والجو رطب عذب والنسيم بليل، وكل شيء جميل وأقام أصحاب الفندق في هذه الليلة نيرانا من النقط إعلانا عن فندقهم، بقينا نتفرج عليها حتى ادلهم الليل، وذهبنا إلى مضاجعنا مبكرين لنرى شمس الصباح عند مشرقها.
أيقظونا والليل لا يزال ضاربا على الوجود أطنابه، وقمنا جميعا فأخذنا عدتنا من برد الصباح فوق قمة الجبل، وارتقينا إلى حيث كنا بالأمس، وكنت أنا من السابقين فإذا أمامي جماعة من السويسريين الجبليين الفقراء قد حمل كل منهم حقيبة على كتفه فيها طعام، وأمسك بيده عصى يحميها من طرفها السفلي غطاء من الحديد، وجاء هو الآخر يرى مشرق الشمس، وهم يتوافدون ويغنون غناءهم الجبلي المنخفض المرتفع تردد أصداءه الصخور من كل جانب، وبقينا كذلك حتى إذا النور ابتدأ يلمع على السماء ويبدد من دكنة الليل تجلت على مرمى النظر الثلوج الناصعة وكأنها في رداء من الليل لا تزال، وتزايد النور وتبدت الجبال تطوق الآفاق من كل جانب، وهي كلما ابتعدت كلما ظهرت سطوحها العليا كأنها خط أبيض من الثلج، وبزغ القرص يهدي الكون القائم من أحلامه تحية وابتسامة، وتجلى على الوجود وملأه بنوره ورجعنا غير راضين عنه لأنه لم يحقق في مطلعه أحلامنا وما كنا نريد أن يكون عليه من الجمال.
قبل زيارتي للبيلات زرت جيل الريجي، وهو أقل من الأول ارتفاعا ولكنه أنضر منه وأبهج، وقضيت في الصعود والانحدار يوما كاملا لم أكن فيه سعيد الحظ فقد تدلى الغمام حتى لكانت تلمسه اليد.
هذه كلمة مجملة عن لوسرن، وإني لم أذكر شيئا عن آثارها الطبيعية ولا عن شعبها المتمدن ولا عن مصنوعاتها؛ فليس في الذاكرة ما نستطيع معه التدقيق في شيء من هذا، غير أن الذي لا ينساه إنسان ممن زاروا سويسرا هو تعدد الجنسيات في هاته البلاد، فبينا تجد الإنكليزي والأمريكاني إذاك تخالط الفرنسي والطلياني والألماني والنمساوي ونسمع بعض الأوقات من يتكلم العربية.
وفي ذلك ما يسمح للنفس برياضة ونزهة طويلة، ولقد كان يسرني أن أحدث شخصين مجاورين لي بلغتين مختلفتين؛ فإن ذلك بالرغم من أنه يسمح لي بأن أكون ترجمانا لهما يجعلني أكثر صلة بهما .
يذكر في ذلك يوما كنت عائدا فيه من إنكلترا ومعي ألماني يتكلم الفرنساوية وأمريكي يتكلم الألمانية، فكنا يتكلم كل اثنين منا ولا نستطيع أن نتكلم معا جميعا أبدا، وتركت سويسرا قاصدا إيطاليا ونزلت في طريقي بلوجانو، ولا شك أن أبدع أسفاري كان ذلك الطريق ما بين لوسرن ولوجانو حين مررنا بنفق سانت سنس فلقد كان الطريق كله جنة يانعة لا يحويها الوصف مهما أبدع فيه، وأي شيء يقدر على تصوير جبال سويسرا وما عليها من شجر وزهر وهي تكتنف البحيرات في وسطها صاغرة أسيرة تحوطها الجدران العظيمة والسفوح الهائلة وينهب القطار الأرض فيود الإنسان لو يمسكه عن سيره ليتمتع بتلك المناظر البالغة في الإبداع أقصى حدود الجمال.
ودخلنا النفق فمكثنا تحته نصف ساعة ثم إذا به تخلى عنا ليتركنا على شاطئ من شواطئ عدن أو هو أبدع، وصفحة الماء مصقولة أذابت الشمس فيها فضتها وقد ابتدأ يتخللها ذهب الأصيل.
ووصلنا إلى لوجانو حيث بقينا يومين وحيث كانت الصلة بين سويسرا وإيطاليا.
لوسرن في 9 يولية
تذكرة عام
صفحة غير معروفة