وزاده إيضاحا بقوله في موضع آخر من كتابه هذا: إن أهل الحضر يتظاهرون بينهم بأنهم تركوا وخالفوا كلام من ينتسب إلى العربية الفصيحة، فهم يخلون بالفصيحة عن قصد وعمد، ومع مثل هذه الحال لا يعمد القاصدون للظفر بجوهر العربية إلى مواطن الحضارة الواسعة، الرقيقة العبارة، ليأخذوا عنها العربية!»
35
أما مشكلة الثقة بالرواية اللغوية فيرى الأستاذ أمين الخولي أن الأقدمين عرضوا لها على نحو أدق وأوضح مما فعل المحدثون، وأفاضوا فيها، وتولوا الإجابة عن كل دقائقها وتفريعاتها، فنجد السيوطي يعقد لها فصولا في «المزهر»: كفصل معرفة ما روي من اللغة ولم يصح ولم يثبت، وفصل معرفة المصنوع، وفصل معرفة الضعيف والمنكر والمتروك من اللغات، وكلها في الجزء الأول، ثم فصل معرفة آداب اللغوي، وفصل من سئل من علماء العربية عن شيء فقال لا أدري، وفصل التحري في الرواية، والفرق بين مثله ونحوه، وفصل في كيفية العمل عند اختلاف الرواة، وفصول أخرى تتصل بالرواية اللغوية وضبطها، تقرؤها في الجزء الثاني من المزهر أيضا، «ولا معنى بعد ذلك لإيراد النقد مبتورا، والاحتجاج به إيرادا واستشكالا، مع تجاهل نفضه وإبطاله، والتغافل عما هناك من الدلالة المسهبة على التحري الممكن في الرواية.»
36 (9) خلاصة القصة
37
يرى الأستاذ أمين الخولي أن «هذه اللغة العربية لم نتلقها التلقي المباشر المشافه الممارس، كما يتلقى الوارث الرشيد تركة من سلفه، كان قد شاركه في التدبير لها والخبرة بها، بل تلقيناها تلقيا غير مباشر ولا مشافه ولا ممارس، كما يتلقى الوارث المحجور الصغير السن تركة من سلف له، ما شاركه قبل في أمرها ولا اكتسب شيئا من الخبرة بها قبل الانفراد؛ فأصبح وليس هو صاحب اليد عليها ولا الكلمة فيها، بل الأمر في ذلك ل «وصي» أقيم، وولي أنيب، فهو الذي يدبر أمرها: يؤجر ويبيع ويشتري ويرهن، ولن تخلص تلك التركة إلى وارثها إلا على حال لا عمل له فيها، ولا ذنب له في سوئها، ثم لا يد له بإصلاح أمرها في يسر وسهولة، إن حاول تخليصها مما قيدت به أو أدينت أو عطلت. (1)
الخرجة الكبرى: عاشت هذه اللغة في مهدها من الجزيرة العربية ما عاشت من الزمن وشملها جميع، في عزة من أهلها، حتى كانت الخرجة الكبرى والهجرة البعيدة المدى التي دفعهم إليها الإسلام لنشر دعوته وإقامة دولته، فخرجت اللغة مع آلاف أهلها الذين خرجوا إلى المشرق القديم وأقصى المغرب المعروف. (2)
التذويب: تفرقت اللغة مع الخارجين أوزاعا
38
ومزقا، فما كانوا وكانت إلا كالشعرة أو الشعرات البيضاء في الثور الأسود، وكأنما ذوبوا في هذه الدماء والألسنة والأجناس التي خالطوها؛ وجعلت هذه العربية تتفاعل مع ما خالطت من لغات، فلا تعطي فقط بل كانت تأخذ كذلك، هذا التذويب في المزج الذي صادفه أهلها في الواسع الفسيح من أقطار الأرض حري بأن يخفف من كثافة مادتها وقوة تماسكها، ويخلخل نسيجها منذ اللحظة الأولى التي بدأ فيها، فيدخل عليها الضعف والوهن في صوغها وتركيبها وبيانها. (3)
صفحة غير معروفة