18
غير أن الاحتضار المشهود للفصحى اليوم ربما ينال من «الاتساق الخارجي» لنظرية د. عبد التواب، ويتركها بحاجة إلى اكتمال، ونحن نخشى أن تكون الغيرة المفرطة على الفصحى عاطفة انتحارية أفضت إلى هذا الاحتضار المشهود. ويبدو أننا قد تجاوزنا مرحلة الكراهة والبغض للفصحى إلى مرحلة السخرية والضحك، وهل تعد حية لغة يضحك منها أهلها ولا يفهمونها ولا يتحدثون بها في جد ولا هزل؟ أرى أن الفصحى في موقف لا يحتمل أي نعرة أو تصلب أو نرجسية جريحة، ويليق بنا أن نأخذ أمرها بشيء من اللين والحصافة والقصد.
لقد استنفد المحافظون جهدهم طوال قرن في مهاجمة العامية
19
وتتبع لحن العامية والتنديد به، بينما كانت العامية «تلقى هذا كله بقوة خفية، توشك أن تكون سحرية، هي قوة الحياة، وقوة المجتمع، فهي من الحياة وفي الحياة، وهي تستجيب لسنن الاجتماع مرنة طيعة، فلا تتأثر بتلك المهاجمة، بل مضت تنمو نموا مطردا، فتثري في مفرداتها، وتزيد طاقاتها الفنية، فتتخذ أوزانا للفن القولي جديدة، غير تلك التي عرفتها الفصحى، وبهذه القوة تقدمت فألزمت الفصحى مكانها المحدود، في الحياة الرسمية، دينية وحكومية، ومبلغ أمرها، في أحسن تصوير، أنها لغة القلم، والعامية لغة اللسان، وإنما اللغات صناعة الألسنة.»
20 (4) دانتي وفصاحة العامية
قلنا: إن حالنا في الازدواجية اللغوية أشبه بحال أصحاب اللغات الرومانية (الرومانسية/الشعبية)
Romance languages
في عصر النهضة، وكان دانتي واحدا من هؤلاء. في بداية القرن الرابع عشر كتب دانتي دراسة (لم يكملها ولم تصدر إلا بعد قرنين من كتابتها) بعنوان «في فصاحة العامية»
De Vulgari Eloquentia
صفحة غير معروفة