يقول أفلاطون في محاورة جورجياس: «في جدال حول الغذاء يدور أمام جمهور من الأطفال فإن الحلواني كفيل بأن يهزم الطبيب، وفي جدال أمام جمهور من الكبار فإن سياسيا تسلح بالقدرة الخطابية وحيل الإقناع كفيل بأن يهزم أي مهندس أو عسكري، حتى لو كان موضوع الجدال هو من تخصص هذين الأخيرين، وليكن تشييد الحصون أو الثغور! إن دغدغة عواطف الجمهور ورغباته لأشد إقناعا من أي احتكام إلى العقل.»
حقا ... ليس بالحق وحده تكسب جدالا أو تقهر خصما أو تقنع الناس، من هنا يتبين لنا أهمية دراسة الحجة كما ترد في الحياة الحقيقية وتتجسد في اللغة العادية.
ذلك أن الحجة حين ترد في الواقع الحي لا تأتي مجردة مصفاة، ولا تكشف صيغتها المنطقية للمتلقي بسهولة وطواعية؛ إذن لكان تمحيصها أيسر عليه بما لا يحد، إنما تأتي الحجة دائما ممتزجة بلحم اللغة ودمها، متلفعة بانفعالات الناس وأعرافهم، مؤربة بتضاريس الواقع، وبشئون الناس وشجونها.
وما تشكل الصيغة المجردة للحجة (المقدمات المؤدية إلى نتائج) إلا لبا ضئيلا أو هيكلا نحيلا متواريا وراء طبقة كثيفة من الاعتبارات الدلالية
semantic
والتداولية
pragmatic
للغة،
3
ومن طبيعة الخصم وأيديولوجيته وسيكولوجيته، ومن مقام الحديث وسياق الجدل، ومن عواطف جمهور الحاضرين وانتماءاتهم وتحيزاتهم.
صفحة غير معروفة