أشرت في كلمة سابقة إلى مقابلتي لموسوليني بروما سنة 1925 وأنا وزير، وقد قابلت هذا الزعيم السابق مرة ثانية في أغسطس سنة 1932، وأنا رئيس للوزارة، وكانت المقابلة الأولى غير رسمية، أما الثانية فقد كانت مقابلة رسمية في قصر البندقية، وحينما دخلت عليه استقبلني من أول الغرفة، وأخذ يتحدث معي حديثا شعرت منه بأن الرجل شديد المقت للنظم النيابية التي تحول - في رأيه - دون رقي البلاد، بسبب ما ينجم عنها من خلافات شخصية بين المشتغلين بالسياسة ... والذي لفت نظري في شكله عيناه اللتان كان ينبعث منهما بريق عظيم، وتكاد نظراتهما تخترق الحجب ... وقد بادلني الزيارة في المفوضية المصرية، وقدم لي بيده باسم ملك إيطاليا أرفع وسام إيطالي.
وقد استمر حديثنا طويلا، وأذكر أن اشتغاله بالإصلاح كان شديدا إلى درجة أنه سألني عن الطريق، الذي سرت فيه بين نابلي وروما، وهل كان معبدا، فأخبرته أنه عظيم عدا مخارج مدينة نابلي، فإنها تشعر بقلق بسيط، فأجاب: أتعشم أن تعود في اصطيافك من نفس الطريق، فتجده معبدا ... وقد كان!
وهنا كلمني عن تقدم إيطاليا وقوتها، والرقي في كافة نواحي الحياة السياسية والقومية، فسألته: ولكن هل استطعت أن ترقى بأخلاق الإيطاليين إلى ما تتوق أنت إليه؟ ... فقال لي: إني أعني بتربية الشبيبة، وهي التي ستكون إيطاليا الجديدة ... وإني أعتقد أن الشبيبة الإيطالية الآن لا تقل في قوة الأخلاق، وفي العلم عن الشبيبة الألمانية ...!
ولكن موسوليني على ما يظهر كان واهما حينما قال لي هذا الكلام، ولم يكن قد قدر استعداد أهل بلاده للرقي الأخلاقي ... وهذا هو سر الانقلاب، وسر الفشل الذريع في مشروعاته السياسية والحربية!
الصحافة أقوى سلاح حوربت به!
إن الصحافة قوة تستطيع أن تبني، وتستطيع أن تهدم، واستطاعتها في الهدم أشد منها في البناء، خصوصا في بلد لم ينضج بعد النضوج الكافي ولم يتعود التفكير الذاتي. ولو أنه كان جواري صحافة مؤيدة قوية لما استطاع خصومي أن ينجحوا في محاربة دستور سنة 1930، ذلك الدستور الذي بينت كيف وضع بعناية وروية ودقة، والذي كان من أرقى دساتير العالم، وأقلها عيوبا بالنسبة لدستور سنة 1923، بل إنه كان خاليا من تلك العيوب التي عانتها البلاد في الماضي، وتعانيها الآن! ولكن خصومي استطاعوا أن يحاربوني بأقوى سلاح، وهو «الصحافة»، وقد كانت لهم صحافة ذات دعايات حزبية تنشرها في البلاد، وكانت حرة من كل قيد، فأمكنها أن تشوه أغراض هذا الدستور الجديد، ومبادئه الحقة، ووجدت من قرائها من يصدق هذه الدعايات، أو من يجاريها تحت أهواء السياسة، وأقدار الظروف.
تدخل الإبراشي باشا!
وعلى الرغم من هذه الحرب الشعواء، التي كانت تشنها الصحافة، ويشنها خصومي فإني لم أعبأ بذلك أثناء توليتي للحكم؛ لأنها كانت حربا حزبية أو قل إنها شخصية لا تهدف إلى المصلحة العامة، بل تهدف إلى مصلحة شخص أو حزب معين، ولو أنها كانت لوجه الوطن ولمصلحة البلاد العليا بعيدة عن الشهوة لما أخذت هذه الصفة التي كانت تتسم بها طول مدة وجودي في الحكم ... على أنني مكثت ثلاث سنوات أعمل لخدمة بلادي، ومليكي وبنظام الحكم الجديد، وكنت رئيسا للوزارة ووزيرا للمالية، ووزيرا للداخلية، وقد حملت أعباء السياسة والإدارة، وشغلت نفسي ليلا ونهارا غير مدخر وسعا في القيام بواجباتي، وغير مشفق على صحتي حتى مرضت، واعتكفت في مينا هوس.
وهنا برز المرحوم زكي الإبراشي باشا، وأخذ يبث نفوذه، ويتدخل في شئون الحكم والسياسة ... وسافرت إلى أوروبا للاستشفاء، فزاد نفوذ الإبراشي باشا واتسع نطاقه، ولما عدت من أوروبا، وجدت الحال لا تطاق فاعتزمت الاستقالة، ولكني لما قابلت جلالة الملك فؤاد إذ ذاك رأيت من عطفه ورعايته ما جعلني أعدل عن الاستقالة.
على أنه لم تمض إلا فترة قصيرة، حتى كانت أزمة تعيين المرحوم حسن صبري باشا وزيرا في وزارتي، فقد رؤي أنه يعين وزيرا للمالية، ورأيت أن يعين في وزارة المواصلات أو في وزارة أخرى، على أن يعين حافظ عفيفي باشا وزيرا للمالية، فلم يصادف ذلك قبولا، فرأيت عندئذ أن أتخلى عن الحكم في 4 يناير سنة 1933، بعد أن أديت واجبي لوطني بالطريقة، وبالسياسة التي كنت أراهما خيرا للبلاد.
صفحة غير معروفة