ثانيا:
أنها بعد الفتوحات بسطت ظلها على أصقاع مترامية من الأرض، وقضت على لغات قديمة فيها (كالسريانية واليونانية والقبطية ... إلخ) بعد أن نقل إليها، بالترجمة والتعريب، عصارة هذه اللغات وخبرات أهلها الذين أسلموا واستعربوا؛ فصارت العربية في أدبها وعلومها نتاج كل هذه الأمم، وصارت، من حيث الرصيد العلمي والحضاري، مجموعا جبريا لعدة لغات عريقة!
ثالثا:
أنها صينت، برغم التوسع الجغرافي، من التفتت إلى لغات منفصلة؛ بفضل كتاب جامع وعقيدة موحدة وعلماء أفذاذ؛ فامتد بها الأجل أكثر من سبعة عشر قرنا من الزمن محتفظة بأسسها ونحوها وجذرها الثلاثي، وهي مزية لم تتح لأي لغة من اللغات.
من شأن هذه الظروف التاريخية الخاصة، وهذا الامتداد الجغرافي والزمني، وهذه البسطة الأفقية والرأسية، أن تجعل من العربية لغة ضخمة واسعة، صعبة بطبيعة الحال، صعوبة الاكتناز والثراء والغنى، وإذا كان قدرنا أن نبذل في تعلمها جهدا أكبر مما يبذله غيرنا في لغته فإن جهدنا فيها لا يذهب دون مقابل.
يتضمن الكتاب الذي بين يديك مراجعة شاملة لفقه اللغة العربية، تتناول قصتها من مبدئها إلى منتهاها، عسانا أن ندرك ما لهذا الكائن الجميل المقيم معنا وفينا من جلال وحسب؛ فنحتشد لنصرته، ونتنادى لإنقاذه. (1) أخطاء النحاة
في الفصل الأول والثاني تجد عرضا مفصلا لعملية جمع اللغة العربية على أيدي النحاة الأوائل، أخطأ النحاة في جمع اللغة وتقعيدها أخطاء منهجية معروفة، عرضنا لها بشيء من التفصيل، وأخذناها بحجمها، ووضعنا أمرها في نصابه.
قد تكون لبعض الأخطاء ثمار حلوة، وعواقب محمودة، ونواتج بعدية سائغة تتجاوز منشأها، وتصبح قيمة بحقها الشخصي! مثلما ينتج اللؤلؤ عن خطأ حل بالمحار؛ فتغمدته حظوة الزمن:
خلط اللهجات كان خطا منهجيا بغير شك، أفضى إلى لغة جسيمة داخلها عنصر اصطناعي؛ لغة متخمة بالمترادف والمشترك والأضداد والغريب؛ لغة لم يتحدث بها أحد في أي وقت على نحو طبيعي؛ ذلك أنها ليست لغة واحدة، كما قلنا، بل حزمة لغات، غير أن هذه الجسامة صارت وديعة الزمن؛ الزمن الذي يقصي ويصطفي، ويعجم ويجرب؛ فأخذها بالتنقيح والنخل، واجتبى منها الأجمل والأسلس، فاستوت في النهاية لغة بديعة قسيمة تامة الخلق خلابة البنيان.
وأخطأ النحاة حين استندوا إلى الشعر في أغلب شواهد اللغة، وهنا أيضا لا نعدم أثرا إيجابيا لهذا الخطأ المنهجي؛ فاللغة التي استمدت مادتها وشواهدها من الشعر لا يمكن إلا أن تكون «لغة شاعرة»، تؤثر النغم وتكره الثقل، وتعرف الحذف والإيجاز واللمح، ويدخل المجاز منها في الصميم.
صفحة غير معروفة