2
ثم عرضنا لرأي النحاة في نشأة اللغة وطبيعتها. لم يكن الإطار المعرفي الذي يفكر داخله النحاة ليسمح لهم بأكثر مما رأوه، واستثنينا عبد القاهر الجرجاني الذي كانت نظريته في «النظم» استباقا مدهشا لكثير من الأفكار الفلسفية واللغوية المعاصرة.
ثم انتقلنا في فصل «اللغة والمنطق» إلى قضية النحو العربي، وبينا أن تاريخ النحو كان تاريخ صراع بين ثقافتين: ثقافة العرب وثقافة الموالي، كتب فيه النصر، للأسف، لثقافة الموالي الذين بالغوا في تضخيم النحو وأثقلوه ومنطقوه، وجمدوا اللغة وأبعدوها عما ألفته في «بيت أبيها» من رحابة وسماحة وسجية، وهذه تذكرة تحمل في ذاتها دعوة إلى إعادة «تعريب النحو»! وتخليصه من اللحاء الأرسطي الثقيل، الذي أضر بالعربية وخنقها وأوحى إلى الناس أن يهجروها.
وفي فصل «التغير اللغوي» نوهنا إلى ظاهرة التغير وعرضنا، بشيء من التفصيل، لأسبابه وأنواعه، والتوتر القائم بين فكرة «التغير» وفكرة «اللحن» في أذهان اللغويين القدماء والمحدثين، وبينا أن الخطأ المشهور لا يعود خطأ؛ إذ إن شرعية اللغة الشيوع! وعرضنا نماذج من «تصحيح الصحيح»! جعلنا منها فرصا لتصويب الفكر قبل الكلمات، وبينا أن كثيرا مما يقال له «خطأ» في اللغة هو خطأ اللغويين أنفسهم هواة «قل ولا تقل»، الذين ثقل على أذهانهم الركام الأرسطي فعزلهم عن السليقة العربية، وأفقدهم الفطرة اللغوية فجعلوا يخطئون الناس ويبثون فيهم اليأس من الفصحى والتوجس منها.
وفي فصل «العامية والفصحى» عرضنا لقضية ازدواجيتنا اللغوية التي تهدد العقل العربي بالانشطار والتشوش، وبينا أن سد الفجوة بين العامية والفصحى لا يكون باحتقار العامية، بل بمهادنتها واسترفادها، ورصد فصيحها وترويجه وإدراجه في مناهج التعليم، حتى يأنس النشء بلغتهم التي يدرسونها ولا يعودوا يحسون في دراسة الفصحى أنهم يتعلمون لغة أجنبية.
وفي فصل «تعريب العلم» اقتحام لهذه المسألة الشائكة المعلقة، بينا فيه أن التعريب ضرورة ملحة: قومية وعلمية ونفسية ولغوية، وأن التقاعس عن التعريب هو انتحار جماعي بشع، وتخل عن أمانة تاريخية علينا أن نحملها ولا نشفق منها.
وفي فصل «مزايا العربية» بينا، بحيدة وموضوعية، ما تتمتع به العربية من فضائل بنيوية ودلالية، وعرضنا لقضية غياب فعل الكينونة ودلالته الفلسفية، واحتمال وجود منهج علمي وفلسفي مضمر في قلب العربية علينا أن نستكشفه ونستوحيه.
وفي فصل «ضرورة الإصلاح» عرضنا لمعنى الإصلاح وخصائصه، واقترحنا ما أسميناه «نظرية الاستعمال» كوصفة شاملة للإصلاح اللغوي في مجال التقعيد والتعليم والتعلم، وأشرنا بسهم إلى الطريق الثالث الذي ينبغي أن نتخذه في مسيرنا إلى الفصحى الجديدة التي علينا أن نؤسسها، مثلما أسس دانتي الإيطالية، تواتينا في ذلك رياح الكوكبية وقوى العولمة التي تحل لنا، من حيث لا نحتسب، مشكلة الحرف العربي، وتعكس الميول اللغوية القديمة؛ إذ تقرب اللهجات وتوحد اللغة وتمنع انشعابها، وتيسر نشرها وتعلمها، وتلقيها على مسامع الناس بالغدو والآصال، وقلنا: إن تلك فرصة سانحة علينا أن ننتهزها ولا نضيعها. (2) إحياء التراث
ليس ثمة تناقض بين تجديد اللغة وإحياء التراث كما قد يبدو للنظرة السطحية العجلى، فالحق أن العربية لغة معمرة، تنمو من داخلها بالاشتقاق والتعريب، ويظل جذرها الثلاثي حاضرا عتيدا، ويظل ماضيها موصولا بحاضرها يغذوه ويمسكه ويمده بأسباب النماء.
بإهاب كل مجدد كبير كلاسيكي كبير، وفي طي كل تجديد شيء من الإحياء! وإن جيلا نسي ماضيه لهو جيل شائخ لا مستقبل له. ليس إحياء التراث غيابا في الماضي أو اغترابا عن الحاضر وغفلة عن الآتي؛ فلا بناء بغير دعائم، ولا سموق بغير جذور، ليس إحياء التراث ترفا بل ضرورة، ولا سباتا بل هو الصحو واليقظة والإفاقة، إنه ضرورة لكل أمة تريد أن تسترد وعيها وتستعيد توجهها وتتعرف خط سيرها. إن حاضرا بلا ماض هو ذهول وشرود وفقدان ذاكرة، وضرب في التيه بعد ضياع الخرائط واشتباه الطرق والتباس الأمام والوراء.
صفحة غير معروفة