كان مدعوا معنا مسيو ه.ج. وزوجته وأخته وسيدة لم أرها قبل، فلما جلسنا قامت سيدة الدار إلى البيانو بعد رجاء من الحاضرين الذين يعرفونها وقامت هاته السيد الأخرى، وبالرغم من استحسان الجميع لغنائها فلم يك ليثير من نفسي، ولا شك أن سبب ذلك أني لم أعتد أن أسمع هذا الغناء من قبل.
تناولنا الشاي بعد ذلك، وبقينا نتكلم في مسائل وفي أخرى إلى الساعة الحادية عشرة مساء، وما كان الحديث ليحتاج عناء ولا تفكيرا، بل حديث سهل بسيط أدعى لأن يريح الذهن وتبتهج له النفس، وأحسب هذه الطريقة في تمضية المساء أوفق ما يكون ليقوم الإنسان إلى نومه مستريح البال، ثم ليقوم في الصباح وقد أخذ أكمل حظ من سكون النفس والجسم، فاستعد بذلك لعمل النهار. هي من أجل ذلك أفضل بكثير من طريقتنا الشرقية حين نقتل سهراتنا إما على القهوة وإما في مناقشات متعبة لا طائل تحتها.
29 أكتوبر
اليوم ودعنا ب. مسافرا إلى جنوب فرنسا ليمضي أيامه هناك.
ودعته بعد أن بقينا معا ثلاثة أشهر لا نكاد نفترق، ودعت منه صديقا أغناني عن كل صديق ونسيت إلى جانبه ما كان يجيئني به الاغتراب من الهم.
كنا خمسا لوداعه، فلما سار القطار إذ أني بين الجماعتين وحيد، وكأني وأنا أعرفهم جميعا لا أعرف منهم أحدا! هل تستطيع الصداقة أن تصل من النفس الإنسانية لهذا الحد؟
أمضينا ثلاثة أشهر معا وكأن قد انطبقت صحيفة نفس كل منا على صحيفة نفس صاحبه، وإني لأعجب لنفسي كيف وأنا أحب الناس للوحدة يبلغ مني الأسف لفراق صديق هذا المبلغ! الآن انكماشي عن الناس يجعلني لا أجد خلا، فلما وقعت على واحد من بينهم وأعطيته كل ثقتي وكل حبي عز علي بعد ذلك أن أرجع إلى وحدتي الأولى؟
كم كنت أجد من السرور ساعة أقابله في الصباح، وكم كانت تهز نفسي هزة كل واحد منا يد صاحبة ساعة نريد أن نفترق لوقت قليل، وها نحن نفترق لأجل من ذا يدري أجله.
في باريس، في هذه المدينة الهائلة كثيرة الضجة وحيث أنت محاط بالجلبة من كل جانب وعزيز أن تجد ركنا هادئا إلا إذا أخرجت عنها أنت أشد الناس احتياجا لصاحب يعزيك عما يلقيك فيه انفرادك من الوحدة القابضة للنفس، وجدت هذا الصديق في ب. من أوائل أيام وجودي بها إلى اليوم فلم أكن لأحس بعد الأيام الأولى بمثل هذه الوحدة المخيفة، وها هو اليوم مسافر وها أصبح من الغد فلا أجده، أصبح وحيدا لا صاحب لي في باريس.
وإذا كنت الآن ولم يمض على سفره إلا ساعات معدودة أشعر بهذة الوحدة فماذا عساه يكون حالي إذا تطاول أجلها؟ من يدري؟
صفحة غير معروفة