19 أغسطس
كنت أسير مع ب. على رصيف محطة اللكسمبور بعد أن تناولنا طعام العشاء عاملين بقول مثل بلدنا: «اتعشوا واتمشوا»، فجعلنا نذهب ونجيء مسرورين ببعدنا عن ضجة البلفار وأنواره وقهاويه الغاصة بمن فيها من بنات الرصيف.
لكن في كل واد أثر من ثعلبه، وهاتيك الفتيات يطلبن صيدهن حيث يقع لهن، بل لكأنهن يجدن في الظلمة مأمنا فلا تطلع العين على مبلغ قبحهن أو تقبل وجوههن من الدهن، غير أن صيادتنا لم تكن حسنة الحظ في اختيارها كما أن الظلمة نفسها كانت أشد فتنة عليها من النور وأكثر إظهارا لحقيقة أمرها.
هذه أول مرة تبين لي فيها مبلغ بؤس هاتيك الفتيات وتعسهن، تلك العيون الميتة من كثرة السهر وذلك الوجه الباهت لا لون له، والخدود الغائرة والفم تطوقه ابتسامه تنم عن مبلغ ما تكن نفس صاحبته من الألم، وذلك الشكل الجامع بين الاستعطاف الجائع المسكين وبين الحنق على الإنسانية والحقد على بني آدم.
بقيت هاته الفتاة تروح وتجيء إزاءنا ونحن ننظر لها بعين باردة ونتعمد إساءتها من غير أن يتحرك لذلك ضميرنا، ومن غير أن نشعر أنا نسيء لنفس إنسانية أوقعها البؤس وحكم الجمعية التي تعيش فيها إلى الحضيض الذي تئن من أعماقه فلا يسمع لأنينها إنسان.
وفي آخر لحظة حين أردنا مفارقتها ابتسمنا لها باستهزاء وإصغار، لكن كل الظروف أرادت أن تعطينا درسا، فلما وصلنا شارعنا فضلنا الجلوس على قهوة في أوله ريثما يتأخر الوقت ويجيء موعد النوم، وجاء مجلسنا إلى جانب فتاة صغيرة الجسم نحيفة القوام ترتدي رداء واسعا من الصفوف بالرغم من أنا لا نزال في أغسطس؛ ذلك أن ليس عندها غيره فليس في وسعها أن تتبدل به آخر، وما كدنا نجلس حتى فاتحتنا الحديث، وما كدنا نجيبها حتى طلبت من كل منا فرنكا لتسدد بالفرنكين فتاة جالسة إلى جانبها اقترضتهما منها لطعام الغداء والعشاء لهذا اليوم.
استمر الكلام فيما بيننا وقامت جارتها لحالها، فسألها ب. لم تستمر في حرفتها هذه وأي شيء ألجأها إليها؟ هنالك ظهرت على وجهها علامات ألم ولا أدري لم، ثم تبدد ذلك كله سريعا وبدأت تقص حكايتها حين كانت تشتغل في معمل تطريز ثم استغني عنها أيام الصيف، وكيف وقعت حينئذ على إنكليزي رافقها مدة رأت فيها من العز والدلال ما لم يبق في حلمها اليوم أن تنال، ثم سافر وتركها بعد أن مضت أوليات الشتاء وبعد أن أصبح من الصعب أن تجد ما تحترف به، ثم هي في الوقت عينه ترى أن ما تسير فيه اليوم حرفة كغيرها لا أكثر ولا أقل.
أما حكمها الأخير فيقبل النظر، إذ مهما وجب علينا أن ننظر إليها بعين الإشفاق ومهما جعلتنا الظروف التي أحاطت بها نتساهل في معاملتها، فليس من السهل الاقتناع بأن حرفتها كباقي الحرف، صحيح أنها نتيجة احتياج لها موجود في البلد، ولولا ذلك لحق عليها البوار ولكن نتائجها تنافي الفضيلة، وكل ما يمكن أن يدافع به عنها أنها تسد حاجة، وكل ما سد حاجة في العالم يعد طبيعيا والطبيعي عذره في جوده.
21 أغسطس
ألا ما أشد تعلق هؤلاء الذين عرفت من الغربيين بالمادة وما أكبر انكبابهم عليها، هم ينسون أمامها كل خلق وكل فضيلة، فيتزلفون أو يشتدون، يحاسنون أو يسيئون على حسب الظرف الذي هم فيه والوسيلة التي تسهل عليهم الكسب المادي، لم أجد واحدا ممن عرفت إلى اليوم - وإن كانوا قليلين - شذ عن هذا المبدأ.
صفحة غير معروفة