نوال السعداوي
القاهرة: مارس 1990
مذكرات طفلة اسمها سعاد
اللذة، هو الشعور الذي عرفته سعاد حين كانت تجري فوق الأرض الدافئة المشبعة بالشمس، والهواء النقي المنعش يدخل صدرها، وحركة جسمها لا يعوقها شيء، ذراعاها وساقاها وظهرها وعنقها ورأسها، كل شيء فيها يتحرك، والحركة تصل إلى كل خلية في جسدها وعقلها في وقت واحد، فإذا بكيانها كله يتحرك كأنه خلية واحدة مترابطة الأجزاء في انسجام كامل مع بعضها البعض ومع الكون الكبير الذي يحوطها.
أدركت منذ زمن بعيد لا تعرف مداه أن هذه الحركة تبعث في جسدها وعقلها لذة غريبة، ألذ من طعم اللبن الدافئ الذي ينساب في فمها حين تلامسها أمها، وألذ من دفء الدم الذي ينساب في جسدها حين تلامس يدها، وألذ من ملمس الكرة الناعم حين تمسكها بيديها.
ما إن تمسك الكرة بيديها حتى تقذفها مرة أخرى لتجري وراءها وتمسكها، وحين تمسكها تعود فتقذفها وتجري وراءها وهي تصرخ من اللذة، لذة تحريك ذراعيها وساقيها وظهرها وعنقها ورأسها، تلك الحركة التي تهز جسدها وعقلها والكون من حولها بلذة عجيبة، تجعلها تضحك بصوت عال وكأنها تصرخ.
وتظن أمها أنها تصرخ لأنها تريد الكرة، فتلتقط الكرة من الأرض وتضعها بين يديها، لكنها تغضب من أمها وتبكي وترفس الكرة بقدمها بعيدا، فالكرة ليست هدفها، وإنما هدفها هو أن تتحرك إليها، أن تحرك ذراعيها وساقيها وظهرها وعنقها ورأسها، أن تصل الحركة إلى كل خلية في جسدها وعقلها في وقت واحد، وتهز كيانها وكأنه خلية واحدة بتلك اللذة العجيبة.
لم تكن أمها تفهم لماذا تبكي حين تعطيها الكرة في يدها، كانت تظن دائما أنها تريد الكرة، ولم تكن تعرف أنها تريد أن تتحرك، وأنها حين تعطيها الكرة تجهض حركتها، أو تسلبها الشيء الذي تبرر به الحركة وتفسد لذتها، وكان يمكن لأمها أن تفهمها لو أنها رأت أنها تقذف الكرة بمجرد أن تمسكها، أو لو أنها تذكرت طفولتها وهي في مثل عمرها، وتلك اللذة المحرمة التي نسيتها أو خيل إليها أنها نسيتها، فهي لا تزال في مكان ما من رأسها، حين تنام تحلم أحيانا أنها تطير في الجو، وتحرك ذراعيها وساقيها وظهرها وعنقها ورأسها بتلك اللذة العنيفة، وجسدها ينساب في الكون كعصفور حر طليق، لا تعرف إلى أين تطير لكنها تطير، فالحركة هي هدفها وهي لذتها، الكون من حولها فسيحا ممتدا لا شيء يعوقها عن الطيران، تقفز فوق أطراف الأشجار وأسطح البيوت، لا الليل يخيفها ولا الشمس تحرقها، وتظن أنها ستبقى سابحة في الكون إلى الأبد، لكنها سرعان ما تحس جسدها يثقل ويثقل حتى يلامس الأرض، وتحاول الطيران مرة أخرى فلا تستطيع، جسدها ملتصق بالأرض عاجز عن الحركة، وترى الشبح الطويل قادما نحوها، عيناه حمراوان كالنار، تحاول أن تحرك ذراعيها وساقيها لتجري أو تطير لكن جسدها لا يتحرك، وتحاول أن تصرخ لكن صوتها لا يخرج، وفي اللحظة التي يهم فيها الشبح بابتلاعها تنتفض لتنقذ نفسها، فإذا بها تصحو من النوم مبللة بالعرق شبه مجهدة. •••
لم تكن تعرف بعد هذا النوع المخيف من الأحلام، ولا أي نوع آخر من الأحلام، تنام الليل كله بعمق وبغير حلم، ثم تصحو بوجه مشرق، تبتسم لوجه أمها بمثل ما تبتسم للشمس، بمثل ما تبتسم للقمر، لا تفرق بين النهار والليل، ولا تعرف شيئا اسمه الظلام أو الخوف، تلعب الكرة لتجري وتحرك ساقيها وذراعيها، أو ترص المكعبات الملونة الصغيرة بعضها فوق البعض، وتبني بيتا يعلو شيئا فشيئا إلى أن تصل إلى قمته، فتهزه بيدها لتتأكد من صلابته، فإذا بجدران البيت تنهار وتتساقط وتعود مكعبات صغيرة، فتبدأ ترصها من جديد لتبني البيت مرة أخرى، أمها تراها وهي تبني ثم تهد وتبني ثم تهد، وحين تأخذ منها المكعبات لتنام تبكي، فهي لا تريد أن تنام الآن، عقلها لا زال نشطا مستغرقا في البناء والهدم، مستسلما لتلك اللذة المتكررة المتعاقبة، في كل مرة تظن أن جدران البيت أصبحت أكثر صلابة، وحين تهزها بيدها تسقط، وتحاول مرة أخرى بأمل أن تبني بيتا لا يسقط مهما هزته بيدها، بيت حقيقي كالبيت الذي تسكن فيه، وجدران حقيقية كالتي تهزها بيدها فلا تسقط أبدا.
وتقبض بأصابعها على أحد المكعبات بكل قوتها، وتحاول أمها أن تفتح يدها لتأخذ منها المكعب، لكنها تضغط عليه بأصابعها، وحين تنجح أمها في فتح أصابعها وتأخذ المكعب تبكي، وتضعها في السرير وهي تبكي ثم تنام وتحلم أن أمها لم تستطع أن تفتح أصابعها وأن المكعب لا زال في يدها.
صفحة غير معروفة