وبينما كان الشيخ يردد هذه الأبيات للمرة الثانية، حتى يتمكن المستر سنودجراس من تدوينها، راح المستر بكوك يتطلع في قسمات وجهه باهتمام بالغ، وما إن فرغ الشيخ من إملائه، وأعاد المستر سنودجراس الكناشة إلى موضعها من جيبه، حتى أنشأ المستر بكوك يقول: «معذرة يا سيدي إذا أنا أبديت ملاحظة على قصر العهد بتعارفنا، ولكن سيدا مثلك لا يمكن - في اعتقادي - إلا أن تكون قد مرت عليه عدة مشاهد وأحداث خليقة بالتدوين، في طريق تجاربه، بوصفه خادما من خدام الله.»
فأجاب الشيخ قائلا: «لقد شاهدت شيئا منها بلا شك، ولكن الحوادث والأشخاص الذين عرفتهم هم من النوع العادي؛ لأن مجال عملي محدود جدا.»
وانثنى المستر واردل - بدافع الرغبة في إخراجه من صمته وحمله على الكلام؛ إرضاء لزائريه الجدد - يقول: «إنني أعتقد أنك دونت بعض المشاهدات، ألم تفعل كذلك في أمر جون أدموندز؟»
فأومأ الشيخ قليلا إيماءة الموافقة، وهم بأن يغير الموضوع، لولا أن بادره المستر بكوك قائلا: «أستميحك عفوا يا سيدي إذا أنا اجترأت على سؤالك: من يكون جون أدموندز هذا؟»
وابتسم الشيخ مسرورا راضيا، وقرب مقعده، كما قرب الآخرون مقاعدهم وتلاصقوا، وكان أسبقهم إلى تقريبها المستر طبمن والسيدة العانس، ولعلها كانت تشكو وخزا في أذنيها، كما رفعت السيدة العجوز مسمعتها، واستيقظ المستر ملر، وكان قد استولى النعاس عليه في فترة تلاوة الأبيات، حين أحس وخزة تأنيب من تحت المائدة، وخزه بها الشيخ البدين الرزين الذي كان شريكا له في لعب الورق.
وبدأ السيد العجوز - بلا مقدمات - يقص القصة التالية التي دعوناها:
عودة السجين
قال الشيخ: حين جئت لأقيم في هذه القرية، وهو عهد يرجع إلى خمسة وعشرين عاما خلت، وجدت أن أسوأ الناس فيها سمعة وشرهم مكانا، رجل يدعى «أدموندز» كان قد استأجر ضيعة صغيرة بجوار هذا الموضع، وكان امرأ سوء، غليظ القلب، حاد الطبع، متبطلا منحلا في عاداته، قاسيا متوحشا في نزعاته، ولم يكن له من صديق أو صاحب ، غير أفراد قليلين من المكاسل والسوقة والمستهترين، جعل يقضي أوقاته معهم متسكعا في الحقول، أو ماجنا معربدا في الحان، فلم يكن أحد من خلق الله يعنى بالكلام مع هذا الرجل، الذي كان قوم كثيرون يخشونه، والجميع يكرهونه، والكل يتحامونه.
وكانت له زوج، وولد كان يبلغ من العمر أول ما نزلت بهذا الموضع قرابة اثني عشر عاما، وليس في وسع إنسان أن يتصور مدى الآلام التي كانت تلك المرأة تعانيها، ومبلغ الجلد الرقيق والاحتمال اللذين تذرعتا بهما، والعذاب المضني الذي قاسته في تنشئة ذلك الصبي، وليغفر لي الله ظني، إن بعض الظن إثم، وإن كنت على يقين تام في أعماق قلبي أنه ظل يعمل جاهدا عدة سنين على كسر قلبها، وتحطيم فؤادها، ولكنها احتملت ذلك كله من أجل ولدها، بل ومن أجله هو كذلك، وإن بدا هذا القول لقوم كثيرين غريبا، فقد كانت في يوم من الأيام تحبه، وهو الحيوان البهيم، والجبار القاسي الغاشم عليها، فلا عجب إذا أيقظت ذكرى ماضيه ومبلغ مكانه من قبل في نفسها مشاعر الرفق به، والصبر عليه، والحلم في معاملته، وهي المعذبة المعانية، وهي مشاعر لا يعرفها ولا يتجمل بها من دون خلق الله غير معاشر النساء.
وكانا فقيرين بطبيعة الحال، ما دام الرجل سادرا في غلوائه، ولكن الجهد المستمر الذي كانت تبذله، والعناء الذي كانت تجانبه بكرة وعشيا، وصباحا وظهرا وليلا، جعلهما بمنجاة من الحاجة، وجنبهما العوز، ولكنه جازاها على تلك الجهود شر الجزاء؛ كان الذين يمرون بالموضع عشاء، أو في ساعة واهنة من الليل، يقولون: إنهم كانوا يسمعون أنين امرأة في خطبها ونحيبها، وتطرق آذانهم أصوات لكمات وضربات، وحدث أكثر من مرة أن خرج الغلام بعد منتصف الليل، يدق في رفق باب الجيران؛ فرارا من غضب ذلك الوالد الشاذ، أو امتثالا لأمر أمه التي خشيت عليه من بطشه.
صفحة غير معروفة