وقد أعرب لي صديق من الوفديين عن شعوره نحوي، وأخذ يذكرني بما كان ينصحني به منذ سطع نجمي (كذا تعبيره) في البرلمان؛ إذ أشار علي بانتهاز أي فرصة لأنسحب من المعارضة وأنضم إلى صفوف الوفد قائلا لي إن مستقبلا باهرا ينتظرني إذا أنا أقدمت على هذه الخطوة. وعندما كنت أجيبه بأنني في المعارضة لا أهاجم وزارة الوفد ولا أعمل على إحراجها بل إني أسلك في معارضتي سبيل الاعتدال والهوادة كما ترى مني، كان يقول لي إن المعارضة في ذاتها مكروهة في البلاد التي لم تألف بعد الحرية والنظم الديمقراطية. وكانت تنتهي أحاديثنا دائما على غير اتفاق. وعندما ذكرني بهذه الأحاديث في سنة 1926 لم أزد في جوابي له عن الشكر؛ إذ رأيتني أوثر السكوت والصمت في تلك المحنة، وما فائدة الكلام؟ ومع من كنت أتكلم؟ وهكذا انسحبت من الحياة البرلمانية، أو بعبارة أوضح أقصيت عنها مرغما سنة 1926، وظللت مبعدا عنها ثلاث عشرة سنة إلى أن عدت إليها عضوا منتخبا لمجلس الشيوخ سنة 1939، ثم أقصيت عنها مرة أخرى سنة 1951.
أثرت تلك المحنة في صحتي، ولم يكن هذا ضعفا مني ولا يأسا، ولكنه رد فعل للتأثرات النفسية التي لا قبل للإنسان على دفعها؛ فالمرء يستطيع أن يصبر ويستطيع أن يتجلد ولكن هذا لا يمنعه من أن يتألم، وما أحق المجاهد بالألم إذا هو رأى من مواطنيه تنكرا له حيث ينتظر منهم التقدير، وحربا عليه حيث ينتظر التعضيد والتشجيع! وظللت أشهرا عدة أعالج هذه الحالة النفسية وألتمس مخرجا من هذا الضيق، وخاصة عندما تذكرت مصير إخوان لي في الجهاد برح بهم الألم في مثل هذه الظروف فأودى بحياتهم؛ فإني على يقين من أن سقوط عبد اللطيف بك المكباتي في انتخابات سنة 1924، وعبد اللطيف بك الصوفاني في انتخابات سنة 1925، وأحمد بك لطفي في انتخابات سنة 1926، كان من الأسباب التي عجلت بوفاتهم في السنوات التي سقطوا فيها. حقا إن لكل أجل كتابا، ولكن الأسباب مرتبطة بمسبباتها، والنتائج مرهونة بمقدماتها.
وقد أوجد الله لي مخرجا من هذه المحنة، فألهمني أن أشغل نفسي بعمل استغرق معظم تفكيري وجهودي، وصرفني وقتا طويلا عن الحياة البرلمانية، وهو تأريخ الحركة القومية.
كيف أرخت الحركة القومية؟
أحببت التاريخ منذ صباي، وكنت ولا أزال أراه مدرسة لتقويم أخلاق الشعب والنهوض بتربيته السياسية والقومية، وزاد تعلقي به أني رأيت فيه على ضوء التجارب وسيلة ناجعة لتثقيف العقول ورفع مستوى الوطنية والوعي القومي في النفوس؛ فلقد تكشفت لي مع الزمن نقائص كثيرة في مجتمعنا وفي أخلاقنا وثقافتنا. لمحت على تعاقب الحوادث ضعفا في مستوانا الوطني، ونقصا في وعينا القومي، فكرت في الوسائل لعلاج هذا الضعف وتدارك هذا النقص، فوجدت أن التاريخ وسيلة تلجأ إليها أرقى الأمم لتربية الأخلاق وتثقيف العقول وغرس روح الوطنية في النفوس. ومن هنا جاء تعلقي بالتاريخ، أردت أن أجعل منه مدرسة للنهوض بالمجتمع، وجدت أن عقول الشباب والشيوخ لا تتلقى الدعوة الصالحة بحسن القول ولا تتعرف الحقائق إلا إذا تقدم الوعي القومي وعرف المواطنون أحوال بلادهم على حقيقتها وكيف تطورت في مختلف مراحلها، فعلى ضوء التاريخ يكونون أكثر صلاحية لقبول الأفكار السليمة وفهم الحقائق في الشئون العامة. وإذا كان القصص وسيلة من وسائل نشر المبادئ الصالحة والأفكار السامية والعواطف النبيلة، فأجدر بالتاريخ وهو قصة واقعية أن يكون وسيلة للنهوض بالعقول والأفكار، ونضج القرائح، والسمو بأخلاق الجيل، وتوجيه المواطنين إلى المثل العليا في الحياة القومية.
عنيت من التاريخ أكثر ما عنيت بتاريخنا القومي، وأقصد به تاريخ مصر كوطن، وتاريخها كأمة لها أهداف عليا تنشدها، فهو يتناول تاريخها السياسي، وتاريخها الحربي، وتاريخها الاقتصادي، وتاريخها الاجتماعي والثقافي. وأيقنت أن من واجبنا أن نعلم الشعب بمختلف طبقاته تاريخ بلاده في هذه النواحي، وأن نبدأ بتعليم أنفسنا؛ أي بتعليم الطبقة المثقفة والممتازة تاريخنا القومي، لأني أرى مع الأسف أن هذه الطبقة حتى التي بيدها مصاير البلاد لا يعرف كثير من أفرادها من هذا التاريخ إلا قشورا سطحية لا تصل إلى اللباب، وهذا النقص هو من أسباب تبلبل الأفكار وارتجال الآراء وتأخر الوعي القومي عندنا. فعلينا أن نعلم الشعب تاريخ بلاده، وبذلك يقدرها حق قدرها ويزداد تعلقا بها ويفهمها حق الفهم في ماضيها وحاضرها ومستقبلها. ولعمري ليس الحاضر في الغالب إلا استمرارا للماضي ونتيجة مرتبطة بمقدماتها ، وكذلك شان المستقبل فهو وثيق الصلة بالحاضر والماضي. حقا قد يكون الحاضر خروجا على الماضي وإصلاحا له وأحيانا يكون انقلابا عليه، ولكن لا بد من فهم هذا الماضي لكي نتعرف نقائصه فنخرج عليها ونفتتح عهدا جديدا من النهضة والإصلاح، وهذا وذاك لا يكون إلا إذا عرفنا تاريخ بلادنا ومبلغ صلته بحاضرها ومستقبلها. ولا غرو فالشعب كائن حي، يتطور وينمو ويتسلسل في حياة أجياله، والأجيال في حياة الأمم كمراحل العمر في حياة الإنسان، مع هذا الفارق بينهما، وهو أن الإنسان مصيره إلى زوال، أما الأمم الجديرة بهذا الاسم فباقية خالدة لا تزول، تتجدد على الدوام في حياة أجيالها المتعاقبة.
فعلينا نحن الذين أوتينا شيئا من العلم والمعرفة أن نعلم الشعب تاريخه لننشئ فيه وعيا قوميا، ونغرس فيه روح الوطنية؛ لأن الشعب كلما ازداد معرفة بتاريخ بلاده ازداد حبا لها، وإذا أحبها أخلص لها، وإذا أخلص المواطنون لبلادهم بذلوا كل ما في مقدورهم لإسعادها ورفعة شأنها، وهذا هو معنى الوطنية، ومن هنا قالوا إن التاريخ مدرسة للوطنية.
كل هذه الخواطر والمعاني كانت تتردد في نفسي وتحفزني إلى أن أؤرخ لهذا الشعب في عصره الحديث، ولم يكن لدي بادئ الأمر برنامج واسع شامل لهذا التاريخ، بل أردت أن أتخير بعض مراحله فأؤرخها دون أن أتقيد بسلسلة متماسكة الحلقات تضم هذه المراحل.
فكرت منذ عدة سنين سبقت سنة 1926 في أن أضع تاريخا للزعيم مصطفى كامل، باعتبار أنه باعث الحركة الوطنية الحديثة، ولكني رأيت أن تاريخ مصطفى كامل يستتبع الكلام في مبدأ ظهور الحركة القومية والتطورات التي تعاقبت عليها، فأخذت أدرس الأدوار التي تقدمت عصر مصطفى كامل لأقف عند حد يصح اعتباره مبدأ الحركة القومية. رجعت إلى الثورة العرابية، فإذا بها ترجع أسبابها ومقدماتها إلى الحركة الفكرية والسياسية التي ظهرت في عهد إسماعيل، وهذه الحركة الأخيرة لم تظهر فجأة ولم تكن الأولى في تاريخ مصر القومي الحديث، بل هي تطور جديد للروح القومية التي بدأت تظهر في البلاد منذ أواخر القرن الثامن عشر، فإلى هذا العهد يجب أن نرجع بمبدأ الحركة القومية في تاريخ مصر الحديث، وانتهيت إلى أن أول دور من أدوارها هو عصر المقاومة الأهلية التي اعترضت الحملة الفرنسية في مصر. ومن ثم تطورت الفكرة عندي من تأريخ مصطفى كامل إلى تأريخ أدوار الحركة القومية في تاريخ مصر الحديث، فترامت شقة البحث، وتشعبت مسالك الدرس، واستشعرت ضخامة العمل إذا أردت أن أتمه على الوجه الذي أبتغيه، فأرجأته سنة بعد أخرى.
وفي سنة 1914 بدأت أدون مذكرات عن حوادث مصر المعاصرة تكون مادة لي عندما أؤرخ الحركة القومية، وقد ضبطت هذه المذكرات قبيل اعتقالي في أغسطس سنة 1915، ثم أعيدت إلي بعد الإفراج عني سنة 1916، وشغلتني الحوادث بعد ذلك عن تنفيذ فكرتي، على أني لم أدع التهيؤ لها واستكمال عناصرها ومراجعها وأصولها.
صفحة غير معروفة