وبينما كان سادات الحفل: آل بولدر، وكلابر، وأسنايب على هذا النحو محافظين على وقارهم في صدر القاعة، كان غيرهم من أهل الطبقات المختلفة في المجتمع يحاولون الاقتداء بهم، في أرجاء أخرى منها، ومضى ضباط «الآلاي» السابع والتسعين، ومن هم دون أولئك عراقة وجاها يتوددون لنساء من هم أقل شأنا، بين موظفي الأحواض، وكبار العاملين فيها، كما انثنت زوجات «الوكلاء» والمحامين، وزوجة تاجر النبيذ، يرأسن طبقة أخرى (وكانت امرأة تاجر الجعة تزور آل بولدر في دارهم)، والظاهر أن مسز توملينسن، زوجة وكيل البريد قد وقع عليها الاختيار بالاجماع رئيسة لطبقة التجار وأرباب المهن.
وكان من أبرز الشخصيات في دائرته وأرمقها مكانة رجل قصير القامة بدين، له حلقة من الشعر الأسود ملتفة حول رأسه، وصلعة مستديرة جرداء على أم ناصيته، ويدعى الدكتور «سلامر» الطبيب في الآلاي السابع والتسعين، وقد مضى يتبادل النشوق مع كل إنسان، ويتحدث إلى كل إنسان، ويضحك ويرقص وينكت، ويلعب الميسر، ويفعل كل شيء، ويتراءى في كل مكان، وقد جمع هذا الطبيب القصير إلى كل هذه «الفعال» على كثرتها، فعلة أخرى أهم منها جميعا وأكبر شأنا ... وهي الإلحاح في غير كلال على تقديم أوفر نصيب، وأغزر قسط لا ينفد من الرعاية والاحتفال إلى أرملة عجوز قصيرة، ينم ثوبها النفيس ويشف إفراطها في الزينة والحلي عنها كأشهى غنيمة لذي دخل محدود.
وظل نظر المستر تراسي طبمن وصاحبه - فترة من الوقت - يستقر على الطبيب والأرملة، ولم يلبث الرجل الغريب فجأة أن بدد الصمت بقوله: «مال وفير ... هذه العجوز ... هذا الطبيب الفخور المتباهي ... فكرة لا بأس بها ... لعبة طيبة ...»
ونظر المستر طبمن إلى الغريب - وهو منطلق في هذه العبارات الغامضة - نظرة المستفسر المتسائل، فقال هذا: «سأرقص مع هذه الأرملة.»
قال: «ومن تكون؟»
قال: «لا أدري ... ما رأيتها من قبل في حياتي، هذا الطبيب لعنه الله ... ها هو ذا ينصرف.»
واجتاز الغريب القاعة مسرعا، فاستند إلى رف موفد، وراح يطيل النظر في إعجاب موقر حزين إلى وجه تلك السيدة القصيرة العجوز، ولبث المستر طبمن يشاهد هذا المنظر في دهشة صامتة.
وتقدم الغريب في سبيل تحقيق مأربه بخطوات سراع، فقد كان الطبيب في تلك اللحظة يراقص سيدة أخرى، وسقطت المروحة من يد الأرملة، فأسرع الغريب في التقاطها، وقدمها إليها، فكان الابتسام، فانحناء، فتحية، فكلام، ومضى الغريب بجرأة إلى رئيس الاحتفال وعاد به، وتلا ذلك تعارف صامت، وإذا الغريب ومسز بادجر يأخذان مكانهما في دور رقص.
وكانت دهشة الطبيب تتجاوز - إلى حد لا يوصف - دهشة المستر طبمن من هذا التصرف السريع، على شدة هذه الدهشة نفسها، فقد كان الغريب شابا في نضارة العمر، فلا عجب إذا بدأت الأرملة مزهوة فرحة به، فلم تعد تأبه بتلطف الطبيب وتحببه إليها ، ولم يجد غضبه مطلقا على مزاحمة البادئ الذي لبث ساكنا لا يعبأ بتاتا ... فقد وقف الطبيب جامدا في مكانه كأنما أصابه الشلل ... أفمثله وهو الدكتور سلامر طبيب الآلاي السابع والتسعين، ينطفئ نوره في لحظة ويخبو ضرامه من رجل لم يره من قبل أحد، ولا يعرفه أحد حتى الآن؟! الدكتور سلامر ... الدكتور سلامر من الآلاي السابع والتسعين يلفظ وينبذ على هذه الصورة! ... مستحيل ... ولا يمكن أن يحدث ... ولكنه مع ذلك حدث، بل هو حادث فعلا ... وها هما هذان واقفان معا ... ما هذا؟ ... يقدم صديقه إليها للتعارف! ... أيمكن أن يصدق عينيه؟ ... وعاد ينظر مرة أخرى ... وآلمه أن يعترف كارها بأن عينيه صدقتاه ... وها هي ذي مسز بادجر تراقص المستر تراسي طمبن ... تلك حقيقة واقعة لا ينفع فيها تخطئة ولا تكذيب ... وها هي ذي السيدة أمامه يتوثب جسدها ويقفز من هاهنا وهاهنا، بقوة لم تؤلف منها، وها هو ذا المستر تراسي طبمن يحجل في كل ناحية، وينم وجهه عن أشد الجد وأبلغ الوقار، وإنه ليرقص - كما يفعل خلق كثير من الناس - كأن الرقص على الأنغام ليس شيئا يبعث الضحك، ويدعو إلى المرح، بل تجربة قاسية للمشاعر، تقتضي مواجهتها عزما قويا لا يلين.
واحتمل الطبيب هذا كله بصبر وصمت، وتجلد لكل ما تلاه من تقديم شراب، وارتقاب كئوس، ومسارعة إلى «بقسماط» وغزل، ولكن لم تكد تنقضي بضع ثوان على اختفاء الغريب ليرافق السيدة بادجر إلى مركبتها، حتى اندفع الطبيب مسرعا من القاعة كالسهم، وقد فارت كل ذرة من غضبه المكظوم، وبدت فورتها على كل ناحية من وجهه عرقا متصببا من شدة الحنق ...
صفحة غير معروفة