. وإني أشفق عليكم منها إذا أنتم سارعتم إليها وراء هذا الفتى الذي عرفتم أمره؛ فهو لن يلبث أن يحن إلى مجونه ويذوب شوقا إلى خمره ونسائه. والحرب لا يقوى عليها مثل ذلك السادر في لهوه، الذي لا يكاد يفيق من شرابه.
فتعالت من جوانب الوادي همهمة وتجاوبت الأصوات فيها بالجدال العنيف والسباب، وهم بعض الناس إلى بعض بالسيوف.
فصاح أبو نويرة غاضبا: على رسلكم أيها الفتيان! فما هذه إلا طلائع الخذلان.
فقام شاب من أقصى النادي يهز رمحه في يده وصاح: لقد حملتنا على الدنية، ورضيت لقومك الذلة. هذه بكر ترفع ذيلها وتتمنع. وهل كان جديرا بنا أن نأخذهم بغير السيف؟ ما هذه الثرثرة التي لا تزيدنا إلا ذلا. أما إننا سنصير في العرب مثلة أو أحدوثة؛ إذ وترنا قوم في عزيزنا فبعثنا وراءهم نسألهم أن يمنوا بالسلام علينا. أي عار جلبتم على قومكم يا شيوخ تغلب!
وعلا الضجيج مرة أخرى، وتزايدت ألفاظ السباب.
فقام أبو نويرة وأشار بيده حتى سكت الناس، فقال في صوت هادئ تشبه نغمته أن تكون اعتذارا: لقد كان حقا علينا أن نعذر إلى بني عمنا قبل أن نبدأ حربهم. ولقد عرفتم أن العرب لا ينصرون الظالم، ولا يؤازرون من اعتدى. لقد قتل جساس كليبا، وذهب إلى الناس يزعم أنه ما ثار عليه إلا لطغيانه وما قتله إلا لظلمه . وذهب الناس عنه بين مصدق ومكذب. فإذا نحن عجلنا إلى الحرب بادئ البدء لم نذهب إلا بكلمة مصدوعة ورأي متفرق. فإذا كنا قد آثرنا أن نرسل إليهم رسلنا، فما هذا إلا لكي نعذر إليهم، فنكون بهذا قد قمنا بما يجب علينا من رعاية الحرمة، وحفظ الحق الذي يوجبه الرحم بيننا وبين بني عمنا. فإذا هم أبوا أن ينزلوا على حكم الحق ويرضونا بالقصاص من الكفء؛ إذا هم أبوا أن يسلموا إلينا جساسا نقتله في ثأرنا، سرنا إليهم وكنا عند ذلك يدا واحدة، وسنرى قبائل العرب عند ذلك من ورائنا تشد أزرنا، وتقوي عضدنا. ولعل قبائل بكر لا تجمع على الظلم، فيقعد بعضها عن حربنا، فإذا لاقتنا شيبان وحدها بعد هذا، كان الحق يخذلها، ولم تجد من ورائها من العرب من ينصرها.
ولما انتهى من مقاله ارتفعت الأنظار إليه شاخصة لا تطرف، كأنها تحملق فيما وراء الأفق البعيد تستشف ما وراءه. وبقي أبو نويرة صامتا يدير بصره في القوم لحظة، ثم هم أن يعود إلى القول ليتم ما بدأه من الأثر، فإذا صوت يعلو من ناقة تحن وترغو في أنين متقطع عميق، تحمله الريح في الليل الساكن من بعيد؛ فسكت أبو نويرة وأصغى إلى الصوت، وسكن الجمع في مجالسه ينصت، فقد عرفوا أن تلك ناقة الحارث بن حي أحد الرسل الموفدين إلى بكر، وكانت الناقة والدة في الحي تركت فصيلها، فما كادت تعود وتقترب من موضعه وتشم رائحته حتى ضجت له بالحنين.
ومضى بعد ذلك حين خرج فيه جماعة يتلقون الوفد، وبقي آخرون ينتظرون حتى أقبل الرسل وأناخوا إبلهم وأتوا إلى النادي، يحيط بهم جماعة الشبان ومعهم المهلهل مشرق الوجه متهللا.
ولما سلم القوم واطمأنوا في مجالسهم حول النار بين الكثبان قام أبو نويرة ببطء وهدوء، وقال يخاطب كبير الوفد الحارث بن حي: إذا صدق الظن وأصاب الحس؛ فقد عدتم من بكر بسيوف مصلتة ورماح مشرعة.
وساد الصمت لحظة، ثم رفع الحارث رأسه وتكلم بصوته العميق وهو مطرق فقال: سيعرفون غدا أنهم ظلموا وما عدلوا، وستقيم تغلب حقها على حد السيف، وتنال منهم بالقسر ما أبوا بالسلام.
فتحرك الشبان في مجالسهم قلقين، وهموا بالوثوب غاضبين، فقال أبو نويرة يخاطب الحارث: ألم تنصف بني عمك يا أبا حي؟
فقال الحارث في تردد: لقد أنصفنا بني عمنا فما أنصفوا، طلبنا إليهم أن يسلموا إلينا جساسا نقتله في كليب فنحقن بذلك بيننا الدماء، فقال أبوه مرة: «إنه ركب فرسه وضرب في الأرض وهم لا يدرون أي البلاد انطوت عليه.» فطلبنا إليهم أن يسلموا لنا أخاه هماما، فهو كفء كريم نقتله بقتيلنا، فقال مرة ساخرا: «إن هماما أبو عشيرة وعم عشيرة وأخو عشيرة، كلهم بطل فارس، ولن يسلموه لو أردت أن أدفعه إليكم لتقتلوه بجريرة غيره.» فقلنا للشيخ: «إذن فقد رضينا بك أنت لتكون مطفئا لثأرنا.» فقال الشيخ في عناد: «والله لا أسلم نفسي قبل أن أجول في الحرب جولة وأموت مناضلا.» ثم قال في كبرياء وغلظة: «ولكني أعرض عليكم غير هذا، أعطيكم ألف ناقة سود المقل لتكون دية كريمة لقتيلكم!»
وسكت الحارث لحظة وقد بدا على وجهه الغيظ، وانفجر الجلوس في غضبة واحدة، فلم يستقر أحد منهم جالسا، ولم يبق فيهم أحد صامتا.
وصاح المهلهل وقد كان إلى ذلك الوقت ساكنا: «وا كليباه! تقتل وأنت العزيز في ثأر ناقة عجفاء، ثم لا يبذل في دمك الغالي سوى الجزر. وا كليباه! هل كنت لتباع بالنياق ليشرب القوم ثمنك لبنا؟»
وعلت على أثر قوله ضجة تصم الآذان. وتصايح الشبان من جوانب النادي: «ويل لبكر! الحرب والفناء لبكر!»
ثم نظروا إلى المهلهل وقد علا وجهه بريق الانتصار، فقام ليتكلم، واتجهت إليه الأنظار فقال: «لقد علمتم أن كليبا كان لكم عزا ومجدا، به سدنا وبسيفه انتصرنا وعلت كلمتنا، ولقد أكل الحسد قلوب أعدائكم فلم يجدوا لكم رزءا أشد عليكم من فقد كليب، ولم يعرفوا جرحا أوجع فيكم من طعنة فؤاده، فهم إذا أصابوه لم يقصدوا إلا مجدكم، ولم يطمعوا من وراء مقتله إلا أن يسودوكم. فوحق مناة وأوال ، وحق السيف والرمح، وحق المصاب الفاجع، والظلم الموجع لنأخذن بثأر كليب حتى لا يبقى في بكر موضع ثأر، ولنأخذن بحقه كاملا، حتى لا يبقى عضو منه أو جارحة لا نثأر لها، بل لنأخذن بثأر الشسع الذي كان يربط به نعله، نقتل به عزيزا منهم وسريا من سراتهم.»
وكان الغضب قد بلغ منه عند ذلك مبلغ التوقد، فاحمر وجهه وتقبض، ولمعت عيناه لمعانا وحشيا، وتصلبت أعضاؤه وهو يشير بيده مهددا. وسرت عدوى غضبه إلى الحاضرين، فلاحت على وجوههم علائم الثورة، واكتست جباههم بظلال الدماء، ونظروا إليه وقد ملأهم العجب أن يكون هذا الثائر المتوثب عدي بن ربيعة «المهلهل»، الذي كان لا يعرف إلا الخمر والتغني بالنساء.
ولم يشعر القوم وهم في هذه الثورة بقدوم جماعة أقبلت عند ذلك، ووقفت عند طرف الجمع لتسمع آخر مقالة المهلهل، وتشهد الغضبة الشاملة التي عمت نادي تغلب في تلك الليلة.
ولما خمدت حدة الثورة تقدم الوافدون نحو المهلهل ومدوا إليه أيديهم بالتحية، وقال كل منهم له كلمة تعزية، ثم ذهبوا نحو أبي نويرة فرحب بهم وفسح لهم المجالس في صدر المكان، وعاد الهدوء بعد قليل إلا همسات بين الجالسين يعرف بعضهم بعضا بهؤلاء الوافدين.
وبعد قليل وقف أبو نويرة فأشار بيده إلى الجمع أنه يريد الكلام، ثم قال كلمة رحب فيها بالمقبلين، وشكر لهم سعيهم بالعزاء، وصمت لحظة، ثم أشار إلى كهل من الضيوف قائلا: «بطل بني بكر الحارث بن عباد.»
فتطلعت الأنظار إلى الرجل الذي أشار إليه أبو نويرة، وكان رجلا طويلا قد وخط الشيب لحيته، ولكن قامته المعتدلة وبغاء جسمه المتين، واتزان حركاته وهدوءها كانت تنم عن أنه زعيم اعتاد أن يقود وأن يغامر، وأن يأمر وأن يطاع. وبعد لحظة من السكون قال أبو نويرة يخاطب ابن عباد: «إذ شئت يا أبا ضبعة.»
فوقف الحارث متكئا على رمحه، وتكلم وفي صوته رنة من الحزن فقال: «يا أبناء العم من تغلب! لقد علمتم ما كان مما لا حيلة فيه. وكان فقد كليب مصابا جليلا ، عمنا معاشر بني بكر كما عمكم، وأصاب أفئدتنا كما أصاب أفئدتكم، وكنا نرجو أن ينصف إخواننا بنو شيبان من أنفسهم، فيحقنوا الدماء ويخمدوا نيران حرب لا يصيب فيها الرجل إلا أخاه، ولا تقطع فيها يمين المرء إلا يسراه. ولكن بني شيبان لم ينصفوا ولم يعدلوا، ولجوا في العناد وأصروا على البغي، فلا حاجة بنا إلى نصرتهم، ولا رغبة فينا إلى مؤازرتهم، فنحن بعد اليوم بمعزل، وإن كنا لا نملك أن نحاربهم معكم، فلسنا بناصريهم عليكم؛ ولهذا عزمت على أن أكسر سهامي وأنزع الوتر عن قوسي، وأسير بأهلي ومن أطاعني لأبعد عن هذه الفتنة. ولعل إخواننا يجدون بعد الغي هدى.»
ثم قعد إلى جوار أبي نويرة يبن همهمة خافتة تنم عن ارتياح وشكران.
وتعاقب بعد ذلك الخطباء من الوافدين، بعضهم من قبائل بكر الأخرى: بني عجل وحنيفة ويشكر، تعلن الانفضاض عن إخوانهم بني شيبان أو الانتصار لتغلب ومؤازرتها، وبعضهم من فروع النمر بن قاسط، جد بكر وتغلب الأعلى، وقد جاءوا لنصرة بني أبيهم التغلبيين على بني أبيهم البكريين الذين تمادوا في البغي والظلم.
وهكذا صارت قبائل ربيعة كلها يدا واحدة تطالب بدم بطلها، وأصبحت شيبان في عزلة تستعد للمقاومة وحدها، والدفاع عن جريمة ولدها الثائر الباغي جساس بن مرة.
ولما هم المجتمعون بالانصراف بعد ذلك وقف عدي بن ربيعة «المهلهل» في سكون، وأشار بيده إليهم قائلا: على رسلكم يا بني أبي!
فوقف القوم ينظرون إليه، وكانوا عند ذلك أكثر إقبالا وأسلس أسماعا. فقال: «لقد علمتم ما كنت عليه من ضلال وغي، وانصراف إلى اللهو والمجون. لا أنكر ذلك، ولا حاجة بي إلى نكرانه، ولست أدافع عن نفسي ولا أبرئها؛ فقد كنت سادرا في ظل كليب، كفاني بشجاعته مئونة الجد، وصرفني جاهه إلى اللهو في غير قصد، ولكن قتله سلبني حمايته وأفقدني جاهه. وعلي أن أقطع سائر أيامي في قضاء دينه والوفاء له. وقد آليت منذ اليوم على نفسي، وعقدت بينكم موثقا، أن الخمر علي حرام لا أذوقها، وأن النساء علي حمى لا أقربه، وأن الطيب لا يمس جلدي، وأن الماء لن يبل جسدي حتى أثأر لكليب ثأرا تطيب له نفوسكم ...» ثم تردد قليلا وقال بعد صمت قصير: «وتطيب له نفسي.»
ثم سار مطرقا وسار القوم في إثره أجمعين، وقد تمثلت على وجوههم عزيمة الجد وطلب الثأر.
الفصل التاسع
كانت حربا عنيفة ليس فيها بقيا ولا هوادة. كانت تغلب تتعقب شيبان أينما تحل، لا تترك لها متنفسا من الراحة، فإذا انتهت من وقعة وانحازت شيبان إلى منزل بعيد لتداوي جراحها وتصلح سلاحها، وتجم خيولها، فاجأها بنو عمها قبل أن تطمئن في مقامها الجديد، فيوقعون فيها وقعة جديدة أشد عليها وأنكأ لجراحها. وكان المهلهل لا يفتأ يذكر أخاه في ليله ونهاره، ويبكيه في شعره، فلا يكاد قومه يعودون من القتال حتى يذمرهم ويحرضهم، فيثبون معه إلى حيث يمضي بهم. وقد أسلموه قيادهم واتبعوه، لا يجادلونه في رأي ولا يعصونه في أمر؛ فقد وجدوا فيه قائدهم الذي يسبقهم إلى الصدر، ويفرق لهم صفوف العدو؛ يضرب حانقا، ويندفع في غمار الجموع ثائرا، يطحن ويمزق ولا تزيد أحقاده مع تمادي الحرب إلا اشتعالا. وألفت تغلب القتال حتى كأنهم يجدون المتعة في مناظر الدماء وضجيج الهيجاء.
وتزحزحت شيبان عن منازل اليمن إلى اليمامة، ثم تزحزحت حتى بلغت أطراف القفر، تلتمس النجاة من العدو الملح، لعل المهلهل يخشع عنها بعد أن نال منها ما نال في وقعاته العنيفة. وحسبت أنه يستوحش من تلك الفلوات، فلجأت إليها على ما تتجشم فيه من قسوة الحياة.
ولكنها لم تلبث أن سمعت أن عدوها لا يزال يزحف إليها، ويخترق في سبيله الفدافد الوعرة التي ظنوها تحميهم وراءها.
وكان يوما شديد الحر من أيام الصيف عندما سمع مرة شيخ بني شيبان أن المهلهل قادم في غزوة جديدة مغيرا بقومه تغلب وحلفائه من قبائل بكر والنمر بن قاسط. وكان بنو شيبان عند ذلك نازلين بآخر منزل حلوا فيه بعد هزائمهم المتكررة، فضربوا خيامهم عند عين واردات في أطراف اليمامة، بعد أن هجروا رياض نجد وأوديتها الخصيبة منذ غلبهم عليها بنو عمهم في الوقائع الماضية؛ وقائع النهي وعنيزة والذنائب. وكانوا لا يجدون في وادي واردات إلا أقل المراعي كلأ، وأشح العيون ماء، وأشد البلاد حرا وإقفارا، ولكنهم كانوا لا يزالون يأبون النزول على حكم عدوهم، وإن كان عددهم قد صار إلى القلة، واضمحل أمرهم وضاعت أموالهم في حروب تلك السنين الطويلة.
ووقع نبأ الغارة الجديدة على الشيخ مرة وقع الصاعقة؛ لأنه كان يعرف قلة عدد فرسان قومه، وكثرة المتألبين عليهم من فرسان القبائل الأخرى. وزاد في شدة الأمر عليه أن سنوات الحرب كانت سنوات جدب ذهبت بأكثر الأموال، وأن السماء لم تسعف الشتاء المنصرم بما يحيي المراعي ويسمن البهم ويدر الألبان. وجعل يقلب وجوه الرأي فيما هو صانع في تلك الغارة؛ أيقف مرة أخرى لعدوه القوي، أم يستعد للنزوح إلى فيافي الدهناء المخيفة؟ وفيما هو في ذلك الهم الشاغل أقبل عليه ولده جساس مسرعا، فرفع الشيخ بصره إليه صامتا وهو يعبث بلحيته البيضاء بأصابعه النحيلة في شيء من الاضطراب. فوقف جساس لحظة ينظر نحوه وقد امتلأ قلبه شفقة على ذلك الشيخ المتهدم، الذي ما زال يحمل هموم قومه تلك السنين الطويلة بما فيها من الهزائم والمحن، وكان يحس بجريمته، إذ كان السبب في إثارة تلك الفتن وإنزال تلك الكوارث بقومه. واقترب من الشيخ فجلس القرفصاء إلى جواره، وقال بصوت خافت فيه رنة الرحمة: «أبي!»
فلم يرد الشيخ أن يظهر شيئا مما كان في نفسه من الهم، فأسرع مجيبا في هدوء: «لعلك قد علمت بنبأ تحرك القوم نحونا يا جساس.»
فقال جساس بصوت متردد: «هذا ما جئت أحدثك فيه.»
ومضت لحظة قصيرة عليهما في صمت، ثم قال جساس: «لقد رأيت يا أبي ما جلبت على قومي من المصائب، وقد بدا لي اليوم عظم جرمي عليكم وشناعة مضرتي لكم؛ كنت شابا نزقا لم أعرف مغبة عملي وعاقبة تهوري، حتى مرت بنا هذه الأحداث وتطاولت علينا مدة الحرب هذه السنين، فعلمت الحق بعد أن تفلت الأمر من الأيدي ، ورأيت أنني كنت كما وصفتني يوم قتلت كليبا، جانيا مشئوما منكودا. علمت أنني لم أحرز لقومي عزة بقتل كليب، بل أذهبت عنهم عزتهم، وفرقت كلمتهم وأفشيت فيهم الثكل والويل.»
فلم يجب الشيخ على قوله بكلمة، بل ظل مطرقا وهو يعبث بلحيته، وساد الصمت حينا آخر، ثم استمر جساس قائلا: «وقد عزمت يا أبي على أن أحمل جريرتي دونكم، وأبذل نفسي في فدائكم، لعلي أنقع غلة ذلك الصديان الذي لا يرتوي من كل ما أراق من دمائنا.»
فرفع الشيخ رأسه مسرعا وقد بغته ذلك الرأي الجديد، وقال مندفعا: «ماذا تقول يا جساس؟»
فاستمر جساس يتكلم فقال: «لقد عزمت على أن أذهب إلى المهلهل وأسلم إليه نفسي، لعله يقنع بي وينصرف عنكم.»
فقال الشيخ وفي صوته غضبة ثائرة: «أبعد إذ كان ما كان؟ أبعد أن قتل من ولدي وقومي من قتل في سبيل الحفاظ والكرامة تسلم نفسك إليه؟ أتلحق بنا المعرة التي كرهناها، وتنزل بنا الصغار الذي أبيناه؟ وما لذة الحياة بعد من ذهبوا؟ وهل يحل بنا بعد اليوم إلا مثل ما حل بقومنا بالأمس؟ لقد أبينا أن نسلمك لهم ونحن أعزة، فلن نسلمك لهم ولم تبق لنا عزة نحرص عليها. ليس بيننا وبين المهلهل إلا الفناء.»
وكانت العزيمة الصارمة التي في صوته لا تدع مجالا للمراجعة.
فنظر جساس إلى وجهه المجعد لحظة، وخفق قلبه حزنا إذ رأى عليه أثر الهم الذي يضمره في قلبه، وأحس أنه لا يزال الابن الصغير الضعيف أمام ذلك الأب الشيخ القوي الفتي. ولم يستطع إلا أن يغض بصره وأطرق إلى جواره موزع النفس كاسفا.
ومضت لحظة أخرى في صمت، ثم استأنف جساس القول، وكان في هذه المرة أكثر ترددا واضطرابا. قال: «إذا كنت يا أبي قد عزمت على المضي في هذه الحرب فلا أرى لك أن تبقى ها هنا.»
فقال الشيخ في هدوء وقد نظر إليه فاترا: «وإلى أين نذهب إذا لم نقم ها هنا؟ لقد اضطررنا إلى هذا المقام اضطرارا، ولم يبق لنا بعد هذا الموطن إلا الفيافي القاطعة، ولن يكون لنا فيها إلا العذاب ثم الهلاك. وإذا كان ولا بد لنا من الموت فليكن على ظهور الخيل والسيوف في أيدينا.»
فقال جساس وقد زاد اضطرابا وترددا: «لقد بدا لي رأي إذا أحببت أن تسمعه.»
فقال الشيخ ولا يزال فاترا: «قل ما بدا لك يا ولدي.»
قال جساس بصوت خافت: «نحمل نساءنا وأطفالنا ونتسلل في أودية اليمامة حتى نبلغ منازل تغلب من وراء ظهورهم، فنتقوى بما عندهم من أموال، وإذا رجعوا إلينا بعد حين ليحموا حرمهم قابلناهم وقد استرحنا وهم في جهد السفر الطويل.»
فتحرك الشيخ حركة ضجر في مجلسه وقال في لهجة قاسية: «تذهب إلى منازل تغلب؟ وماذا نجد هناك سوى النساء والصبية، أو كل ضعيف من الشيوخ والمرضى؟ أتريد أن تعيد علينا معرة فوق معرة؟ ألا تذكر يوم قتل (ابن غنم) المرأة التغلبية؟ ماذا جر علينا قتل المرأة غير العار الذي لا يزال لاحقا بابن غنم وأهله وقومه؟ دع عنك هذا فإنك إن تنصر عدوك بمثل هذا البغي. إننا لو فعلنا ذلك الذي تشير به لما زاد علينا العرب إلا غضبا، وكفانا ما جلبنا على أنفسنا من عداوة الأقوام.»
ولم يطل الحديث بعد ذلك بين الأب وابنه، فقد أقبل همام بن مرة مسرعا على فرسه وهو يلوح بشملته في الهواء، وفي مظهره ما ينم عن الفزع من أمر خطير. فأسرع الشيخ ليقف على قدميه وهو يترنح من ضعف الشيخوخة، وساعده جساس حتى وقف، وسار بخطى متعثرة نحو ولده المقبل ينظر نحوه في لهفة، وجساس إلى جواره يسنده من تحت إبطه.
ولما اقترب من همام صاح به في لهفة: هل من جديد؟
فقال همام مسرعا: العدو وراء هذه الكثبان.
وأشار إلى الربى الصفراء التي عند الأفق، ثم قال وهو يهمز فرسه: هلم يا جساس، املأ لنفسك قربة ماء والحق بي، فإني ذاهب لأنذر الناس.
ولم ينتظر همام جوابا، بل لف لثامه فوق أنفه وفمه، ليلتقي به الهواء اللافح والحر المتقد، ثم وثب بفرسه نحو منازل قومه، فقال الشيخ وهو ينظر في أثره: «ولدي!»
ثم غص بريقه فسكت. ووقف ينظر نحو التلال البعيدة كأنه في حلم.
ووثب جساس إلى فرسه، فما هي إلا لحظة حتى كان في أثر أخيه، وغيبهما الغبار الثائر عن عيني الشيخ الحزين.
بعد ساعة كان فرسان بني شيبان يسيرون نحو الكثبان ليلاقوا العدو المغير، وسيوفهم تبرق في أيديهم، وأسنة رماحهم تلمع في ضوء الشمس الساطعة كأنها شرر منبعث من لهيب. وكانت الرياح الحارة تثير الرمال، وتلفح الوجوه وتكاد تخنق الأنفاس. ونظر مرة إليهم وهم سائرون، فرآهم صفوفا ضئيلة فوق خيول ضامرة، يسرعون إلى القتال وهم يعلمون أن العدو قد أقبل نحوهم في عدده وعدته، يريد أن يستأصل بقيتهم بعد أن أفنى منهم الألوف في وقعة بعد وقعة. واسودت الدنيا في عيني الشيخ عندما تذكر أنه لم يبق له من قومه إلا هذه الفئة القليلة، ولم يبق بيت من بيوت شيبان إلا وقد فجع في زهرة شبابه وصفوة فرسانه. فرفع يده إلى عينه ومسح دمعة ترقرقت فيها، وقال كأنه يحدث نفسه: «ألا ما أقلها من بقية! لقد عشت حتى أرى هذا! فيا ليتني ...»
ثم توقف عن إتمام قوله كأنه لم يشأ أن يدع نفسه تتمادى في هذه الخواطر اليائسة في مثل تلك الساعة الخطيرة. وهز نفسه ووقف ينظر بلهفة إلى الفضاء الفسيح حيث يترجح ميزان القضاء.
وسارت الكتيبة الصغيرة حتى صارت في منبسط الأرض، فوقفت تنظم صفوفها وترتب خطتها، فاختار همام جماعة من الفرسان ليكونوا معه طليعة، واختار جساس جماعة أخرى ليكونوا لهم ردءا، وأرسلت طائفة ثالثة مع عمرو بن السدوس إلى ثنية وادي واردات لتكمن للعدو، وتخرج عليه إذا وجدت الفرصة سانحة.
واتفق قادة شيبان على أن يتقدم همام إلى العدو فيحاربه ويبارز أبطاله، حتى إذا التحم الجيشان واستحر القتال، تظاهر همام بالهزيمة، فيقف جساس بمن معه في وجه العدو المتقدم، حتى يتمكن همام ومن معه من العودة إلى المنبسط الفسيح دون الكثبان، ليستريحوا ويشربوا من قرب ماء يضعونها في الرمال ، ثم يتظاهر جساس بالانهزام متياسرا، ويتقهقر بجماعته إلى ناحية الكمين، فإذا ما أوغل العدو وراءهم في السهل وظن أنه أوقع بهم الهزيمة، وقصد إلى منازل شيبان ليسبي من فيها من نساء وأطفال، ويغنم ما بقي بها من مال وأثاث خرج عليه كمين ابن السدوس فجأة، وعاد همام وجساس يكران عليه بجماعتهما فيأخذونه وهو آمن مشتت، مشتغل بجمع الأسلاب، ويوقعون به هزيمة محققة يستردون بها شرفهم، وينتقمون لما سبق من مصابهم.
ولما تم تدبير هذه الخطة تقدم همام وقد حمل قربة من الماء جعلها على عاتق فرسه، وقال لأصحابه: «لا ينس أحدكم أن أمامه اليوم قتالا مجهدا في صحراء جرداء، فليحمل كل منكم قربته فإذا صرنا عند الكثبان جعلها في موضع يعرفه، فإذا أجهده القتال قصدها فارتوى ثم عاد إلى قتاله نشيطا، فاليوم لا يموت إلا العطاش.»
ثم هز فرسه فعدا به نحو الكثبان، وأصحابه وراءه يسوون سلاحهم ودروعهم، وقد امتلأت قلوبهم عزيمة وأنفة. وكانت تغلب لا تزال وراء الكثبان تنتظر أمر المهلهل بالسير، وهي تملأ الفضاء خيلا ورجالا. وكانوا لا يظنون أن بني شيبان يجرءون على المسير إليهم، فقد كانوا يعلمون أنهم صاروا في قلة من العدد، وجهد من طول الحرب، يقيمون في أرض قاحلة، ويقاسون مرارة العيش في واد قفر. وكان المهلهل يرى أن تلك الغارة لا محالة تأتي عليهم، وتقضي على من بقي منهم؛ ولهذا لم يتعجل في زحفه، بل كان يؤثر المقام في مكانه حتى يفتر الحر وتميل الشمس، فيسطو عليهم سطوة لا يلبثون معها أن يتفرقوا، فيقتل فيهم ما شاء حتى إذا أقبل الليل كان قد طواهم في هزيمة قاضية.
كان المهلهل لا يزال في خيمته يستظل حتى تميل الشمس عن كبد السماء، فإذا كتيبة شيبان تطلع من وراء الكثبان وتهبط على فرسانه كما تحل العاصفة فجأة. فاضطرب الجمع المحتشد، وتواثبوا إلى خيولهم وتصايحوا يدعو بعضهم بعضا، وينادي قريبهم البعيد. فوجد همام في ذلك الاضطراب فرصة فانتهزها، وأهوى بجماعته القليلة على من لقيه من أدنى القوم ، فقتل فيهم مقتلة عظيمة، حتى هم سرعان بني تغلب بالانهزام، ودفع المنهزم أخاه من ورائه، وكادت المفاجأة تنتهي في تغلب إلى نكبة كارثة.
وعند ذلك أقبل المهلهل من أقصى الميدان في سلاح تام ودرع ضافية، واندفع إلى عدوه كأنه سهم انطلق من قوسه لا يتردد ولا يميل، وهو يضرب بالسيف تارة ويطعن بالرمح أخرى، فلا يصمد إلى فارس حتى يجدله، ولا يجالد بطلا حتى يصرعه، كأن صخرة تهوي حيث هوى. وهو كلما ضرب فارسا صاح بصوت يدوي: «وا كليباه!» فعرفت شيبان الضجة وعرفت أنه مهلهل بن ربيعة الذي آلى على نفسه ألا يزال دهره على أهبته لا ينزع جوشنه ولا يضع درعه ولا بيضته.
ووجد بنو تغلب عند ذلك متنفسا من الوقت للاستعداد، فركبوا خيولهم سراعا واجتمعوا من أطراف الفضاء خفافا، وعاد الذي كان ينهزم، واطمأن الذي كاد ينخلع وأحاطوا بكتيبة همام حتى كادت لا تجد ثلمة للفرار.
ولكن بني شيبان وإن كانوا قلائل في العدد، كانوا من فرسان اعتادوا مقارعة الأبطال، وطالت بهم منازلة الشجعان، فما زالوا يتلقون الضربات بالدروع، ويتواثبون فوق خيولهم كالسعالى من الجن، حتى استطاعوا أن يخرجوا من حلقة العدو، وقد أوشكت أن تلتئم حولهم، وأسرعوا فوق الكثبان منهزمين نحو الفضاء الفسيح الذي دونها. ولحقت بهم خيول تغلب غير مترددة، وتدفقت وراءهم كأنها السيل ينحدر إلى بطن الوادي. ولكن المهلهل بقي حيث كان، فما كان مثله ليتبع منهزما؛ فهو للقاء العدو المقبل، وليس لاقتفاء المنهزم المدبر.
كان جساس عند ذلك رابضا بمن معه وراء الكثبان، فلما رأى خيول تغلب تتدفق فوق الكثبان أسرع إليهم فوقف في سبيلهم، فعطف المغيرون عليه وتركوا هماما ومن معه يمضون في سبيلهم.
وقاتل جساس في جماعته قتال المستميت، وكان الفضاء الرحب أرفق بهم، وأطلق لحركاتهم، فكانوا يفرون ثم يكرون، ويحاورون عدوهم ثم يعودون إليه، حتى خيل إلى بني تغلب أنهم يلاقون جيشا خميسا وعددا عديدا. وزادت هيبة الفئة القليلة في قلوبهم فترددوا في لقائها، وتحاموا بطشها وقتالها، وعلا ضجيج القتال وتجاوب الفضاء بأصوات الحديد، فسمعها المهلهل وهو في مكانه يستريح مما ناله من جهد القتال الأول، فأسرع مبادرا فاعتلى الكثيب وأشرف على الفضاء، فرأى كتيبة جساس تطحن قومه في قتالها العنيف، فانحدر نحوها يصيح صيحته. فما سمعت تغلب الضجة حتى اشتدت عزائمها فحملت حملة شديدة. ورأى جساس أنه لن يستطيع الثبات أمام ذلك التيار الآتي، فانهزم بجماعته متياسرا نحو جانب وادي «واردات» وتبعهم مهلهل يصيح: «وا كليباه!»
وسمع جساس الصيحة فعرف أن ذلك الفارس هو مهلهل المخيف، وغلى الدم في رأسه عندما تذكر من قتل من إخوته ومن قومه، وكان العطش قد أجهده وطول القتال قد أجهضه، ولكن الغيظ غلب عليه، فأشار إلى فارسين قريبين منه أن ينحازا بجماعتهما إلى جانب الوادي، وعاد هو نحو عدوه محنقا يطلب القتال الذي لا هوادة فيه.
ووقف جساس وجها لوجه أمام عدوه الفاتك وناداه أن يقبل عليه للنزال، فأقبل مهلهل نحوه كأنه يقذف بنفسه قذفا، ووقف فرسان تغلب على مسافة بينهما ليروا ما تنتهي إليه مبارزة القرينين.
قال جساس صائحا صيحة وحشية «إلي يا مهلهل! أنا قاتل كليب! أنا جساس بن مرة إن أردت ثأرك.»
وما سمع المهلهل اسم جساس حتى اندفع نحوه محنقا وغص بريقه من شدة الغضب، فلم يجب إلا بضربة كادت تشق البيضة عن رأس جساس وتنفذ إلى دماغه.
فترنح جساس لشدة الضربة، ولكن البيضة دفعتها عنه، ثم تمالك نفسه بعد قليل وأهوى بسيفه نحو رأس خصمه فضربه ضربة أودع فيها ما في قلبه من حقد وغضب، فتحول المهلهل عنها سريعا، فوقعت الضربة على عنق الفرس فقدته، ووقع الفرس كأنه جلمود صخر.
ووثب المهلهل إلى الأرض حتى لا يقع تحت الفرس القتيل، ورمى سيفه عند ذلك وقبض على رمحه الطويل وهزه في يده حتى ارتاح إلى قبضته، ثم سدده إلى قلب جساس وأسرع فقذفه به.
وأدهشت هذه الحركة جساسا فلم يستطع أن يأخذ رمحه في يده، ولم يقدر على أن يبلغ المهلهل بسيفه وهو بعيد عنه، فلما رآه يقذف نحوه الرمح البارق تحول عن فرسه إلى الأرض كالنمر الأرقط، فلم تصب الضربة إلا جانب درعه، ولكنها كانت ضربة غاضب محنق فزلزلته، وكادت تلقيه صريعا.
في تلك اللحظة سمعت صيحة عالية من وراء المهلهل، فالتفت فرسان تغلب إلى جهتها، فإذا كمين ابن السدوس يهوى نحوهم من جانب الوادي يريد أخذهم من وراء. وكان المهلهل على وشك أن يتبع ضربته بأخرى، فلما رأى الكمين مقبلا نحوه أسرع إلى فرس قتل صاحبه، فوثب عليه واتجه مسرعا نحو العدو المقبل، وهو يقول في غيظ: «لهف نفسي على فوت جساس!»
وما هو إلا قليل حتى اصطدمت الكتيبة المقبلة بمهلهل ومن معه، وقد أقبلت بعد راحة من القتال، فكانت على قلة عددها ثقيلة الوطأة شديدة الضربة.
وعادت في الوقت عينه جماعة همام بعد أن رويت واستراحت، وعادت معها كتيبة جساس بعد أن تنفست.
والتحم عامة جيش شيبان بعامة جيش تغلب، وعلا القتال وعم الاضطراب، واختلط الجمعان وفشا في الجانبين القتل وتعالى فيهما الضجيج، وتردد النصر بينهما؛ فتارة تنحاز تغلب إلى الكثبان، وتارة تنحاز شيبان إلى جانب الوادي، وتفرق المتقاتلون، فمنهزم يتبعه خصمه، وراكض يلجأ إلى قومه، ومتعب يلتمس صخرة يستريح عندها، وظامئ يطلب شربة يرتوي بها، ومالت الشمس إلى الغروب وميزان القتال لا يزال مترجحا، تارة يميل مع شيبان وأخرى يميل إلى تغلب. وفي أثناء ذلك الهرج الشامل علت صيحة من جانب الكثيب حملتها الرياح الثائرة مع رمالها، وكان يمتزج فيها رنين الفرح الوحشي بجلجلة اضطراب وفزع: «قتل همام بن مرة! قتل سيد شيبان!»
وسمع المتقاتلون تلك الصيحة وهم لا يعرفون من أين أقبلت، فوقفوا في مواضعهم حينا يتلفتون في دهشة، فهل هي بعض خدع الحروب، يقذف بها أحد المتحاربين يقصد بها قصدا؟ أم هو فارس من فرسان تغلب أصاب قرينا من فرسان شيبان يحسبه سيد القوم فصاح تلك الصيحة، وهو واهم قد اشتبه الأمر عليه؟ أو هو رجل مدع من بني تغلب يريد أن يباهي لحظة بأنه قد هد شيبان بمقتل سيدها، لكي يتحدث الناس باسمه حينا فيرضي غروره حتى يظهر الحق بعد لأي، فيكون قد أصاب من جلال البطولة نصيبا مخلوسا؟ أم قد فترت تغلب عن القتال وأعياها ثبات شيبان فصاح رجالها تلك الصيحة، لكي يتستر وراءها المهلهل ويأمر رجاله أن يكفوا عن القتال مكتفين ذلك اليوم بما نالهم من جراح دامية في النضال العنيف؟ ترددت كل هذه الخواطر في قلوب مختلفة، وتلفت فرسان شيبان وهم وقوف لعلهم يرون بطلهم هماما فيعرفونه بدرعه المعلمة وفرسه الكميت النبيل. وأصاخوا بالأسماع لعلهم يسمعون صوتا يرتفع بتكذيب الصيحة الخبيثة فيطمئنوا على فارسهم الباسل، ولكنهم لم يسمعوا من ذلك شيئا، بل سمعوا الصيحة الأولى تتردد مرة أخرى في قسوة كأنها من صوت القضاء.
وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون: من يكون ذلك الصائح؟ وهل هو ممن يعرفون من فرسان تغلب؟
وعند ذلك ترددت الصيحة، وكانت في هذه المرة صرخة رددتها صفوف العدو في فرح: «قتل سيد شيبان!»
فلم تلبث شيبان أن تفرقت، ولم تلبث عزائمهم أن تضعضعت، وتردد الفرسان لحظة، ثم جرفهم خوف كأنه السيل، فركضوا خيولهم يطلبون مضارب الخيام لعلهم يقدرون على حماية الحرم فيستطيعوا النجاة من العدو المنتصر.
ونظرت تغلب إلى مهلهل ينتظرون ما يقول بعد سماع ذلك النبأ الخطير، فقد أجهدهم القتال، وما كان مقتل مثل همام بالنصر اليسير، فهل يسير بهم المهلهل بعد هذا النبأ حتى يجهز على بني شيبان وهم في دهشتهم واضطرابهم؟ أم يأمرهم بإيقاف الحرب والاكتفاء من ذلك اليوم بقتل همام؟
ووقف المهلهل صامتا لحظة بعد أن سمع الصيحة وكان لا يزال في سلاحه ودروعه كقطعة من الحديد، ورآه الفرسان يركز رمحه في الركاب، ويسند عليه رأسه حينا، ثم رأوه يرفع رأسه ويشير إليهم قائلا بصوت خافت: «ليهنئكم النصر أيها الفرسان، وحسبكم اليوم ما كان!»
في تلك الليلة كان مهلهل يجول في أنحاء الوادي يسير في أثر فتى ضئيل حائل اللون، حتى إذا بلغ الفتى الجانب الأدنى من الكثبان، وقف وأشار إلى جسم ممدود على الأرض مائل إلى جنبه، وقد اختلطت حوله الرمال بالدماء، يمد يده نحو قربة ماء في حفرة بين الرمال.
وقال الفتى في لهجة المباهاة مشيرا إلى ثنية وراء الكثيب: «هناك انتظرته حتى اشتد به العطش، فأتى ليرتوي من قربته التي جعلها في جانب من الرمال، فلما جلس ليستريح ويشرب تغفلته وطعنته، وكانت طعنة قاضية.»
فنظر المهلهل نظرة ساهمة إلى الجثة الممدودة وإلى وجهها المعفر، وغاب حينا في صمت وتفكير، ثم اختلجت شفتاه قليلا ونظر إلى الفتى وقال: ألا تعرف فضل همام عليك يا ناشرة؟
فقال الفتى: نعم لقد أخبرتني أمي.
وكان ناشرة فتى من تغلب ولدته امرأة فقيرة أرادت أن تئده بعد ولادته خوفا من الفقر، خشية ألا تجد طعاما يكفيها مع ولدها، فأحسن همام إليها وأعطاها ناقة ولودا تطعم من لبنها، وضم الطفل إليه ليعيش مع أهله، حتى شب ناشرة وعرف أنه تغلبي، فذهب إلى قومه تغلب ليحارب معهم في وقعة واردات.
وبعد صمت قصير أردف الفتى قائلا: لم أعرف في شيبان أكرم منه لأقتله في ثأر كليب.
فحول المهلهل بصره عن الفتى، ثم نظر إلى القتيل الطريح كأنه يريد أن يملأ منه عينيه، ثم قال والدموع تجري في مآقيه: «أي همام! يا رب ليلة جمعتنا على المودة، ويا رب حديث تبادلناه على الصفاء. إن الثأر حبب إلي قتلك فأنت كفء كريم، ولكن قلبي ينازعني إليك يا صديق الشباب. وإن كبدي لحرى عليك يا خليل الصبا. ما قتل بعد كليب من هو أعز منك علي، وما بقي بعدكما في الحيين من يعقد الخير عليه.»
ثم التفت إلى الشاب وقال في وجوم: اذهب يا ناشرة وغيب وجهك عني.
ومضى نحو معسكر الجيش، وترك الشاب مشدوها حائر الفؤاد، ولم يستطع المهلهل أن يبقى بعد ذلك في واردات.
ففي تلك الليلة نفسها كان يسير في طليعة قومه عائدين إلى أرضهم، فقد هزه قتل همام فلم يدع له رغبة في معاودة القتال.
الفصل العاشر
مرت السنوات تتوالى والحرب لا تزال دائرة بين بني العم المتناضلين في الفناء، وشب الصغير في أثنائها وفني الكبير، ونبغ من الفرسان جيل في إثر جيل. ولكن المهلهل لم تهدأ ثائرته ولم يرتو بعد مما أسال من الدماء.
وتوالت المصائب على بني شيبان بعد وقعة واردات، كما توالت عليها قبل تلك الوقعة، فقتل همام بن مرة في أثناء المعركة، ثم قتل عمرو بن السدوس وقت الهزيمة. ولم يلبث بنو شيبان إلا قليلا بعد ذلك حتى روعوا بمقتل رئيسهم الجديد والبقية الباقية من قادتهم وأبطالهم، وآخر أبناء مرة جساس قاتل كليب. قتل جساس ولكنه لم يقتل في ميدان الحرب، ولم تطعنه يد غريبة ترصدت له، بل أحاطت بمقتله روعة خلعت عليه لونا قاتما من الفداحة، فما كان قاتله سوى ابن أخته الهجرس بن كليب التغلبي.
كان الهجرس جنينا عند مقتل أبيه، ثم ولدته أمه جليلة بنت مرة وهي بين ظهراني قومها بني شيبان، وشب فيهم ونما حتى أصبح فتى الفتيان وزين الشباب، فتى طويل القامة عريض المنكبين جميل الوجه، ولكنه كان مثل أبيه تخالط جماله قسوة من عبسة بين عينين تلمعان لمعان فرند السيف. وكان قليل الكلام فإذا تكلم عذب قوله في السمع ووقع في النفس. وكان عظيم المروءة يسرع إلى النجدة ولا يبالي المخاطر، فاتخذه جده مرة أنيسا، يفيض من بهجة شبابه على شيخوخته التي تطاولت به، ويرفه بمنظره عن الآلام التي توالت عليه. وجعله خاله جساس في أهله ولدا، وزوجه ابنته الجميلة سعاد، يريد بذلك أن يكفر عن ماضي جريمته في قتل أبيه، وكانوا يسمونه ابن جساس حتى لا تدخل الأحقاد إلى قلبه إذا عرف أنه ابن كليب.
ولكن مكان الهجرس في شيبان غشيته غشاوة من الهموم منذ قتل همام بن مرة، ذلك بأن ناشرة قاتل همام كان فتى تغلبيا، أحسن همام إليه وعطف عليه، بل حفظ حياته وليدا ورعاه طفلا وفتى، حتى إذا بلغ مبلغ الرجال لم يذكر إلا أنه من تغلب أعداء شيبان، فقتل الرجل الذي أحسن إليه، وغدر بمن كان حقه أكبر من حق الأبوة عليه.
فأخذ جماعة من الشبان يذيعون المطاعن على هجرس ، ويحرضون على إخراجه من بينهم حتى لا يصيبهم بمثل ما أصابهم به ناشرة. وسمع الهجرس ما يقولون فيه، فداخلته الوساوس والشكوك، واشتعلت فيه الكبرياء والأنفة، وضاق صدره بالإقامة في قوم يقول قائلهم عنه إنه ليس منهم. فما زال بأمه جليلة حتى أخبرته بحقيقة أبيه، بعد أن هددها بأن يسير في الأرض فلا تدري أين يقيم، ولا أي البلاد تشتمل عليه.
وما علم أن أباه كليب حتى أظلمت الدنيا في عينيه، ودارت به الأرض وخر صعقا، ولم يفق من غشيته حتى كان قلبه قد استقر على أن ينتقم لأبيه، وأن يلحق بعد ذلك بأعمامه وذوي صلبه. وجعل يدبر الحيل ويغتنم الفرص، حتى حقق غرضه وأنفذ قصده، فطعن خاله جساسا وأسرع هاربا فلحق بعمه المهلهل في منازل تغلب.
فكان هذا الحدث تتمة الأحداث، وقاصم الظهور ولم يبق لشيبان بعده من بأس، فقد ذهب بذهاب جساس آخر من بقي من أبطالها وهيض جناحها وكسرت شوكتها.
وبقي الشيخ مرة في شيبان وحيدا، قد أحنت ظهره السنون المتطاولة، وعصفت به أحداثها المتعاقبة، واجتمع عليه مصاب الهزيمة، وحزن فقد الأعزاء من أبنائه ومن فرسان قومه الذين قصفتهم الحروب واحدا بعد واحد، وتركتهم معفرين في الأودية تنهشهم السباع وجوارح الطير. فتضعضعت نفسه وانطفأت فيه سورة الكبرياء التي كانت من قبل تدفعه وتجمح به، فلم يجد بدا من أن يسعى إلى مصالحة المهلهل والتذلل له، حتى يحفظ على قومه البقية الضئيلة التي بقيت لهم من ذراري المستقبل. كان لا بد له من مصالحة المهلهل، إذا شاء أن يبقى في شيبان باق من هذه الصبية الصغيرة التي كان يراها تسعى حوله وليس فيهم إلا من فقد أباه أو عمه، أو أصيب في بعض إخوته. لم يبق في شيبان إلا هؤلاء الضعفاء، بعد أن أفنى المهلهل في وقائعه كل من استطاع الحرب من كهول وشبان. ولم يجد الشيخ مرة من يلجأ إليه إلا الحارث بن عباد سيد بني ثعلبة، ذلك الذي اعتزل الحرب منذ أولها، ولم يرض أن يشارك قومه البكريين ميادينها؛ لأنه لم يرض عن ظلمهم وبغيهم في قتل كليب، وإصرارهم على الظلم إذ أبوا أن يرضوا بني عمهم التغلبيين في دمه الكريم.
لجأ مرة إلى الحارث وخضع له يستلين قلبه، ويستعطفه على تلك البقية الضعيفة من شيبان. وطلب إليه أن يبعث إلى المهلهل فيرجوه أن يقنع بما أصاب من دماء بكر، وأن يمن عليه بالصلح فقد صار هامة يومه أو غده، فهو لا يحرص على شيء إلا أن يدع لهؤلاء الصبية من شيبان فرصة الحياة، فرق له الحارث ولم يشأ أن يزيد آلامه بلوم، أو أن يذكره بما مضى من بغيه وكبريائه. وخف إلى معونته مبادرا، فأرسل إلى المهلهل وفدا يرجوه أن يعود إلى مسالمة بني عمه بعد أن أصاب منهم من أصاب في ثأره. وأراد أن يسل بقية الحقد من قلب المهلهل، فبعث إليه مع الوفد بولده بجير ومعه كتاب قال فيه: «إني مرسل إليك ولدي بجيرا وهو عندي حبيب، وفوضت إليك الأمر فيه، فإن لم تكن رضيت اليوم بمن قتلت من شيبان فدونك ابني جعلت فداءك! فإما قتلته بأخيك الكريم فهو كفء له، وإما أطلقته متكرما إذا رأيت أن تمن به علي، وأنا في الحالين راض ما دمت تعود بعد ذلك إلى السلام، وترضى بإصلاح ذات البين، فقد مضى من الحيين في هذه الحروب الطويلة من كان بقاؤه خير لنا ولكم.»
ومضت أيام بعد سير الوفد إلى المهلهل، وكان مرة ينتظر عودتهم في قلق ولهفة، وقد ملك عليه الحزن قلبه، فلم يدع فيه مكانا لتجمل أو اطمئنان.
وكان في يوم من هذه الأيام جالسا في فناء منزله، وإلى جانبه صديق له من بني عمومته، يحاول أن يعزيه ويخفف عنه، ولكن اليأس كان يملك على الشيخ كل أمره، فكان لا يتمالك نفسه من البكاء. فقال له صاحبه: أما تتجمل بالصبر يا أبا همام؟
فقال الشيخ والحسرة تغلبه: «ماذا بقي لي في الحياة يا أبا مالك حتى أتجمل وأصبر؟ إن هما إلا يومان أقضيهما في البكاء ثم أمضي .»
فقال أبو مالك عاطفا: «لئن بكيت يا أبا همام لقد حق لك البكاء. ولكنا كنا نتأسى بصبرك ونتثبت بثباتك، فلسنا نملك اليوم معك لا الرثاء لأنفسنا لما فقدنا من أسوتك.»
فقال مرة متنهدا: «واحر قلباه! لم يبق لي أحد من ولدي، لم يبق لي إلا هذه الصبية الصغار من أبنائهم، وقد حكم الدهر علي أن أعيش لأراهم حولي أيتاما ضعافا ... واحر قلباه يا همام! واحر قلباه يا جساس!»
ثم أخذ يبكي بكاء مرا، وصمت جليسه ينظر إليه في حزن عميق، وأقبلت عند ذلك امرأة تسير في بطء، تتعثر بأذيال ثوبها الأسود، وتمسح عينيها بطرف خمارها الذي أسدلته على وجهها تخفي تحته عبراتها. فلما صارت إلى جوار الشيخ، وقفت صامتة تنظر إليه لحظة ثم غلبتها العبرة، فجعلت تنشج ووضعت كفيها على عينيها.
فتنبه الشيخ إليها عندما سمع شهقاتها، فنظر إليها بعينيه الكليلتين، وقال بصوت امتزجت فيه بحة البكاء بهزة الإشفاق: جليلة؟
فقالت المرأة من بين شهقاتها: «نعم جليلة يا أبي! جليلة الشقية يا أبي!»
فمد الشيخ إليها يديه المرتعشتين وقال بصوت متهدج: «تعالي يا ابنتي اجلسي إلى جواري، وامزجي دمعك بدمعي؛ فقد أصبحت مثلك لا أستطيع إلا البكاء.» ثم جعل ينشج مثلها نشيجا مرا.
فجلست جليلة إلى جنبه، ووضعت يدها على رأسه وأسندت رأسها باليد الأخرى وأخذت تشاركه في البكاء، فلم يقو أبو مالك على البقاء معهما فقام عنهما، فذهب وهو يرفع يده إلى عينيه ليمسح دمعة مواساة لم يستطع أن يمنعها. ومضت على الوالد وابنته ساعة في البكاء، وكأن الدمع قد أزال عنهما بعض وجومهما وفك من عقدة الحديث بينهما، فالتفت مرة إلى جليلة قائلا: «كفكفي دمعك يا بنيتي!»
فمسحت المرأة بكفها على ظهر أبيها وقالت: «لست أدري يا أبي ماذا أقول لك. لم أجد في نساء العرب من هي أشد مني نحسا، ولا أبلغ مني شقاء، حتى وكأن الزمان لم يجد سواي غرضا!»
فمد الشيخ يده إليها فأخذ يدها ولكنه لم يتكلم.
فمضت المرأة تقول ولا تزال تنشج بين كلماتها: «لم يكف هذا الزمان ما أصابني بقتل زوجي وفجيعتي بإخوتي وأبناء إخوتي وأعمامي، فأبى إلا أن يجعلني دائما بين القاتل والمقتول، ويقف بي أبدا بين السنان الطاعن والقلب المطعون؛ قتل زوجي وكان قاتله أخي، ثم قتل إخوتي وقومي في ثأر صاحبي، فكان الانتقام له يبتر أعضائي ويقطع أوصالي، ثم حكم علي أن يكبر ولدي الهجرس بين ظهراني قوم أبي، وهو يحمل في دمائه عداوتهم، ويضم بين جنبيه قلبا يطالبه بالثأر منهم، حتى انتهى أمره إلى ما انتهى إليه من فجيعتي بآخر إخوتي الذي أكرمه ورباه، وزوجه بابنته وواساه بنفسه. ثم سار إلى قومه ليشاركهم في حربهم على قومي، فقلبي عليه يتحرق ومنه يتمزق. إن أصاب أصابني وإن أصيب أثكلني، واحر قلباه! وأين الموت مني يا أبتاه؟»
وكان لقول جليلة عند الشيخ أثر أبلغ من أثر التعزية، فجف دمعه وسكن نشيجه، وهدأت أنفاسه منذ وجد مصاب ابنته أفدح من مصابه، ورآها أجدر منه بالمواساة وأحق بالرحمة.
ورفع بصره الكليل إليها ينظر في وجهها، فاعترضته سحابة من الظلمة تغشاه، ولكنه استطاع مع ذلك أن يدرك ما أصاب ابنته الجميلة من تغير وتبدل، لقد ألهته الهموم كل تلك السنوات عن أن يملأ عينيه منها، ولم يلحظ فعل السنين فيها، فلما رآها عند ذلك رأى امرأة نحيلة شاحبة؛ وجه علته الغضون وبشرة تكمشت، وعود ضئيل ونظر كليل، وجسم متهدم، ونفس يفيض منها الحزن واليأس، فنسي حزنه في لحظة وجعل يحاول التخفيف عنها، وغاض دمعه وأخذ يعمل على تخفيف دمعها. قال: «لقد مضى دهر على قتل كليب ومضى بعده من الأعزاء من سلكوا سبيل الماضين قبلهم. وهل في الحياة بقاء يا ابنتي؟ ولئن كان مصاب جساس حديثا يصيب القلب لقرب عهده، فإن حزني عليه أذهلني عما كان يليق بي، ولم يكن الهجرس في قتله يا ابنتي إلا أحد العرب يثأر لأبيه، ولعل هذا المصاب يكون آخر الدماء، ولعل ذلك الضبعان القاسي مهلهل بن ربيعة يجد في قتل جساس ما يروي ظمأه ويكفيه من ثأره .»
فوقعت كلمات الشيخ في قلب جليلة موقع الدهن على قرحة الحريق.
فمسحت دموعها وخفت شدة نشيجها، وقالت وهي أقل يأسا: «وبماذا أجاب المهلهل على رسالتك يا أبي؟»
فقال الشيخ بعد صمت قصير: «لعل الرسل يعودون اليوم. لقد كان موعدهم أمس ولكنهم لم يعودوا.»
وهمت جليلة أن تستمر في حديثها، ولكن أبا مالك أقبل عند ذلك مسرعا نحو الشيخ، فعلمت أنه يريد التحدث إليه، فقامت ذاهبة نحو الخيام، وقد أسدلت خمارها على وجهها ولا تزال عيناها تبصان.
ووقف الرجل عند الشيخ لحظة، ثم قال بعد تردد قصير: «لقد عاد رسلنا إلى الحارث بن عباد.»
فرفع الشيخ رأسه بحركة سريعة، وقال بلهفة: «ما خبرهم؟»
فقال الرجل بصوت أجش مخيف: «كان رد المهلهل قتل بجير.»
فنهض الشيخ يتحامل ولا يقوى على النهوض، وأسنده صاحبه حتى وقف على رجليه مترنحا، ثم قال في فزع ويأس: «قتل بجير؟ قتل بجير بن الحارث؟»
ولم ينتظر جوابا على سؤاله، بل سار مضطرب الخطوات وأبو مالك يسنده من ذراعه وقصدا نحو خيام الحارث بن عباد.
الفصل الحادي عشر
كان الحارث بن عباد في فناء خيمته عندما جاء الوفد إلى الحي عائدين من رحلتهم إلى المهلهل بن ربيعة، وكانت زوجه أم الأغر ابنة ربيعة أخت كليب والمهلهل قاعدة عند أطراف الخيام، تنتظر كعادتها كل يوم عودة الوفد لكي ترى ابنها الحبيب عائدا معهم؛ فإنها أحست منذ أرسله زوجها أن فلذة كبدها يسير مع ذلك الوفد متعرضا للهلاك. كانت أم الأغر تعرف أخاها المهلهل، وكانت تحس أن الرحم لن تلين قلبه ولن تعطفه على ولدها الحبيب؛ لأن دم كليب قد طمس على قلبه، فلم يبق فيه محل لرحمة ولا مودة. ولما رأت الرسل مقبلين وحدهم، أحس قلبها بما كان، كأنها شهدته بعينيها، فقامت مسرعة تسأل في لهفة عن ولدها سؤال الواله المشدوه، فأطرق الرسل ومضوا في سبيلهم نحو خيمة زوجها صامتين، ولم تقو ألسنتهم على النطق أمام الأم الثكلى، فاشتعل قلب المرأة وصاحت في لوعة، وولولت تنوح في حرقة، فسمعها نساء الحي فأقبلن نحوها سراعا وأجبنها بالعويل حتى اشتعل الحي كله بالصياح والبكاء.
وقام الحارث مسرعا ليتعرف مبعث الضجة المنتشرة. فلما رأى الرسل عائدين وحدهم وليس فيهم بجير أدرك ما كان، ولكنه ملك نفسه وكبت ما في قلبه، وذهب بين الخيام يهدد ويسب، ويؤنب وينهى، واتجه إلى امرأته وقال لها عابسا بصوت كهدير الفحل: «يا أم الأغر لا أريد إحداكن تبكي أو تصيح، ولا أسمعن منكن صوت نحيب أو عديد، فوحق مناة إن ابني لنعم القتيل. كافأ خاله وأطفأ ثأره وأنا بقتله راض، وليس من قومي بني قيس بن ثعلبة من هو أكثر منه يمنا ولا أكرم مقتلا، فإنه قد أصلح بين ابني وائل وحقن ما بقي من دمائهم.»
فخمدت الأصوات من رهبة السيد الصارم، إلا نشيج الأم الثاكل وهي تحاول كتمان صوتها طاعة لزوجها، وتأبى حرارة كبدها أن تطيع، وانصرف الحارث إلى الرسل ومضى بهم إلى فنائه، ليسألهم عن جواب كتابه، واتجه إلى كبير الوفد وقال هادئا: «ماذا قال المهلهل يا أبا ضبيعة؟»
فوقف أبو ضبيعة حينا صامتا، وكان قصيرا دميما، فنظر إليه الحارث وقال في شيء من الحنق: «قل جوابك أيها الرجل.»
فاقترب الرجل منه كأنه يريد أن يهمس في أذنه، ولكنه لم يقدر على أن يبلغ كتفه، فتردد وبقي مطرقا، فعرف الحارث أنه لا يريد أن يتكلم في ملأ بني ثعلبة، فجذبه من ذراعه في شيء من العنف حتى تنحى به إلى جانب وقال غاضبا: «تكلم يا جحدر، أجبني بما قال المهلهل، قل ولا تخف من قوله شيئا، فإنه لن يبلغ من القسوة مثل قتل ولدي، هل رضي المهلهل بدم بجير؟»
فنظر جحدر إلى الأرض وقال بصوت خافت: «ماذا أقول لك، إذا شئت إيجازا قلت لك إنه قتل بجيرا ولم يرو به غلته.»
فصر الحارث على أضراسه وقال للرجل: «إذن فلتحمل إلى أذني كل ما كان منه. قل ولا تدع أمرا إلا وصفته.»
فأخذ جحدر يقص عليه ما كان من المهلهل منذ ذهب الوفد إليه، وجعل يفصل له وصف ما رأى من عنفه وسوء رده، حتى بلغ وصف ما كان منه عندما رأى بجيرا وسأله عن اسمه، فأغمض الحارث عينيه وتنفس نفسا عميقا، وقال لجحدر: «دع ذلك الحديث ولا تطل فيه. لقد قتله!»
فنظر إليه جحدر مترددا وأمسك عن الكلام لحظة، فصاح به الحارث قلقا: «امض! امض في حديثك. أليس قد قتله؟»
فقال جحدر وهو مطرق: «لقد وددت أني لم أشهد ذلك الأمر ولم أسع فيه، فإن تلك الصورة لا تزال ماثلة أمام عيني لا تفارقني في سير ولا في إقامة، ولا تبعد عني في ليل ولا في نهار. ولو كانت دماء تغلب تملأ البحار التي تحيط بالأرض ما حسبتها تروي غليل بني ثعلبة، لقد قتله وهو يقول: بؤ بشسع نعل كليب!»
فارتد الحارث إلى الوراء خطوة، ونظر إلى محدثه وقد قلصت عضلات وجهه وزوى حاجبيه وصاح بصوت أجش: «ماذا قلت؟ بشسع نعل كليب؟»
فهز جحدر رأسه ونظر إلى الأرض وهو يقول في حزن: «نعم بشسع نعل كليب.»
فصاح الحارث: «ألم يكن في تغلب رجال؟ ألم يكن في تغلب رجال؟»
فصاح جحدر: «كان امرؤ القيس بن أبان يحاول أن يرده فلم يستطع. لقد بالغ في النصح والرجاء، ولكن صوته غرق في العاصفة الهوجاء.»
فرفع الحارث يده مقبوضة فوق رأسه، وعض على نواجذه وتنفس نفسا مضطربا كأنه يختنق ثم قال: «ويل للداعر من غدره! يا ويل زير النساء!» ثم سار مسرعا نحو مضارب خيامه يهرول في اضطراب وقلبه يحترق من الغيظ، وكان في سيره يبعث ألفاظا متقطعة كأنه يخاطب نفسه، ويتبع كل لفظ منها آهة مبحوحة، وكان جحدر والوفد يسيرون وراءه، حتى إذا اقترب من منازله نظر وراءه إلى جحدر وقال في صرخة مكتومة: «لقد بر الخبيث بعهده يوم قال أنه لن يدع شيئا لكليب حتى ينتقم له، حتى الشسع الذي كان يربط به نعله، فكان ولدي قتيل ذلك الشسع.»
ثم ضحك ضحكة مخيفة حتى ظن جحدر أن الرجل قد جن من وقع مصابه.
فلما صار الحارث بين خيامه وقف وصاح ينادي عبدين كانا في رحبة الحي، وقال بصوت ثائر غاضب: «قربا مربط النعامة مني!»
ثم ذهب إلى خيمته وغاب لحظة، وخرج ورمحه في يده وهو يهزه هزا عنيفا، ويشمر كم ثوبه عن ذراعه، وصاح بصوت يدوي:
قربا مربط النعامة مني
لقحت حرب وائل عن حيال
ثم وقف وركز رمحه في الرمال، وقد غلبه الغضب وامتزج في قلبه حقد الموتور بحزن الأب المفجوع، ورأى امرأته جالسة في جانب الخيمة تبكي وتحاول إخفاء صوتها، فنظر إليها ثم نظر إلى جحدر وصاح كأنه يخاطبه:
قل لأم الأغر تبك بجيرا
حيل بين الرجال والأموال
فلعمري لأبكين بجيرا
ما أتى الماء من رءوس الجبال
لهف نفسي على بجير إذا ما
جالت الخيل يوم حرب عضال
قتلوه بشسع نعل كليب
إن قتل الكريم بالشسع غال
ثم صمت قليلا كأنه غص بريقه. فانفجرت أم الأغر صائحة كأنها كانت تنتظر تلك الكلمات لكي تفرج عن نفسها بالعويل والبكاء، وأسرع إليها النساء فعاودن ما كن أمسكن عنه من الندب والعويل، واشتعل الحي كله بالبكاء. واستأنف الحارث قوله بعد حين وهو ينظر بعينين شاخصتين نحو الأفق لا يلتفت إلى جمع بني ثعلبة المتزاحم حوله.
صاح في حزن وغيظ:
يا بجير الخيرات لا صلح حتى
تملأ البيد من رءوس الرجال
لم أكن من جناتها علم الله
وإني لحرها اليوم صال
وأطرق حينا لا يقوى على الكلام، ثم انتفض فجأة وسل سيفه وهزه فوق رأسه في عنف، وعاد إلى إنشاده فصاح بصوت يشبه هدير الريح بين الصخور:
قربا مربط النعامة مني
لقحت حرب وائل عن حيال
فلعمري لأقتلن ببجير
عدد الذر والحصا والرمال
قربا مربط النعامة مني
ليس قولي يراد لا بل فعالي
ثم أغمد سيفه وألقى برمحه أمامه في وسط حلقة الرجال، وتحرك مهرولا راجعا إلى خيمته وهو يهمهم ويهدر، فجعل يبحث عن سلاحه ودروعه، وأخذ قوسه التي كان قد نزع عنها وترها، وأخذ قطعة من الجلد كانت في ركن من الخيمة، وخرج على قومه وهو يربط طرفها في رأس القوس، ويقول في أثناء ذلك كأنه يخاطب نفسه:
قربا مربط النعامة مني
قرباها وقربا سربالي
قرباها وقربا لأمتي زغفا
دلاسا ترد حد النبال
قرباها لمرهفات حداد
لقراع الكهول يوم النزال
وأخذ يذهب إلى خيمته يجهز فيها سلاحه شيئا بعد شيء، وهو كلما جهز شيئا خرج به وأنشد بيتا أو بعض أبيات، ثم يرجع إلى الخيمة فيجهز شيئا آخر يعود بعده إلى رحبة الحي مستمرا في إنشاده المضطرب، حتى تجمعت في الرحبة كومة من الدروع والسلاح.
في هذه الساعة كان الشيخ مرة قد بلغ منازل الحارث، ورأى الفرسان ملتفين حول زعيمهم الثائر، فانفرجت له الجموع حتى اقترب من الرجل ومد يده إليه، وقال له بصوت متهدج: «مصاب جلل يا أبا بجير!»
فالتفت الحارث إليه ومد يده إليه مصافحا، وقد ملك نفسه وزال عنه اضطراب الغضب، واكتسى وجهه بدل ذلك هدوءا ينم عن عزيمة ثابتة، وقال يخاطب الشيخ: «ستذوق تغلب عاقبة ظلمها.»
وكانت فرسه النعامة قد جاءت إليه عند ذلك يقودها العبدان، فاقترب منها ومسح رأسها وهي تصهل وتتمسح به، ثم اخترط سيفه وقبض على شعر ناصيتها فجزه، ثم قبض على شعر ذيلها الطويل فقطعه، وسكنت الفرس وظهر عليها وجوم يشبه أن يكون حزنا، وقال كأنه يخاطبها: «ليس بعد اليوم تدليل.»
ثم دفعها إلى العبدين الواقفين عند رأسها في صمت وخشوع، وقال: «قرباها مني فالليلة نسير إلى قتلة بجير.»
ثم أخذ الشيخ مرة من تحت ذراعه وسار به إلى خيمته، وتبعهما جحدر وبعض كبار قيس بن ثعلبة، وانصرف شبان الحي ليعدوا خيولهم للغزوة العاجلة في تلك الليلة.
الفصل الثاني عشر
كان صباحا عاصف الرياح ثائر الرمال، وكان الحر على وقدته ولم تطلع الشمس بعد، تكاد الأنفاس تختنق منه؛ حر يشقق الشفاه ويحرق الوجوه ويحرج الصدور.
وكان فرسان تغلب مجتمعين واجمين لما بلغهم من تحرك قبائل بكر إليهم مرة أخرى وإقبالهم عليهم بالعدد الكبير والسلاح المشحوذ، والخيل المسومة، ومعهم الحارث بن عباد في قومه بني قيس بن ثعلبة.
لقد تألب بنو بكر لمساعدة شيبان منذ غضب الحارث بن عباد لقتل ابنه بجير، والتف حولهم من كان قعد عن نصرتهم من العشائر والبطون. وضعفت تغلب بمن انصرف عنها من حلفائها حتى لم يبق معها إلا قبائل النمر بن قاسط، وذاقت في عام واحد مرارة الهزيمة الطاحنة مرة بعد مرة، وجعلت ترتد من موطن إلى موطن، وتنزح من موضع بعد موضع، حتى ألقت رحالها أخيرا عند «قضة» في أطراف نجد من الشمال. ولكن الحارث بن عباد لم يضع ثأره، ولم يهدئ من حقده، بل كان لا يزال يثب في إثر تغلب لينتقم لقتل ابنه الحبيب بجير المظلوم. وكانت شيبان تقبل معه على الحرب تحت راية الحارث بن همام بن مرة كأنها الذئاب الجائعة، لتغسل عن كرامتها ما أصابها من تغلب في طوال السنين المنصرمة.
اجتمعت تغلب في ذلك الصباح القائظ في رحبة حلالها، يتشاور قادتها فيما هم فاعلون في لقاء عدوهم المقبل، فقد سمعوا أنه مغير عليهم بجيش خميس، ليعيد عليهم الكرة بعد انتصاره الأخير في وادي القصيبات، يقوده الحارثان: الحارث بن عباد، والحارث بن همام، الذي آلت إليه زعامة شيبان.
جلس شيوخ تغلب وأصحاب الرأي فيها، وفرسانها الشجعان من الشباب، وقد لفوا اللثم على وجوههم اتقاء الرياح اللافحة، وعصف الرمال يزيد نفوسهم الثائرة ضيقا.
ووقف الفارس الكهل امرؤ القيس بن أبان يتكلم، فأرهف الجلوس آذانهم لاختطاف كلماته من أذيال الهواء الصاخب، فقال: «أي قوم! لا تردوا اليوم نصيحتي فقد جربتم من عواقب إغفالها ما كان أولى بكم لو تجنبتموه. لقد نصحت المهلهل ألا يقتل الفتى ابن الحارث فلم يقبل نصيحتي، ولقد رأيتم ماذا حل بنا من وراء بغيه. رأيتم تألب بني بكر علينا بعد أن كانوا عونا لنا، فلا يمضي يوم حتى نسمع بحليف منهم ينفض من حولنا، أو نصير منهم ينطوي تحت لواء عدونا. وإذا تمادى الأمر بنا بعد اليوم لم نأمن أن يحل بنا من الكوارث أمثال ما أنزلناه بآل شيبان في تلك السنين. فالرأي عندي أن نرحل من هذا القفر الأجرد، وحسبنا ما لقينا فيه من هزيمة بعد هزيمة. فإذا نحن عدنا إلى ديارنا ...»
وأراد امرؤ القيس أن يمضي في قوله لولا أن قام شاب وسيم من طرف الجماعة، وصاح به غاضبا: «حسبك يا مرأ القيس من حقدك على المهلهل، فوحق مناة إنك لا تقول قولك هذا إلا حسدا له ومنازعة لسيادته.»
وتحرك لسماع هذه الكلمات جماعة كان جلهم من شبان تغلب الذين لا يرون في المهلهل إلا بطلهم المهيب، وفارسهم الذي لا يبارى، يحبون أن يسروا وراءه في كل موطن، ويطيعونه وإن مضى بهم إلى برك الغماد من أقصى الأرض؛ فقد تعلقت نفوسهم به وحل الإعجاب به من قلوبهم حيث لا تبلغ النصيحة.
وارتفعت أصوات هؤلاء من جوانب الجمع يقولون: «صدقت يا هجرس! صدقت يا هجرس بن كليب! بعدا للجبناء! لا نطيع غير المهلهل.»
ونظر الشيوخ حولهم مترددين، وقام بعضهم يريد الكلام فلم يقو على إغراق ضجة الشباب الثائر. فلم يجد امرؤ القيس بن أبان بدا من الصمت، ومضى ذاهبا عن الجمع وهو غاضب حتى قبع معتزلا في حلته. ونهض القوم بعده في اضطراب وضجيج، فانصرف الشيوخ واجمين فرادى وثناء، واجتمع الشبان في صعيد واحد وقد جرفتهم الحماسة، وساروا والهجرس بن كليب في طليعتهم قاصدين حلة المهلهل، يهتفون به ويجددون العهد على طاعته؛ فقد كان المهلهل في ذلك اليوم مقيما في بيته، لم يحضر في ذلك الجمع من أثر جراح أصابته في آخر وقعة أصابتهم بكر فيها؛ وقعة القصيبات.
كان المهلهل مستلقيا في فراشه، وكانت ابنته سلمى تمسح الدماء عن جرح عميق في أعلى ذراعه، بعد أن ضمدت سائر جراحه، وكانت تحدثه عن زوجها وابن عمها الهجرس بن كليب الذي تزوجها عندما لحق بعمه في بني تغلب. ولما انتهت من غسل جرحه بالماء الساخن ذرت عليه رمادا من أعواد طرفاء محروقة، ولفت حوله ضمادة من الصوف. فقال لها أبوها: أما قال لك الهجرس أين خرج اليوم؟ لقد بكر في الخروج قبل أن أراه.
فقالت له سلمى مترددة: «ذهب إلى الناس ليرى ماذا يصنع بهم ابن أبان.»
فتحرك المهلهل في مكانه قلقا وأراد أن يمد يده إلى سيفه، ولكنه ردها ممتعضا من الألم الذي أحسه عندما حركها، ونظر إلى ابنته وقال لها في غيظ: «لقد تحرك ابن أبان منذ اليوم، أو يحسب أن هذه الجراح تقعدني في كسر بيتي؟ لا وحق مناة، لا أدعه ينفث سمه. ولأسحقن رأسه قبل أن يستطيع أن يبلغ مأربه.»
ثم تحامل حتى قام وقال لسلمى: «ألقي علي ردائي وشملتي، فلأذهبن إليه لأهشم أنفه قبل أن يرفعه.»
فقالت سلمى: «لا يرعك ابن أبان يا أبت، فإن الهجرس هناك يرى ويسمع، ولا أظنه يدع له مجالا لإفساد الناس وتفريق كلمتهم. لقد حدثني الهجرس عن أصحاب له تواعدوا على أهبة ليفسدوا على ابن أبان تدبيره، وقد أخذوا السلاح وجعلوه تحت ثيابهم، فإذا لم يستطيعوا تدارك أمره باللفظ حكموا بينهم وبينه السيف.»
فاطمأن المهلهل لقولها شيئا، ولكنه أطرق قليلا ثم رفع رأسه وقال: «ما ينبغي لي أن أطيل احتجابي عن الناس يا سلمى، قد عرفت الناس، فهم لا يذكرون من تطول غيبته. هاتي شملتي وردائي.»
فلم تستطع سلمى إلا أن تطيع، فذهبت إلى ركن من الخيمة وأخذت تلتمس لأبيها بعض ما اعتاد لبسه في نوادي قومه من ثياب الديباج الأصفر، والقباطي البيضاء وبرود اليمن الموشاة. وحملت من ذلك شيئا في يديها ليختار منه ما يحب، ولكنها سمعت ضجة كانت تقترب عند ذلك، فيها أصوات ترتفع حينا وتخبو حينا، فوقفت في مكانها لتسمع، وأصاخ المهلهل بأذنه في شيء من الدهشة. ثم اقتربت الأصوات واتضحت، فإذا هي صيحات تهتف باسم المهلهل سيد ربيعة، وميزت منها سلمى صوت زوجها الحبيب الهجرس بن كليب. فتبسمت وتبسم المهلهل، وقد وقع في قلبيهما أن الهجرس قد حمل معه تغلب وأفسد وحده تدبير ابن أبان. وألبست سلمى أباها ووضعت ثوبا من الديباج على كتفه، فلما صار الهجرس وأصحابه في رحبة الحي خرج عليهم المهلهل هشا بشا، فما كاد جمع الشباب يراه حتى علت أصواته في تحية صاخبة ترددت أصداؤها بين ثنايا الشعاب. فتبسم المهلهل وركز رمحه في الرمل واتكأ عليه بيسراه، وقال بعد أن هدأت الأصوات: مرحى يا شباب تغلب! لقد أقررتم عيني وأزلتم ألمي. إن جراح الحرب التي مزقت جسمي تنطق مرحبة بكم، كأن في كل منها لسانا يتحرك بشكركم. لقد ثارت تغلب منذ سنين طويلة تطالب بدم بطلها الذي لم يكن في العرب له كفء، وأميرها الذي عجز النساء أن يلدن مثله وإن تطاول الدهر. ولم يكن في تلك الدماء التي أريقت من العدو ما يقوم بدمه أو يفي لنا بحقه. بل لقد قتل من أبطالنا في مواقعهم من لا تشفينا دماء بكر جميعا من وترنا بهم. فليس بيننا وبين القوم إلا حد السيف وأسنة الرماح، لا نوادعهم ولا نخيم عن لقائهم حتى نفنيهم تقتيلا ونقطع أوصالهم تقطيعا. وا كليباه! هل نرجع السيوف إلى أغمادها ولا يزال في بكر شريف؟ وا تغلباه! هل ندع دماء من قتل من تغلب ولا يزال لعدوكم جمع؟ ليس بيننا وبينهم إلا طعن الكلى وضرب الرقاب، وتفليق الهام وتخريق الصدور. وإذا كان في تغلب من زعزعته أول الصدمات فبعدا للجبناء! ألا بعدا للجبناء!
فتلقف الجمع هذه الكلمة وصاح في حماسة: «ألا بعدا للجبناء!» وجعلوا يرددونها.
وسكت المهلهل عند ذلك فإن الضجة التي علت من صيحات الجمع المضطرب أغرقت آخر كلماته فلم يستطع المضي في الحديث، وعاد السيل الثائر من ساحة المهلهل، وتفرق بين الأحياء مناديا للحرب، فلم يبق في منازل تغلب من تجرأ على أن ينطق بحرف في ذكر امرئ القيس بن أبان.
ودخل الهجرس إلى خيمة عمه فحدثه بما كان من قول ابن أبان وما كان من رده عليه، ثم قال: ولا أحسب الأمر ينتهى يا عماه إلى حيث انتهى إليه لو طال بنا المقام.
فقال المهلهل وقد عبس عبسة عميقة: أجل يا ولدي! لن أطمئن وهذا الأرقم يتحين الفرص للوثوب، ولكن هون عليك فما كان عمك ليخاف هذه الزواحف.
فقال الهجرس: إن امرأ القيس قد ذهب إلى منزله اليوم، ولا أراه يجرؤ على أمر إلا بعد أن تنصره هذه الفئة من الشيوخ.
فأطرق المهلهل حينا ثم قال في غيظ: وحق آلهة وائل ما هو بمنته حتى أذيقه عضة سيفي. ولولا أن يقول الناس إن المهلهل يقتل أصحابه لما أبقيت عليه منذ حين. لقد عرفته ورأيت خلافه علي منذ نصحني في أمر بجير. وإنه ما قال كلمته التي قالها بقصد النصح ولا الخير، بل قالها لتسير في الناس فتكون وصمة عار تلحق بي.
فقال الهجرس: «وإنه لا يزال يتحدث بها إلى الساعة، وكانت هي أولى كلماته في اجتماع اليوم.»
فقال المهلهل: «ويل له من خبيث! إنه ليضلل الحمقى من قومي إذ يسمعون أنه نصحني بالعفو عن الفتى المسكين ابن أختي أم الأغر فعصيته، وقتلت الفتى بغير جريرة.»
فقال الهجرس: «صدقت يا عماه، فقد رأيت أثر قوله في الناس منذ تكلم، فأخذوا يتهامسون فيما بينهم عما أصاب تغلب من جراء مخالفتك وقتل الفتى.»
فصاح المهلهل: أغرار وحق أوال يا ولدي، ما بعث الحارس بولده إلي إلا وهو يأمرني بالكف عن حرب قومه، فلو خالفته وأبيت إلا الحرب لما كان منه إلا أن ينصر قومه. لقد عرفت منذ تحرك الحارث أنه إنما غضب لمن قتل من بكر، وأنه لا يريد إلا التماس الحيلة لإثارة الناس علي، فبعث بابنه بجير حتى يظهر للعرب جميعا أنه قد أرضاني ورغب في إنصافي، ولو لم أقتل بجيرا لما عدل عن الحرب، ولما انصرف عن نصرة قومه. لقد عرفت أنه عدو منذ بعث إلي رسالته، وما كان ينبغي لي إلا أن أبدأ عدوي بالحرب قبل أن يبدأني.
وسكت لحظة ثم نظر إلى الهجرس وقال: دع هذا يا هجرس فليس يغني القول عنا، هي الحرب فلنمض إليها. سنمضي إليها قبل أن تلتئم هذه الجراح، هلم يا ولدي فلن نطيل الحبل لابن أبان ليمضي في مكره وكيده، لأحملنه على الحرب حملا. إذا لم يكن من الحزم أن ألجمه سيفي، هلم يا ولدي، فالليلة نستعد للقاء عدونا .
ثم خرج وسار الهجرس إلى جواره يقصدان مجمع القوم في الطرف الآخر من المحلة.
الفصل الثالث عشر
تجهز بنو بكر للمسير إلى وادي قضة، وقد انتعشت وعاودها الأمل بعد الانتصار، فلم تطق الصبر وأرادت أن تنتهز فرصة ما أصاب تغلب من الوهن والجراح لكي تجعل الوقعة المقبلة قاصمة الظهر. وزاد من حرص بكر على الإسراع إلى مواصلة الحرب ما بلغها من أنباء الخلاف بين شيوخ تغلب وشبانها، فقد سارت الركبان بأحاديث ما يضمره المهلهل لامرئ القيس بن أبان، وما أحدثه الهجرس بن كليب من الفرقة بين شيوخ القوم وبين ناشئتهم. فعلموا أنهم إن صدموا عدوهم صدمة عنيفة لم يجدوه إلا مقسم الأهواء مشتت الآراء. فلم تقعدهم شدة الحر عن الاستعداد السريع، ولم تثنهم الرياح العاصفة المحرقة عن عزيمة المسير، واجتمعوا في ناديهم في لباس الحرب يتشاورون في الخطة المقبلة. وكان فيهم فرسان من شيبان وقيس بن ثعلبة وعجل وحنيفة، وفيهم الفارس الشاعر الذي ما زال رغم تقادم السنين بطل الحروب؛ الفند بن سهل سيد قبائل بكر باليمامة، وقد أتى مع قومه لنصرة إخوانه عندما بلغه اعتداء المهلهل بقتل بجير، وكان الحارث بن عباد في صدر النادي، وقد جلس حوله شيوخ العشائر والبطون في حلقة مفرغة، وجلس سائر القوم في صفوف غير منتظمة بعضها يتداخل في بعض.
ولما التأم الجمع وقف الحارث يتكلم فقال: يا فوارس بكر! قد علمتم ما عقدنا عليه النية من السير إلى هؤلاء الظلمة، لا ندع لهم متنفسا من السلام حتى نذيقهم وبال ظلمهم ونقذف بهم في مصارع بغيهم، ولكني أشفق أن تسيروا في وقدة هذه الحرور، فهل ترون أن نؤجل الميسر حتى تهدأ هذه الريح؟
ولما أتم قوله نظر إلى الحارث بن همام بن مرة سيد شيبان كأنه يدعوه إلى إعلان رأيه، فتحرك الحارث يريد الكلام ولكن علت ضجة من الجمع لم يستطع معها أن يتكلم، فتريث وهو ينظر إلى من حوله في شيء من الارتباك. فوثب جحدر بن ربيعة قائما وكان قصيرا دميما، فما كاد يقف حتى زادت الضجة اشتدادا، وتقاذفت نحوه ألفاظ الدعابة والفكاهة، فلم يرهبه ذلك بل أعلى صوته وقال بصوت حاد: على رسلكم حتى أقول كلمة.
وما كاد ينطق حتى رمته الرياح الثائرة بلفحة رملية اضطرته إلى أن يحول وجهه عنها، وانفجرت ضحكة عالية لم يتخلف عنها أحد من الشيوخ أو الشبان، فضحك جحدر مشاركا في المرح الشامل، ولكنه لم يجلس ولم يتردد، بل صاح بصوته الحاد: كأنني بهذه الريح تريد أن تعدل بي عن رأيي، ولكني وحق أوال لا أنثني عنه وإن قذفتني السماء بصواعقها. لا بد أن نسير اليوم إلى قضة.
فعلت ضجة استحسان صحبتها ضحكات ومداعبات، وصاح فتى من آخر الجمع: «قف يا جحدر فوق صخرة حتى نراك.»
فزادت ضجة الضحك علوا، ولم يشأ جحدر أن يدع الفرصة بغير أن ينتهزها، فوثب على كتفي فتى شديد قريب منه، فوقف عليهما وقال ضاحكا: «هل أغيب الآن عن عين أحد؟»
ثم نزل سريعا وهو يشارك في الضحكات العالية التي لم تفتر، وأشار بيده للقوم أن يهدءوا، فسكنت الأصوات ونظرت إليه العيون، ومالت إليه الأسماع فقال جادا: نحن اليوم في جماعة لم يجتمع لنا مثلها من قبل، فإذا نحن سرنا إلى العدو فاجأناه بما لا قبل له به، وكانت الموقعة القاضية.
فتجاوبت الأركان بصيحات: مرحى! أحسنت!
واستمر جحدر فقال: «ولكن لي عليكم شريطة قبل أن أفرغ من قولي.»
فصاح به أفراد من جوانب الجمع: «لك ما شرطت فاحتكم.»
فقال جحدر وهو يضحك: «لقد هممت أن أشترط لنفسي نصف هذا الفيء الذي سنغنمه اليوم، ولكني عدلت عن ذلك، وحسبي أن أشترط أمرا هو أهون عليكم منه؛ إذا نحن سرنا اليوم في جماعتنا هذه خشيت أن يختلط علينا الأمر فلا يميز أحدنا أصحابه من أعدائه، وأخشى أن يخالطنا العدو وهو قليل، فلا نجد دوننا من نضربه فيضرب بعضنا بعضا في حماسة القتال.»
فنظر الناس إليه حينا في صمت، وقد عجبوا أن يمزج هذا الرجل العجيب هزله بمثل هذا الجد الجاهم، ونهض الفند بن سهل سيد بكر اليمامة فقال: أما إنها لكلمة حق صدق فيها أخي جحدر ونصح، فلقد أقبلنا عليكم منذ قليل بوجوه جديدة لم يسبق لكم عهد بها، ولا بد لنا من علامة نتعارف بها.
وأقبل الجمع بعضهم على بعض يتحاورون في الحديث، فقام الحارث بن عباد، وما رآه الناس حتى خشعوا، وهدأت الأصوات وتحولت إليه الأبصار فقال: أيها الإخوان! لقد صدق أخي أبو ضبيعة إذ قال إنه يجب علينا أن نجعل لأنفسنا علامة نتعارف بها، وأرى أن نحلق رءوسنا جميعا فتكون تلك ميزتنا وسمتنا.
فوثب جحدر على قدميه وقال فجأة: «وماذا يبقى لي إذا حلقت لمتي يا أبا بجير؟»
فعلت ضجة الضحك مرة أخرى، واستمر جحدر يقول ضاحكا: أنتم ترون أن شعري نصف قامتي، وبغيره يصبح لي وجه قرد أصلع، فاتركوا لي لمتي، وافعلوا ما شئتم في لممكم.
فصاح فتى من وسط الجماعة يمزح قائلا: «اشترها منا، فلن نتركها لك بغير ثمن.»
فصاح جحدر في جد: «أشتريها بأول فارس من العدو يطلع عليكم، لكم علي أن أقتل أول فارس من تغلب يقبل نحوكم.»
فصاحت الجماعة: «قبلنا قبلنا.»
فأشار الحارث بن عباد للجماعة أن تنصت إليه ثم قال: «لا بأس بهذا، نبيع لجحدر لمته، وأما نحن فنحلق لممنا.»
فصاح الفند بن سهل ضاحكا: «هذا إذا يوم تحلاق اللمم.»
فنظر إليه الحارث باسما وقال: «نعم هو هذا، هو يوم تحلاق اللمم.»
وسكت لحظة ثم قال: «وقد علمتم أن تغلب تقيم الآن في قضة وسط صحراء مقفرة، وسنكون نحن في أرض غريبة لا نعرف موارد مياهها، ولا ندري لعل تغلب قد غورت آبارها، وطمت عيونها توقعا لمسيرنا إليها، فلا بد لنا من حيلة في تدبير ما نحتاج إليه من الماء قبل أن نذهب إلى عدونا في عقر داره.»
فصاح جحدر وقد وثب قائما: «نأخذ معنا من الماء ما يكفينا حتى إذا ما التحم الجيشان حمله لنا النساء وسرن من خلفنا، فإذا عطشنا رجعنا إليهن لنرتوي.»
فصاح به شاب ضاحكا: «على أن لا يروي النساء إلا حليقا.»
فقال جحدر: «لك علي يا ابن أخي ألا أعود إليهن إلا معلما، وعلامتي أنني لن أعود إليهن إلا حاملا لهن أسيرا.»
وكان للفند بن سهل بنتان قد وقفتا في فتيات بكر عند أطراف الجمع يستمعن إلى الحديث، وكانتا فتاتين ذواتي جرأة وشهامة.
فصاحت كبراهما: «نسير وراءكم لنحمل الماء؟ هذا لا نرضى به أبدا.»
فتحولت الأنظار إليها وقال الحارث: «وماذا تريدين يا ابنة الكرام؟»
قالت الفتاة في حماسة: «تحمل كل منا إداوة ماء وهراوة غليظة، فإذا مررنا بحليق طريح أسونا جرحه وسقيناه، وإذا مررنا بتغلبي صريع قضينا عليه.»
فعلت ضجة عامة من الجماعة؛ ضجة الإعجاب والأريحية، وقال الحارث ناظرا إلى الفند: «لتكن ابنة الفند أول امرأة في العرب أشركت النساء في القتال!»
ثم نظر إلى الفتاة وقال: «هلمي يا فتاة، فمثلك من تلد الأبطال.»
بعد ساعة كانت قبائل بكر تتحرك سائرة نحو قضة، وهي تملأ فضاء الأرض بالخيل والرجال، والمطايا من الإبل فوقها الظعائن من النساء، تليها الروايا تحمل الماء، وفي آخر القوم جاء العبيد يسوقون جنائب الخيل والإبل لتحل محل ما يقتل في الحرب من الدواب.
وكان اليوم التالي صنو سابقه في الحر اللافح والريح الثائرة والشمس المحرقة والرمال السافية. واجتمعت قبائل بكر كلها تحت لواء الحارثين؛ الحارث بن عباد على جناح، والحارث بن همام بن مرة على جناح، وأبطال القبائل كل منهم في قومه يتساندون ويتعاونون فيما بينهم، والتقى الجيشان، فكان أول من برز من بكر جحدر بن ضبيعة يلتمس ثمن شعره الذي لم يحلق، واندفع إلى تغلب فجأة فاحتضن أول فارس طلع عليه، ولم يكن التغلبي على استعداد لذلك النوع من المنازلة، فهي طريقة ابتكرها الحارث بن عباد وتعلمها منه في ذلك اليوم جحدر بن ضبيعة؛ أن يهجم على عدوه في سرعة البرق الخاطف، فلا يضرب ولا يطعن، ولكن يحتضنه ويعدو به راجعا إلى قومه. وعاد جحدر بأسيره مطروحا أمامه على ظهر الفرس وهو يحرك رجليه وذراعيه في الهواء يائسا. فضحك فرسان بكر وصاحوا مرحبين، وغضب فرسان تغلب وتصايحوا يحرض بعضهم بعضا على دفع الهجمة بأخرى مثلها، وما هو إلا قليل حتى التحم الجيشان في حرب عامة.
ومضى معظم النهار والقتال على استعاره، والحارث بن عباد يطعن ويضرب في تغلب، والمهلهل مع جراحه يفري فريا في بكر، ودفع جحدر المسكين ثمن لمته عظيما، فإنه ما زال يحارب حتى جرح، فلما مرت به فتيات بكر حسبنه تغلبيا، فطلب منهن شربة ماء فأهوين عليه بالهراوي، وهو كلما صاح بهن أنه بكري حسبنه يخدعهن فزدن في ضربه شدة حتى قتلنه كما قتلن كل جريح آخر غير حليق.
ولما أحست تغلب شدة وطأة عدوها عليها لجأت إلى الحيلة القديمة عند العرب، فأدبرت مستهزمة، وتبعتها بكر وهي تظن أن اليوم قد انتهى إلى نصر تشتفي به من عدوها، ولكنها ما كادت تبلغ وسط السهل، حتى رأت تغلب وقد وقفت فجأة عندما نادى المهلهل صائحا: «وا كليباه!»
وكانت تلك علامة فوقف الفرسان وارتدوا على بكر وهي في تفككها مستنيمة إلى توهم النصرة، واهتزت بكر هزة عنيفة من الصدمة، وأقبل عليها المهلهل كالصاعقة، وحوله حلقة من الصناديد يضربون كأنهم يحصدون حصدا، فتردد البكريون مليا ثم تزعزعوا، ثم لووا لجم الخيل وولوا الأدبار يطلبون النجاة من سيف المهلهل ومن حوله.
وكانت فتيات بكر عند ذلك في آخر السهل يسعين سعيا حثيثا ليدركن قومهن الذين أسرعوا في آثار تغلب المنهزمة. وفيما هن في سيرهن أبصرن فرسان بكر مقبلين نحوهن منهزمين، وقد تصدعت صفوفهم وتشتت شملهم وخيول المهلهل في آثارهم تصيح: «وا كليباه!»
فوقفن صفا في طريق الخيول المقبلة، وخرجت ابنة الفند إلى صدر الصف، وصاحت: «إلى أين يا خفاف القلوب؟»
وأخذت تنشد والفتيات ينشدن وراءها:
إن تقبلوا نعانق
ونفرش النمارق
وندهن المفارق
إن تدبروا نفارق
فراق غير وامق
عرس المولي طالق
والعار منه لاحق
فاضطر الفرسان أن يقفوا خوف أن يطئوا الفتيات بخيولهم، ثم سمعوا نشيدهن فثارت كرامتهم وأحسوا الخجل من هزيمتهم، ودعا بعضهم بعضا للثبات، ووجد القواد فرصة لتثبيت القلوب ولم الشعث، وثنوا أعنة الخيل إلى وجه العدو اللاحق بهم، وتقدموا إلى لقاء المهلهل ومن معه، وكان أعنف اصطدام وأشد قتال.
وأدرك الحارث بن عباد قومه المنهزمين بعد لأي، وكان لم ينهزم معهم بل وقف في جماعة قليلة يحارب في موضعه الأول.
وجاء الشيخ الشجاع الفند بن سهل كذلك لما رأى أن مكان الحرب قد تحول، وجعل يحرض قومه وهو يحارب في طليعتهم، ورأى الحارث بن عباد المهلهل وهو لا يعرفه في وسط فرسانه لا يدنو من كتيبة حتى يفرقها، ولا يقبل على جماعة حتى يشتتها، فنظر حوله وقال صائحا: «هذا صيد كريم.»
ثم ركض فرسه النعامة متجها نحو الفارس المجهول، وما هو إلا قليل حتى كان عائدا وقد وضع الفارس المخيف أمامه على ظهر النعامة، والبكريون يستقبلونه بصيحة فرح تملأ الفضاء. وما كادت تغلب ترى المهلهل أسيرا حتى ولى فرسانها الأدبار وتعقبهم فرسان بكر يتخطفونهم بالرماح.
وسار الحارث وأسيره أمامه، وإلى جواره الفند بن سهل حتى بلغوا مؤخرة الجيش فألقى الأسير على الأرض ووقف يتأمله.
وكان الفارس الأسير في عدة كاملة من سلاحه ودروعه، لا يظهر منه إلا عينان تبرقان من وراء المغفر. فلما ألقاه الحارث على الأرض قام مطرقا كاسفا، فسأله الحارث: «من أنت لا أم لك؟»
فقال الفارس المقنع: «أنا أسيرك.»
فسأله الحارث: «ما بال رمحك طويلا؟»
فقال الفارس: «لم يغن عني طوله.»
فقال الحارث ساخرا: «رمح الجبان طويل.»
فعلت ضحكة ساخرة من حوله، واهتز الفارس من وقع الإهانة ولكنه لم يتكلم.
ولما خمدت أصوات الضحك قال الحارث: «لقد حسبتك المهلهل؟»
فقال الأسير: «وأنى لك أن تصيبه.»
فقال الحارث في غيظ: «وحق مناة لو رأيته ما نجا مني.»
فقال الأسير: «أتريد أن تراه؟»
فقال الحارث مسرعا: «من أجله سعينا إلى هنا.»
فقال الأسير: «وماذا تفعل لو دللتك عليه؟»
قال الحارث ساخرا: «أطلقك حرا.»
فقال الأسير متهكما وفي صوته اضطراب يسير: «ومن يكفل لي صدقك؟»
فظهر الغضب في وجه الحارث، ولكنه أجاب في لهفة: «سل من شئت أن يكفل لك صدقي.»
فتقدم الأسير إلى الشيخ الشجاع الفند بن سهل، وكان إلى جوار الحارث وقال: «أريد هذا ضامنا.»
فنظر الشيخ إلى الحارث مترددا، فقال له الحارث: «اضمن له يا أبا مالك.»
فقال الشيخ: «ضمنت لك وفاءه، فمن أنت؟»
فلم يجبه الأسير، بل نظر إلى الحارث وقال له: «أتريد أن ترى المهلهل؟»
فقال له الحارث بحقد: «نعم، قلت لك أريد أن أراه لأضع هذا السيف في قلبه.»
فنزع الفارس بيضته عن رأسه وقال: ها أنا ذا المهلهل فاقتلني إن استطعت.
فأسرع الشيخ الفند بن سهل، ووقف دونه خشية أن يبادر الحارث إليه فيقتله وينقض عهده في ضمانه، فيلحقه من ذلك عار الأبد.
وارتفعت همهمة في الجمع الملتف حول المهلهل، بين صيحة غضب وأنة أسف وآهة حقد.
ووقف الحارث بن عباد قابضا على سيفه وهو يرتعد من الغيظ، وقال في حقد: «ثكلتك أمك أيها المخادع!»
فقال المهلهل ثابتا: «الحرب خدعة.»
فنظر الحارث إلى الفند بن سهل وهو واقف بينه وبين أسيره وقال: «لقد هممت لولاك يا أبا مالك ...»
ثم سكت وذهب بعيدا وجلس على صخرة وهو ثائر النفس، وقد بدا على وجهه أثر الحقد والاضطراب، ثم أطرق يحدث نفسه ويئن من شدة الغيظ: «وا بجيراه! هل أهدر دمك وقاتلك في يدي؟»
والتفت الفند بن سهل إلى المهلهل وجعل يتأمل وجهه ويتفرس فيه، ولم يملك نفسه من الإعجاب بمنظر ذلك البطل الدموي، الذي لم يضع سلاحه كل تلك السنين، ولم يطع في ثأره الهائل نصيحة ولا توسلا، وعلت وجهه برغمه ابتسامة خفيفة ثم قال له: «لا أبالي أن أنجو بحياتي كما نجوت يا مهلهل.»
فطعنت هذه الكلمة قلب المهلهل، وأحس صدق تأنيب الشيخ فقال: «ولكني أطيل حياتي لأطيل فيكم فتكي.»
فسمع الحارث هذه الكلمة فكأنما هو وحش رابض أغضبته، فأقبل مسرعا وقد لمعت عيناه بالشر، فأسرع الشيخ الفند فاعترض سبيله وقال له محذرا: «على رسلك يا أبا بجير؛ لقد ضمنته.»
فصاح الحارث ثائرا: «وحق مناة لا ينصرف عني هكذا.»
وكان خبر أسر المهلهل قد ذاع في الجيش وانتشر حتى بلغ النساء في الحي، فعلمت به أم الأغر زوجة الحارث، فأقبلت تسعى في هلع حتى وقفت إلى جوار الشيخ، ثم جعلت تتوسل إليه قائلة: «بعني أخي، امنن علي به، إن قتله لا يعيد بجيرا بل يزيد قلبي جرحا.»
فتردد الحارث وهدأ قلبه قليلا وتحرك مترددا ثم قال: «إذا فليدلني على رجل من قومه أقتله ببجير.»
فذهبت أم الأغر إلى المهلهل ترجوه أن يفعل ما يريد زوجها حتى لا يفتك به. وصمت المهلهل لحظة وهو مطرق، ثم رفع رأسه وقد جال على وجهه ظل ابتسامة، ولكنها كانت ابتسامة غل وحقد، وأشار إلى أقصى الفضاء وكان فيه بعض فرسان من أهل الحفاظ لا يزالون يتجاولون ويتحاربون، وقال للحارث: «أترى ذلك الفارس صاحب العمامة الحمراء؟»
فالتفت الحارث بلهفة إلى حيث أشار المهلهل، وقال: «نعم، فمن هو، وهل هو كفء لولدي؟»
فقال المهلهل: «هو امرؤ القيس بن أبان.»
فما كاد الحارث يسمع اسم الرجل حتى وثب على النعامة وقصد إليه، وما هي إلا لحظات حتى صرعه وقتله، وعاد راكضا فرسه يصيح: «لا خير في تغلب بعد امرئ القيس، ولئن فاتني المهلهل بخداعه فقد اشتفيت بسيد تغلب وشيخها.»
ولم يخل وجه المهلهل من دلالة الارتياح عند ذلك، فقد كفاه الحارث مئونة ابن أبان وخلافه عليه ومعارضته لمشيئته في قومه.
ولما أقبل الليل كان المهلهل طليقا يسير كاسف البال، ويتبع آثار قومه الذين ارتحلوا من قضة هاربين نحو الشمال، وكان كلما مر بشعب من الشعاب رأى جماعة يحملون صريعا أو يعينون على السير جريحا، ويسعون في آثار قومهم بعد الموقعة الطاحنة.
ولم يخل بيت في تغلب بعد يوم تحلاق اللمم من بكاء على قتيل، أو قلق ولهفة على حياة جريح. ولم يقف بهم السير في هربهم حتى بلغوا أكناف السواد من أرض العراق خوفا من غارات بني عمهم المنتصرين.
الفصل الرابع عشر
سار المهلهل من معسكر بكر بعد أن أطلقه الحارث بن عباد وهو يجر رجليه، وكان الليل البهيم يلف الصحراء في ردائه الأسود ، فلا يظهر منها في ضوء النجوم الخافت إلا الأفق البعيد خطا متموجا غامضا، وكان يخيل إليه أن ذلك الليل الأسحم يجثم على الأرض فيثقلها، ويهبط بها إلى أسفل في الفضاء. كان رأسه يميد به وخياله يضطرب، وأعضاؤه المتعبة المثخنة بالجراح تنبض بالألم كأنها تضج بالأنين. وكان قلبه أثقل على صدره من ذلك الليل يخفق في خمود وتباطؤ، كأن ضرباته خبط ناقة عشواء ضالة في الظلام.
وجعلت صور حياته تتوارد على ذهنه سراعا كما تتوارد الصور على ذهن الغريق. لقد سار بقومه حينا إلى النصر، وساد فيهم ما ساد حتى كاد يبلغ فيهم مكانة أخيه كليب، ومضت عليه السنون وهو يحرز النصر بعد النصر، ويسفك الدم بعد الدم، ولكن ذلك كله لم يرو غلته من الانتقام، بل كان كلما زاد من القتل والطعن اشتد ظمؤه إلى القتل والطعن، حتى صار القتال قصد حياته كلها، فأنساه المجد والسلطان، وأغلق قلبه عن الرحمة والسلام، ولم يبق في قلبه موضعا لمودة أو رحم. ولم تخمد ثورته لما اعتراه من ضعف، أو ما أصابه من هزيمة؛ فقد كان وهو يجرر رجليه بعد خروجه من معسكر الحارث بن عباد لا يزال يتمثل صور الطعنات التي يدخرها، والضربات التي يعتزم أن يسددها، والدماء التي يريد أن يسفكها. كان غليله الثائر لا يزال يضطرم في قلبه المكدود، لم يزده الخذلان إلا عنفا، ولم تزده الهزائم إلا قسوة.
ومرت بذهنه صورة بجير بن الحارث ابن أخته المسكين، وهو يتوسل إليه بالرحم أن يدعه فلا يسفك دمه بغير جريرة، وتذكر صاحبه الشجاع امرأ القيس بن أبان، وهو ينصحه ألا يمس الفتى البريء بسوء وهو ابن أخته، وتذكر ما جره عليه قتل الفتى من مصائب، بعد أن ثار أبوه الحارث ثورته. تذكر هذا كله ولكن قلبه كان لا يزال يشتعل بالحقد والغل، فلم يحس ندما بل علت وجهه المتعب بسمة قاسية، كأن ذكرى ذلك المنظر قد بعث فيه نشوة وارتياحا. ثم تذكر امرأ القيس بن أبان وهو قتيل عند قضة، وتذكر الخيانة التي زل إليها عندما أباح لحقده أن يخدعه ويملك عليه زمام نفسه، فأطاع الحقد ودل عليه الحارث بن عباد واشترى بالخيانة حياته. تذكر ذلك كله ولكنه لم يحس ندما، بل علت وجهه بسمة قاسية أخرى، واهتزت نفسه هزة تشبه أن تكون نشوة وارتياحا، فإن امرأ القيس كان يخالفه ويعصيه وينصحه، وما كان أحب إلى نفسه أن يتذكر منظره وهو صريع بيد الحارث أبي بجير.
وتنبه المهلهل إلى نفسه في فترة من فترات الصحو بين هذه الخواطر والوساوس، فعجب لقلبه كيف تبدل حتى أصبح كأنه يطيع شيطانا مشئوما يسوقه في سبيله، ولكنه ما كاد يحس هذا اللين يلم به حتى عادت إليه وساوسه وخواطره الدموية، وغاب في سيل من ذكريات ضرباته وطعناته.
ومرت في ضميره سانحة سريعة من الأسف والخجل عندما تذكر خدعته التي خدع بها الحارث واستطاع بها أن ينجو بحياته، وتذكر ما قاله الشيخ الشجاع الفند بن سهل، إذ قال له: «ما أبالي أن أنجو بحياتي كما نجوت يا مهلهل.» لقد كانت سخرية مرة فيها تأنيب وفيها ازدراء، وما كان أحراه أن يربأ بنفسه عن تلك المذلة، فلا يشتري الحياة بذهاب الكرامة، ولكنه أغمض عينيه وهز رأسه بعنف كأنه يريد، أن يبعد عن نفسه تلك الخاطرة المزعجة، وجعل يحمل نفسه على تأمل ما يأتي به الغد القريب من وقائع جديدة يجد فيها شفاء جديدا من غليله، وفرصة أخرى ينكل فيها بعدوه، ويسفك سيلا آخر من دمائه.
مضى المهلهل في صحبة هذه الهواجس المظلمة الثائرة كأنه كان يحاول أن يختفي فيها عن نفسه، وأنس إلى ذلك الظلام الثقيل الذي حوله، وجعل ينتقل من موضع إلى موضع، ويفتح صدره لنفحات الليل الرطيبة الباردة، لعلها تطفئ النيران الثائرة فيه. وجعل يتأمل النجوم ويحادثها، تلك النجوم الأبدية التي طلعت على الأجيال جيلا بعد جيل، واطلعت على اضطراب الإنسان أبد الدهر الطويل، ثم شهدت فناءه طبقة بعد طبقة، وخيل إليه أنها في لألأتها تضحك ساخرة منه، أو أنها تضحك ساخرة من ذلك النصر الذي ظل يضطرب من أجله كل تلك السنين، فإذا هو ينهار كما تنهار الرمال، ولكنه صرف قلبه عن ذلك كله لم يبق فيه إلا تلك الوخزة الأليمة التي كان يحسها كلما تذكر أخاه البطل كليبا القتيل. نعم فإن الجرح الذي أصاب فؤاده من مقتل أخيه كان لا يزال مع مر السنين جرحا داميا موجعا.
وأخذ السير يعرج به في شعاب الفلاة، حتى انتهى به أخيرا إلى شعب خفي في ثنايا واد عميق، فسمع به حسا ينبعث مثل أصوات في حلم، حسا خفيا مضطربا غامضا.
فسار في حذر إلى طرف الشعب من وراء ثنية الوادي، وكان الظلام في داخل الشعب أكثف حلكة من الليل، فلم يستطع أن يتبين أحدا من الجلوس. فوقف وراء صخرة خوف أن يكون هناك بعض أعدائه، وأصاخ بسمعه إلى الحديث وجعل يجهد نفسه في تمييز الأصوات، وتعرف جرسها ونبراتها وخيل إليه أنه يعرفها. لقد سمع تلك الأصوات من قبل، فهي بلا شك أصوات شبان من قومه، كانت ترتفع في نوادي تغلب لكي تنصره وتهتف باسمه وتحيطه بضجة تشبه أن تكون من ترتيل العبادة والتقديس.
واستمع إلى الحديث، وكانت الأصوات واضحة في سكون الليل يزيدها وضوحا هدوء الهواء. وما كاد يقف هناك لحظات حتى كان جسمه يتفصد عرقا. كان الجدال عنيفا ولكنه لم يكن بين جانبين يتنازعان، بل كان بين عصبة مجمعة على لومه والحنق عليه وإن تجادلت في تقدير جرائره.
قال أحدهم: «لقد نصحه امرؤ القيس ألا يقتل بجيرا فلم يطعه، بل قتل الفتى المسكين ظلما، ولم يشفق من فجيعة أخته أم الأغر فيه.»
وقال آخر: «ولكن أدهى من ذلك أنه لم يستطع أن يقف للحارث بن عباد ولم يمنع نفسه منه. ألم تروه والحارث يحمله أسيرا على فرسه ويعدو به وهو ملقى على ظهر جواده كأنه صبي؟ أي عار جلب هذا الزير على قومه!»
وقال ثالث: «ولا شك في أنه هو الذي دل الحارث على ابن أبان ليقتله. لقد سمعت بعض بني بكر يتحدثون بهذا وأنا مختف في الكهف عقب الهزيمة. لقد قالوا إنه دل الحارث على ابن أبان سيد تغلب، وما أراد بخيانته إلا أن يشفي حقده من شيخنا الباسل الذي كان يجادله ولا يبتغي إلا خيركم.»
فعلت من الجمع صيحة إنكار، وقال أحد الجلوس: أو سمعت هذا يا ابن الأجدع؟
فقال الشاب: «سمعت هذا بأذني هاتين، وسيأتيكم مصداق قولي إذا رأيتم المهلهل غدا يسير في آثاركم؛ فقد من عليه الحارث وأطلقه بعد أن خان له سيد تغلب ثمنا لحياته. نعم لقد اشترى حياته بالعار والخسة.»
فعادت الضجة أعلى وأعنف، واختلطت بها الأصوات، وتطايرت في ثناياها ألفاظ الحنق، وكان اسم المهلهل يتردد فيها مع أقذع السباب، ثم تجرأ أحدهم فقال: «إنه قد سفك دماءنا في سبيل دم أخيه الطاغية، وسرنا وراءه كهولا وشبانا، وها هو ذا يخوننا ويدل أعداءنا علينا لكي ينجو بحياته.»
فصاح الجمع مضطربا: القتل له! القتل للمهلهل! القتل للخائن الجبان!
فلم يطق المهلهل البقاء وتنحى عن موضعه مسرعا، وسار وحده وهو لا يدري ماذا يرى من أمامه. كان يتعثر من الاضطراب وقلبه جائش بالألم ورأسه مضطرب بما فيه من الهموم، حتى إذا اقترب من خيام قومه سار وهو يترنح إلى خيمة الهجرس ابن أخيه، وناداه في احتراس من باب الخباء، فتنبه الهجرس وخرج إليه مسرعا، وعرفت سلمى زوجة الهجرس صوت أبيها المهلهل فخرجت إليه متلهفة.
فلما وقع نظر المهلهل عليها أشار إلى الهجرس ليتبعه، وأشار إلى سلمى أن تدخل الخباء في صمت. ثم مضى مع ابن أخيه حتى خرجا من بين الخيام وذهب إلى جانب كثيب من الكثبان القريبة، فاستترا وراءه وجعلا يتحدثان.
ولم تمض بعد ذاك الاجتماع ساعة حتى كان المهلهل والهجرس يستعدان للنزوح عن قومهما، وقد عزم المهلهل عزما لا يتزعزع على أن يترك جوار قوم حدث بعضهم بعضا بسبه وتنادوا بقتله، وخاض جماعة منهم في عرضه وشرفه وانتقصوا منه وتآمروا عليه. ولم يصحبه في عزيمة الرحيل إلا طائفة ضئيلة من أهله وعبيده.
وذاعت في حلل تغلب بعد حين ذائعة من رحيل المهلهل، فأسرع جمهور من شيوخها وكهولها إليه ليردوه عن قصده، ويحاولوا الاعتذار عما أجرم بعضهم في التطاول عليه، فلم يجدهم ذلك، وأصر المهلهل على المسير عنهم بأهل بيته.
وفي بكرة الصباح التالي اجتمع الناس رجالا ونساء لينظروا إلى بطلهم النظرة الأخيرة، ولم يملك المهلهل وهو يلقي عليهم آخر نظراته إذ ينحدر في سيره وراء الكثبان البعيدة أن يمسح دمعة غلبته، دمعة الأسى على فراق قوم طالما شاركهم وشاركوه في مخاطر الحروب وفي نشوة النصر وفي كسرة الهزيمة.
الفصل الخامس عشر
بعد عامين من ذلك اليوم كان المهلهل يسير وحيدا، لا رفيق له ولا أنيس، بعد أن قتل ابن أخيه الهجرس في غزوة من غزواته، وبعد أن قتل رفاقه القلائل واحدا بعد آخر في مصادماته العدة مع القبائل التي كان يمر بها. وهان أمره في القبائل حتى اضطر إلى تزويج ابنته الجميلة سلمى مرغما صاغرا من غير أكفائها، ولم يستطع في ضعفه أن يعاقب خاطبها الجريء، بل أجابه إلى زواجها وقلبه يتحرق، والعجز يخرس لسانه. وأخذ يضرب في الأرض بعد ذلك وحيدا إلا من عبدين وراحلتين وفرسه المحبوب «المشهر» وسيفه ودروعه التي آلى على نفسه منذ أعوام طويلة ألا يخلعها عن جسمه.
كان المهلهل بعد عامين من تلك الحياة المضطربة يسير وحيدا في صحبة عبديه، يريد النزول إلى جوار ماء من مياه هجر، بعد أن جفت بقايا الأمطار في القفر الذي اتخذه موطنا، فمر في أرض ينزل بها جماعة من بكر؛ من بني قيس بن ثعلبة قوم الحارث بن عباد. فسمع عوف بن مالك كبير القوم بمروره وخشي أن يكون قد أقبل عليه مغيرا يطلب غرة فيستاق من الأموال والنعم ما يجد، ثم يمضي سريعا كما كان يفعل كلما مر بقبيلة من بكر. فأرسل إليه كتيبة صغيرة ترصد له، حتى إذا ما اقترب منها وقفت تعترض سبيله. فأسرع العبدان إليه خائفين وقالا وهما يرعدان من الخوف: «هذه جماعة من بكر!» فنظر إليهم المهلهل كاسفا وقال كأنه يخاطب نفسه: «أين مني الأحرار؟» ثم صاح بهما وقد أشرع رمحه: «تنحيا عني لا أبا لكما.»
ومضى في سبيله والعبدان يسيران خلفه في بطء، وقد انخلع قلباهما، حتى إذا ما صار عند القوم أراد أن يخترق صفهم لا يلتفت إلى يمين ولا إلى يسار. وغمز فرسه المشهر فاندفع مسرعا حتى خالط الصف، وأوشك أن ينفذ من بينهم، فثار البكريون لهذه الجرأة واخترطوا سيوفهم واندفعوا إليه فأحاطوا به من كل جانب ولكنهم لم يمسوه؛ فقد كان أمر عوف بن مالك أن يعودوا به أسيرا.
ومضى المهلهل في سبيله ورفع الرمح فأهوى به على أقرب فارس منه فطعنه في صدره فألقاه صريعا، واضطربت الجماعة لحظة تمكن المهلهل في خلاها من أن يخرج من دائرتها، وأشرع الرمح مرة أخرى وأهوى به على فارس آخر يقصد قلبه، فتلقى الفارس طعنته في مجنه، وأسرع الفرسان فالتفوا حوله مرة أخرى وضرب أحدهم رمح المهلهل بسيفه فقصمه وصاح قائلا: «أسلم نفسك قبل أن نزيل هذا الرأس الأحمق عن جسدك.»
فتكبر المهلهل أن يرد على الرجل، وأسرع كالبرق فاستل السيف وأهوى به على رأسه فأرداه عن فرسه.
فاستشاط الفرسان غضبا واندفعوا نحوه من كل جانب يضربونه بسيوفهم وهو يراوغهم، ويتلقى ضرباتهم ما استطاع؛ يتلقاها على سيفه تارة وعلى مجنه أو درعه أخرى، حتى ظن القوم أنه قد أعجزهم، وعزموا على الفتك به فتصايحوا: «لا تبقوا على الوغد!»
ولكن المهلهل قاوم ودافع حتى كاد يأتي على آخرهم، لولا جراح أصابته نزفت منها دماؤه فأضعفته عن المقاومة، ومال عن سرجه خائر القوى، ولا يزال السيف في يده يقطر من دماء بني بكر.
فوجد الفرسان عند ذلك فرصة أمكنتهم منه، فأحاطوا به واستطاعوا أن يحملوه إلى عوف بن مالك وهو بين الحياة والموت.
وقضى المهلهل في أسر عوف أشهرا يرسف في قيوده ولا يجد سلوة إلا في التغني برثاء أخيه، أو تذكر وقعاته في بني بكر.
ولم يكن أحد يجرؤ أن يدنو من خيمته إلا امرأة الشيخ عوف بن مالك وهي من بنات خئولته اسمها «جيبة ابنة المجلل». وكانت امرأة شابة جميلة حلوة العينين عذبة الحديث، عطفت على المهلهل أشد العطف في محنته، بعد أن كانت تكبر بطولته في حروبه، فكانت تحمل إليه كل يوم طعامه وشرابه، وتحادثه وتروح عنه. وكان المهلهل يأنس إليها حينا ويعرض عنها حينا، ويقبل منها طعاما يوما ويرفضه أياما، وهي مع كل ذلك دائبة على العناية به والترفق في أمره.
وجاءه يوما رجل من أتباع عوف فدخل عليه خباءه وهو باسم كأنه قد جاءه ببشرى، وقرب منه وجعل يحل وثاقه، وهو مطمئن إلى شكره وعرفانه. ولكنه ما كاد ينتهي من إطلاق يمينه من قيدها حتى بادره الأسير العنيف بضربة على أم رأسه كاد الرجل يخر منها صريعا، فارتد مسرعا وهو يترنح، حتى إذا ما صار على باب الخيمة صاح به حنقا: «ما الذي حملك على هذا؟ وأي جزاء تجازيني على فك قيدك؟»
فرد المهلهل بصره عنه متكبرا ولم يجب.
فذهب الرجل عنه مسرعا في غيظ شديد، وبقي المهلهل صامتا ينظر إلى أثر حز الحبال المتينة في معصميه. وفيما هو يتغنى حزينا يخاطب ذلك الأثر أقبلت عليه جيبة ابنة المجلل، وهي تنظر نحوه نظرات موزعة بين الإنكار والترفق.
فلما صارت قريبة منه قالت في رفق: «لم ضربت الرجل وقد أتى يفك وثاقك؟»
فنظر إليها المهلهل وألان من نظرته وقال: «وما الذي حمله على فك ذلك الوثاق ولم يستأذني قبل فكه؟ لئن كنت أسيرا فإنني لا أزال أملك قيدي.»
ثم جعل ينظر إلى معصميه ويحدث نفسه وينشد من شعره في بكاء كليب ...
فقالت جيبة في نغمة اعتذار: «لقد بعثه إليك ابن عمك عوف بن مالك وأمره أن يفك قيدك، وما كان يحسب أن ذلك يسوءك، وما يقصد من ذلك إلا التودد إليك، لعلك تأنس إليه. وقد جاءه اليوم قوم من بني عمك فأحبوا أن يأتنسوا بك.»
فتجهم وجه المهلهل وعقد ما بين عينيه وقال وقد لمع الشر في نظراته: «وهل كنت لابن عوف نديما؟»
فقالت المرأة ولا تزال في نغمتها رنة الاعتذار: «لا! ولكنهم يدعونك للمؤانسة. وهل عليك ضير في مجالسة قوم من بني عمك؟»
فأدار المهلهل وجهه عنها وقال مغمغما: «ليس المهلهل بمن يسعى إلى أحد.» ثم جلس في ركن الخيمة، وجعل يتغنى حزينا بمراثيه في أخيه.
فرأت المرأة مراجعة القول لن تجديها شيئا، فانصرفت في صمت وبقي المهلهل يتغنى ناظرا إلى أثر القيود في يديه.
بعد قليل أقبل ابن عوف ومعه ضيوفه حتى وقفوا على باب الخيمة، وتقدم شيخ كبير منهم فقال باسما: «أتأذن لي يا ابن الكرام؟»
فنظر المهلهل نحوه حينا وهو لا يميزه، وغاب لحظة في تفكيره، ثم علت وجهه ابتسامة ضعيفة مترددة، وقال بصوت خافت: «الفند بن سهل؟»
فقرب الرجل منه وقال وهو واقف إلى جانبه: «نعم الفند بن سهل. أبيت أن تسعى إلينا فسعينا إليك.»
فاعتدل المهلهل مرتاحا إلى حديث الرجل، وصاح الفند يخاطب إخوانه الواقفين دون باب الخيمة فقال: لا بأس عليكم يا قوم فقد أذن لنا المهلهل.
فدخل القوم وجلسوا في جوانب الخيمة، ودخل معهم عوف بن مالك فانتحى جانبا وهو صامت.
وتبسط المهلهل في حديثه مع الفند، ثم امتد الحديث إلى سائر الجلوس، وكأن المهلهل قد نسي ما هو فيه من أسر وضيق وذل، فجعل يحدث القوم ويرحب بهم ويؤانسهم بالتحية كأنهم ضيوفه، وكأنهم قد نزلوا عليه في بعض رحابه.
وبعد ساعة جاءت جفان اللحم والثريد، ووضعت السنام مشوية مع الكبد في صحفة جعلت بين يدي المهلهل، وحملت الخمر فأديرت على الحاضرين في كئوس من نحاس، وأقبل الجميع على السمر في خيمة المهلهل كأنهم في وليمة حافلة.
هكذا أراد الضيوف، ولم يستطع عوف بن مالك أن يضن بمطلب طلبه منه زائروه.
وأراد المهلهل أن يمتنع عن مشاركة القوم في شرابهم برا بقسمه الذي أقسمه عند قتل أخيه، ولكن شيئا غلبه على امتناعه فجعله يرضى بمقاسمة القوم شرابهم. أكان ذلك ليأسه من متابعة النضال؟ أم كان لاقتناعه بأنه قد أدرك ثأر كليب؟ أم كان لأنه لم يقدر على مقاومة إغراء رائحة الخمر التي حرم مذاق راءوقها الصافي تلك السنين العدة بعد أن كان لا يصبر عنها يوما؟ مهما يكن من ذلك فقد أقبل على الشرب وانحلت منه عقدة الهم، وعاد اللون إلى وجهه وانبسطت أساريره، وكسته ابتسامة وديعة، وضرب مع الجلوس في الحديث.
وتحدر السمر وتصعد في شعاب وشجون، وكان القوم يصغون في شوق إلى أقوال المهلهل ويستملحون قصصه ويستعذبون أشعاره. ثم دارت الخمر في رأسه فتدفق في إنشاده وانساب في حديثه حتى صار هو وحده متكلم القوم، ولكنه لم يلبث أن نسي موضعه وحاله، وجعل يتذكر مواقعه في بكر، وينشد من أشعاره مفاخرا بقومه متغنيا بمن قتل من سادات بكر وشيوخ قيس بن ثعلبة.
ثم قام في حماسة كأنه قد خيل إليه أنه واقف في صفوف تغلب يذمرهم للحرب، ويحرضهم على الاستبسال في الهجوم، وأخذ يشير بيده ناظرا إلى الفضاء الفسيح الذي دون الخيمة وجعل ينشد:
شفيت النفس من أبناء بكر
وحكت بركها ببني عباد
إذا ما الخيل بالأشكال جالت
وفي لباتها أسل الصواد
وثار النقع بينهم وثارت
لها أسد على أسد عواد
بضرب تشخص الأبصار منه
وطعن مثل أفواه المزاد
فنظر إليه الجلوس ووجموا، ثم نظروا إلى عوف بن مالك فإذا هو مربد الوجه محمر العينين، وإذا هو يقبض على سيفه وينفث من غيظه كما تنفث الحية.
وأراد أحد الضيوف أن يخفف من وقع الأمر، فقال للمهلهل في لهجة المداعبة: «ألا تقول لنا شيئا عن غزلك يا مهلهل؟»
فمضى المهلهل كأنه لم يسمع قول الرجل، وتحولت رنة صوته كأنها صيحة حرب، وقال:
رب خيل لقيتها لا أبالي
حيث ألقى كماتها مغوارا
إننا معشر إذا ما غضبنا
ضاقت الأرض نقتفي الآثارا
إن أقمنا أقامت الناس طوعا
أو أردنا الحروب سرنا جهارا
وعند ذلك لم يطق عوف بن مالك صبرا، فنهض فجأة وصرخ قائلا: «أيفخر العبد علينا في ديارنا؟»
ثم خرج وهو يضطرب من الغيظ، وقد وضع يده على مقبض سيفه وسار يخطو خطوا سريعا حتى بلغ خيمته، وسار القوم جميعا في أثره وتركوا المهلهل قائما ينشد ويتغنى، ويفخر بما أنزل بالبكريين من ويلات.
حاول الضيوف أن يعتذروا إلى عوف مما سببوه له من الإهانة، وأرادوا أن يخففوا عنه وقع أشعار المهلهل، ولكنه لم يسكن بل استمر على اضطرابه وصخبه في فناء خيمته وهو يسير ذهابا وجيئة في هياج.
ثم وقف فجأة وقال: «لقد كان أولى لنا لو تركناه في قيوده، ولكن هذه الرقة التي حملتكم على مجالسته قد حرضته علينا، وها أنتم هؤلاء سمعتموه يتغنى بسب قومي، وحق مناة ليموتن بأشنع ميتة ماتها رجل! لا يذوقن طعاما ولا شرابا حتى يرد زبيب!»
وكان زبيب فحلا قويا من الإبل لا يرد الماء إلا كل عشرة أيام.
في الليلة الثانية بعد ذلك اليوم كانت جيبة ابنة المجلل تسير في الظلام خلسة وهي خائفة والهة، حتى بلغت خيمة المهلهل، فنظرت حولها خشية أن يراها أحد، فلما لم تجد أحدا دخلت مسرعة حتى جاءت إلى الأسير وجعلت تفك قيوده وتقطعها بسكين أخرجتها من طيات ثيابها.
ونظر إليها متعجبا أول الأمر، ثم سألها في دهشة: «ماذا تفعلين يا أم عمرو؟»
فقالت المرأة هامسة: «قم! أسرع! أسرع قبل أن تهلك.»
فلم يتحول المهلهل من موضعه بل سألها: «ماذا تقصدين؟»
قالت جيبة: «قم! إنك لن تذوق طعاما ولا شرابا حتى يرد زبيب. إنك هالك لا محالة؟ هكذا حلف عوف بن مالك.»
ولكن المهلهل بقي في موضعه لم يتحرك، فعجبت المرأة وقبضت على ذراعه وحاولت أن ترفعه وتدفعه وهي تهمس في هلع: «قم!»
فجذب المهلهل نفسه بعنف وقال: «اذهبي عني، لن أشتري حياتي بالذلة مرتين، أأهرب حتى أجعلك فداء وأتستر من وراءك لكي تلاقي أنت غضب زوجك الحانق؟»
فوقفت المرأة متعجبة حينا، وأرادت أن تعاود الكرة عليه في الإلحاح، فنظر إليها المهلهل واجما، وقال: «قلت لك اذهبي عني، اذهبي قبل أن أصيح في الحي منذرا بمكانك.»
فلم تجد جيبة بدا من الذهاب وخشيت افتضاح أمرها، فأسرعت راجعة إلى خيمتها وهي تترجح بين الغضب والخيبة. ولم يسمح عوف بن مالك لأحد أن يذهب إلى خيمة المهلهل بطعام أو شراب إلا إذا ورد زبيب بعد عشرة ليال. ثم ذهب إليه ليراه فإذا هو قد هلك من الجوع والعطش، ولم يملك نفسه عندما وقعت عينه عليه من أن يخشع ويحزن كما يخشع الصائد وهو يرى الأسد صريعا.
ووقف ينظر إلى عبديه وهما ينزعان عنه دروعه لأول مرة بعد أن بقيت على جسده سنين طويلة، وكانا كلما نزعا منها قطعة صحبتها قطعة من جلده الذي لصق بها. ولكنه عندما نظر إلى يديه ورجليه لم يجد فيهما قيدا ولا وثاقا، فصاح بالعبدين: «من نزع القيد والوثاق عنه؟ لقد أردت أن أدفنه في قيوده.»
فنظر العبدان إليه حائرين ولم يجيبا.
فرفع يده بالسيف إليهما مهددا وكاد يهوي به عليهما.
لولا أن دخلت امرأته مسرعة وهي تصرخ: «لا تفعل يا أبا عمرو! لا تفعل!»
فنظر الرجل إليها متعجبا وقال في غضب: «خلي سبيلي، مالك والعبدين!»
فقالت المرأة في هلع وهي مندفعة اندفاع اليائس: «لقد فككتها أنا! أنا التي فككت قيوده.»
فصاح بها الرجل المخيف قائلا: «أنت؟ أيتها الخائنة!»
فتعلقت به المرأة باكية وقالت: «أليس ابن عمتي؟ رأيته يموت فلم يطاوعني قلبي أن أرى بطل تغلب يتلوى يصارع الموت جوعا وعطشا، فحللت قيوده وتضرعت إليه أن يهرب.»
ثم سكتت لحظة وأجهشت بالبكاء وقالت في نشيجها: «ولكنه أبى وآثر الموت!»
فسكن غضب عوف قليلا ثم قال في دهشة: «لم يرض أن يهرب؟»
فقالت المرأة باكية: «لقد أبى، وقال لا أشتري الحياة بالذلة مرتين.»
فوقف عوف صامتا لحظة، ثم وضع سيفه في قرابه، ونظر إلى المهلهل نظرة طويلة، وجعل يتأمل جسمه الضعيف النحيل، وجلده المقطع ودرعه التي علاها الصدأ، ثم تنفس نفسا عميقا، وقال في حزن: «أبى المهلهل إلا أن يموت كريما! مات سيد ربيعة.»
ثم أمر العبدين أن يترفقا بالجسد المحطم الذي يجهزانه، وذهب إلى قومه لينعي إليهم المهلهل، ويستعد لإقامة المأتم لعدوه البطل، ولم يضن عليه بدمعة حسرة وهو منصرف من باب خيمته الساكنة.
صفحة غير معروفة