من أهم المغالطات وأكثرها شيوعا، وإن أنساقا فلسفية بكاملها، ومذاهب سياسية واجتماعية وأخلاقية، ونظريات علمية، لتقوم على هذه المغالطة الكبيرة وتتأسس عليها، وإذا كان للفلاسفة مطلق الحرية في أن يقرروا أي الأشياء يعد حقيقيا وأيها غير حقيقي، فليس من حقهم أن يرحلوا تشييآتهم إلى الحقول الأخرى من البحث ملحقين بها اضطرابا وخلطا كان منه بد ... يعج تاريخ العلم والاجتماع والسياسة، وحتى الرياضيات، بعثرات كبرى عطلت مساره حقبا، كنتيجة لإلحاح المفكرين في طلب «تعريفات حقيقية» تقرر ما «تكونه» الأشياء استنادا إلى «ما ينبغي أن تكونه» في تصورهم، وإنكار أصقاع كاملة من البحث بوصفها غير حقيقية أو غير صالحة.
للتشييء رغم ذلك مجاله الذي يستخدم فيه، عن قصد وإدراك، لخدمة الحقيقة والتعبير عن الواقع، ذلك هو المجال البياني البلاغي كما يتجلى في ألوان الاستعارة والمجاز والتشخيص، وهي وسائل لغوية شديدة الأهمية والجدوى في الأدب والشعر (بل في العلم نفسه في بعض الأحيان!) وبعيدة عن المغالطة بحكم طبيعة التعبير ذاته وموقفنا فيه ومأخذنا له، على ألا نمتد بتلك الاستعارات البريئة إلى غير مقصدها ونحملها على غير محملها.
الحق أن التشييء ليس أكثر من استخدام «استعارة»
metaphor ، غير أنه، حين يكون مغالطة، يأخذ الاستعارة بعيدا، أو يأخذنا بها؛ حتى ننسى أنها استعارة ونبدأ في الاعتقاد بأن كياناتنا التصورية المجردة لديها الخصائص العيانية التي أضفيناها عليها على سبيل الاستعارة، إن طريقتنا في وصف الشيء لها بالغ الأثر فيما نعتقده عن الشيء، يعني ذلك أن انطباعنا عن الواقع تشيده، إلى حد كبير، اللغة التي نستخدمها في وصف الواقع، هكذا تهيب بنا دراسة «التشييء» أن نتوخى الحذر في طريقتنا في وصف الأشياء، لئلا نشرع، دون أن ندري، في تصور أن وصفنا يحوي ماهية موضوعية خارج اللغة ذاتها.
من الحالات النمطية للبارانويا، أو الفصام البارانوي، أن يعاني المريض من اعتقاد راسخ بأنه مضطهد من قبل إخوته وأقاربه وزوجته وجيرانه وأصدقائه وزملاء عمله، وقد يكون هناك شيء من الاضطهاد الطفيف كرد فعل لسلوكه العدواني تجاههم، وقد يكون هؤلاء انفضوا عنه نتيجة شكوكه واضطرابه، غير أن المريض لا يعني ب «الاضطهاد» هنا مجرد وصف لسلوك هؤلاء، ولا «يرده» إلى مجموع استجاباتهم السلوكية تجاهه، بل «يشيئ» (يؤقنم)
reify, hypostatize
الاضطهاد ويوقن بأن هناك «قوة سرية» من وراء هذه الاستجابات السلبية، ليس «الاضطهاد» عنده مجرد «فئة» من الأحداث يصنف تحتها سلوكات الآخرين حياله، بل هي «كيان حقيقي» مستقل عن العالم يقبع من وراء هذه السلوكات ويسببها بطريقة سرية، وما الإخوة والأقارب والزوجة والجيران وزملاء العمل إلا عملاء لهذه «القوة»، إنها كيان واقعي أفلاطوني قائم، يتمتع بوجود حقيقي ووضع أنطولوجي.
إن التشييء ضرب من الجنون العقلي سهل الانكشاف في حالة البارانويا، غير أنه أصعب انكشافا في الحالات الأكثر اعتيادا وإلفا، والتي نصادفها كل لحظة في حياتنا اليومية وفي حواراتنا وقراءاتنا ومشاهداتنا التليفزيونية.
يشيئ العرافون وزبائنهم مفهوم «المستقبل» وكأنه «شيء» يمكن أن يقبع في المرمدة أو الفنجان أو كرة البلور، أو كأنه نوع من البلاد قائم هناك حيث تجري الحوادث التي سوف يعاد إنتاجها على هذه الأرض حين يأتي أوانها، إنها «هناك» تمكن رؤيتها على نحو غامض في الكف وثفالة البن وأوراق اللعب، وما عليك سوى انتظار وصولها مثلما تنتظر خطابا هو في البريد بالفعل.
يقول هيجل:
صفحة غير معروفة