لم تكن الفروق بين النثر والشعر خافية على علماء العرب، ومنهم من أفاض في الحديث عنها. يقول أبو حيان التوحيدي في فضل النثر: «سمعت أبا عابد الكرخي صالح بن علي يقول: النثر أصل الكلام، والنظم فرعه، والأصل أشرف من الفرع، والفرع أنقص من الأصل، لكن لكل واحد منهما زائنات وشائنات، فأما زائنات النثر فهي ظاهرة؛ لأن جميع الناس في أول كلامهم يقصدون النثر، وإنما يتعرضون للنظم في الثاني بداعية عارضة، وسبب باعث، وأمر معين ... قال: ومن شرفه أيضا أن الوحدة فيه أظهر، وأثرها فيه أشهر، والتكلف منه أبعد، وهو إلى الصفاء أقرب ... قال: وليس كذلك المنظوم؛ لأنه صناعي؛ ألا ترى أنه داخل في حصار العروض وأسر الوزن وقيد التأليف، مع توقي الكسر، واحتمال أصناف الزحاف؛ لأنه لما هبطت درجته عن تلك الربوة العالية دخلته الآفة من كل ناحية ... قال: ومن شرف النثر أيضا أنه مبرأ من التكلف، منزه عن الضرورة، غني عن الاعتذار والافتقار، والتقديم والتأخير، والحذف والتكرير ... إلخ،
3
وقال عيسى الوزير : النثر من قبل العقل ، والنظم من قبل الحس، ولدخول النظم في طي الحس دخلت إليه الآفة، وغلبت عليه الضرورة، واحتيج إلى الإغضاء عما لا يجوز مثله في الأصل الذي هو النثر.»
4
وفي فضائل الشعر يقول التوحيدي: «من فضائل النظم أن صار صناعة برأسها، وتكلم الناس في قوافيها، وتوسعوا في تصاريفها وأعاريضها، وتصرفوا في بحورها، واطلعوا على عجائب ما استخزن فيها من آثار الطبيعة الشريفة، وشواهد القدرة الصادقة؛ وما هكذا النثر، فإنه قصر عن هذه الذروة الشامخة، والقلة العالية، فصار بذلة لكافة الناطقين من الخاصة والعامة والنساء والصبيان.» وقال أيضا: «من فضائل النظم أنه لا يغنى ولا يحدى إلا به ... والغناء معروف الشرف، عجيب الأثر، عزيز القدر، ظاهر النفع في معاينة الروح، ومناغاة العقل، وتنبيه النفس، واجتلاب الطرب وتفريج الكرب، وإثارة الهزة، وإعادة العزة، وإذكار العهد، وإظهار النجدة، واكتساب السلوة، وما لا يحصى عدده.»
5
ويقول ابن خلدون: «الشعر هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على أساليب العرب المخصوصة به، فقولنا الكلام البليغ جنس، وقولنا المبني على الاستعارة والأوصاف فصل له عما يخلو من هذه، فإنه في الغالب ليس بشعر. وقولنا المفصل بأجزاء متفقة الوزن والروي فصل له عن الكلام المنثور الذي ليس بشعر عند الكل. وقولنا مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده بيان للحقيقة؛ لأن الشعر لا تكون أبياته إلا كذلك ولم يفصل به شيء. وقولنا الجاري على الأساليب المخصوصة به فصل له عما لم يجر منه على أساليب الشعر المعروفة، فإنه حينئذ لا يكون شعرا، إنما هو كلام منظوم لأن الشعر له أساليب تخصه لا تكون للمنثور.»
6
ويقترب ابن خلدون كثيرا من الفكرة الحديثة عن خصوصية لغة الشعر واختلافها الكيفي المقصود عن اللغة العادية، فيقول في الفصل نفسه من المقدمة: «ولا يكفي (في الشعر) ملكة الكلام العربي على الإطلاق، بل يحتاج بخصوصه إلى تلطف ومحاولة في رعاية الأساليب التي اختصته العرب بها واستعمالها.»
7
صفحة غير معروفة