محمد حسين هيكل
القسم الأول
مذكراتي في أوربا
في الطريق
الفصل الأول
السفر
7 يوليو 1909
هذه أول مرة في حياتي أضع فيها قدمي على غير أرض مصر.
لم نكد نصعد فوق سطح الباخرة حتى كنا وسط لجة لا حد لها من المسافرين والمودعين لا تميز العين بينهم هؤلاء من أولئك، كلهم رجال وشبان على وجه الأكثرين منهم أثر الجد والاهتمام، في حين تقرأ في عيون الآخرين حزنا عميقا ويمسحونها بمناديلهم من وقت لآخر، ومن الشبان من يضحكون غير مبالين، وفي كل لحظة ترى إلى جانبك اثنين يتقابلان ويتصافحان، ويقبل عليك الوقت بعد الوقت صديق لم تره من أيام أو من سنين، فيهز يدك هزة قوية ويسألك إن كنت مسافرا أو مقيما، ومتى علم أنك مسافر جعل يشجعك ويظهر من ثقته بك وبقوة عزيمتك، فتبسم أنت لأنك لا تعلم ما تجيبه به.
عن جانبنا شاب وقف معه من جاء يودعه، عشرة أشخاص أو أكثر، ومن بين هؤلاء رجل ظاهر الجزع لا يستطيع رغم شعوره المبيضة أن يحجز دمعته على أن تسيل على خده الناشف الشديد السمرة، تدل حمرة جفونه على أنه كان يبكي من قبل، ويكفي منظره ليستدر القلب رحمة به ويسعى من حوله لتعزيته، فلا ينفع معه شيء ولا يتعزى، كأنه يرى في الخضم الهائل أمامه مختبئا ملك الموت ينتظر العزيز الذي يفارقه ... والناس يسيرون في كل جانب من جوانب المركب وإلى كل الجهات ينظرون في كل الوجوه يريدون أن يقولوا كلمة وداع لمن يعرفون، والكلام والضحك والبكاء ووصايا الآباء والإخوان وضجة الحمالين وأصوات الصائحين ورج الآلات الرافعة جوف المركب، كل ذلك مخلوط بعضه ببعض يترك الحواس والقلب والنفس في حيرة واندهاش، فإذا قلبت عينيك فيما حولك أزددت حيرة لا ينجيك منها إلا محدث ممن معك يقف إلى جانبك، فإما كان رجلا فألقى إليك بنصائح، وإما شابا من أصدقائك صامتا يحدق بك كأنما يريد أن يملأ عينيه من صورتك التي تتغيب عنه الزمان الطويل ...
صفحة غير معروفة