فجاءت برقيات جوابية بأن الدولة قد فكرت في كل شيء، وأنها تشكر سيادته السامية على نصائحه.
ثم توجه في أواخر ذي القعدة إلى مكة، وفي أول أيام التشريق وردت البرقيات بأن روسيا قد اعتدت على الحدود العثمانية في الأناضول، وأن الأسطول العثماني قد ضرب السواحل الروسية، وأن الحرب قد أشهرت ضد روسيا وحلفائها. وفي الحقيقة أن الاعتداء وقع من الجانب التركي بحرا، وكان يقود الأسطول العثماني الأميرال سوخون الألماني في البارجتين (كوبان) و(بريسلاو) اللتين التحقتا بتركيا هدية لها من ألمانيا كي تدخل الحرب. وكان لا علم للسلطان ولا للصدر الأعظم ولا لأي شخص من الوزارة بذلك، سوى طلعت وأنور، وحتى جمال السفاح كان يميل إلى جانب فرنسا. وقد استقال يومئذ أربعة من الوزارة، منهم الفريق محمود باشا جوروك صولي وزير النافعة وثلاثة آخرون، كما استقال الصدر الأعظم سعيد حليم، ولكن استقالته لم تقبل.
هذه حقائق ما حدث حين ذاك. فدخلت الدولة في الحرب التي خرجت منها وهي محطمة. وتبع ذلك برقية من الشريف يلح فيها على إرسال النقود الكافية لليمن وعسير وللحجاز، فلم ينل أي رد.
ولم يحصل بعد ذلك من حكومة الاتحاد والترقي أي اهتمام بالولايات العربية، بل كان جل همهم حبس قسم من الجيوش الإنكليزية بمصر، والقسم الآخر بالعراق، لئلا تتفرغ هذه الجيوش إلى الحرب في الميدان الغربي، الذي هو أساس تدور فيه رحى الحرب، والمنتصر فيه هو الغالب.
ومضى الشتاء والأتراك في استعداد لحملة مصر، وقد ساقوا جيوشا جمة إلى جبهة القوقاز، وأخلوا العراق من الجيوش النظامية، واعتمدوا هناك على عساكر الرديف. ولما نزلت الحملة الإنكليزية إلى البصرة لم تجد من يناوئها فسقطت البصرة. وأخذ الجيش الإنكليزي يتقدم نحو القرنة، والعرب في حيرة وقد شعروا بأن الجيش النظامي من أبناء العراق قد أخذ للدفاع عن الولايات التركية، وكانوا يرون أن لو بقوا في وطنهم للدفاع عنه. وجاء الصيف وطلع الأمير إلى الطائف كعادته، ونزلت الجيوش الإنكليزية تتلو الجيوش بالعراق. وكانت الحملة المصرية بقيادة أحمد جمال باشا، فخذل وقهر الجيش العثماني كما هو معلوم.
مراسلات مكماهون
وفي تلك الأثناء، وإذا برجل يسمى علي أفندي البزار - مصري الأصل - جاء إلى الطائف وأحب أن يقابلني فقابلته، وإذا به يحمل كتابا من مستر ستورس الكاتب الشرقي في دار القنصل العام البريطاني بمصر - وقد جرى ذكره قبلا في هذه المذكرات - يقول فيه:
إلى الشريف عبد الله بك
بما أن الدولة العثمانية قد ضربت بصداقتها التقليدية مع بريطانيا العظمى عرض الحائط وانضمت إلى صفوف أعداء بريطانيا الألمان، فإن بريطانيا ترى نفسها في حل من تلك التقاليد التي كانت تربطها بتركيا من القديم. فهل إنكم وسمو والدكم المعظم على رأيكم الأول في القيام بما يجر إلى استقلال العرب استقلالا تاما؟ فإن كنتم وسموه على ذلك الرأي إلى الآن، فإن بريطانيا العظمى على استعداد لإمداد الحركة العربية بكل ما هي بحاجة إليه.
وبالطبع لم أبتهج بهذه الرسالة، للخطر المحقق الذي كانت تجر إليه، لو عرف عنها أو سقطت في يد غير أمينة أو تفوه هو بشيء أو باع نفسه. وبالطبع أجبته بأنك رجل مخاطر بذاتك وقد ارتكبت الشطط فيما فعلت، ولولا الأمانة بأنك رسول لما ابتهجت مني في قدمتك هذه بشيء. وأخذت الرسالة إلى الوالد وعرضتها عليه، فابتسم وقال: اكتب إليهم بوصول الرسالة وقل «بأنا على غير استعداد البتة في الوقت الحاضر للمطالبة بحق العرب» واصرفه أمينا مكرما. ففعلت وذهب.
صفحة غير معروفة