لا من معدنين مختلفين، بل من معدن واحد، غاية الأمر أن واحدة الكميتين أكثر بريقا من الأخرى وموضوعة في فترينة دكان أغنى وأنظف أو يلبسها على صدره رجل أغنى وأرقى؛ لهذا تظهر أمام العامة ذات قيمة أكبر وإن كانت لا تزيد في الواقع شيئا.
وإن هذا الذي نسميه تقدما اقتصاديا ليس في الواقع إلا نتيجة لازمة لحال الجمعية الحاضرة حال اشتباك المصالح لزيادة عدد السكان في العالم؛ وإذن فلا يمكن أن تعده تقدما إلا إذا عددت تقدما حاجة الأعشى إلى نظارة أو الأكتع إلى عكازه، ولست أدري كيف تريد أن تناصر قولهم إن السعادة أعم اليوم على الأرض مما كانت من قبل.
لئن كان في الدعوى الأولى دعوى التقدم المادي شيء من شبه الحقيقة؛ فإن هذه الثانية أظهر ما يكون فسادا ... لا أريد أن أقول العكس، وإن الشقاء قد مد رواقه اليوم بعد أن كان مطويا في الماضي، ولكني أقول إنه تحول وسار مع العالم في دور النشء والتسلسل، وأخذ أشكالا تطابق كل وسط من الأوساط لكي يعيش في هذا الوسط، وسيبقى إلى الأبد يتسلسل مع الزمان إلى لا نهايات الزمان.
وليس أدل على ما أقول من العالم الحاضر، هل سودان خط الاستواء أقل سعادة من أهل أوربا ؟ هم لا شك أقل ترفا باعتبار المدنية الغالبة، ولكن الترف شيء والسعادة شيء آخر، ولقد أخبرني الكثيرون أنهم كانوا أسعد كثيرا أيام فقرهم واكتفائهم بالقليل منهم أيام غناهم وترفهم، غاية الأمر أنا نحن وأهل أوربا نقرن السعادة بالترف لأنهما مقترنان في مدينتنا ثم نقول: كيف يمكن لهؤلاء العراة الحفاة الجياع غير الممتعين بشيء من نعم العالم أن يكونوا سعداء، في حين أنا جماعة المترفين نرى في الوجود من المرارة والألم ما يجعل السعادة أمامنا حلما مستحيل التحقيق؟
وخطأ هذا التقدير واضح؛ فليس ما يلزم لسعادة كل واحد ضروري لسعادة الآخر، والعاشق يختلف عن محب المال في النظر إلى السعادة، وعن كليهما يختلف العالم، وعنهم يختلف الفلاح البسيط، وكذلك السودان يختلفون عنا وعن أهل أوربا ...
ع. ف :
التعليل ظاهر ولكن فيه بعض المغالطة، ويدلك على ذلك أنك لا تقبل أن يرجع العالم إلى الحال القديم من البربرية أو إلى الحال الذي فيه السودان اليوم.
ل. م :
وكيف علمت أني لا أقبل؟ أنا لا أرفض مطلقا، بل أقول: ولم لا وماذا يضر؟ أنا سأكون في العالم القديم البربري الذي نقول عنه بعقل أهل ذلك العالم وأكون سعيدا، لم حسبت أن سيكون مثلي فيه مثل الشابة التي غاب زوجها فقابلتها الصدفة مرة وأعطتها خاتما يجيب ثلاث مرات نداء من يحك فصه، فحكت هي كي تصل إلى المشيب فلما رأت نفسها قبيحة حكته ثانيا لترجع إلى الشباب، ثم صور لها عقلها أن الطفولة خير من هذين فحكت الفص فصارت طفلة بعقل الشابة التي كانت وبقيت كذلك موضع ضحك الناس وألم النفس بقية الحياة ... لا يا صاح، إن رجع العالم إلى بربريته رجعنا معه من غير أسف، وإن بقي كما هو بقينا من غير سرور، وإن جاء عليه الهرم هرمنا معه ضاحكين منه.
سكت ع. ف. ولم اشارك أنا بكلمة، فدفعنا للجرسون ما علينا ثم قمنا نسير فإذا الشوارع خالية والجو هادئ جميل ويدعو للمشي الكثير.
صفحة غير معروفة