في المعارضة البرلمانية
إن المثالية هي التي جعلتني أختار المعارضة في البرلمان الأول سنة 1924؛ فقد شعرت أن من واجبي كنائب أن أتخذ من الحياة النيابية أداة للكفاح الوطني، وأن تكون استمرارا لكفاحي الماضي، وهذا يقتضي مني أن أكون على شيء من الاستقلال عن الوزارة القائمة - وزارة سعد - فأؤيدها فيما تحسن وأنتقدها فيما تخطئ فيه، وأعبر عن مبادئ وأفكار قد لا تدين بها الأغلبية، وهذا ما يسمى «المعارضة». فاتجاهي إلى المعارضة كان إذن اتجاها سليما قويما فيما أظن، ولكنها مع ذلك جلبت علي متاعب وعداوات كثيرة ظهر أثرها على تعاقب السنين، بالرغم من اعتراف الجميع أن المعارضة ضرورية للحياة الدستورية. إن هذا كلام يقولونه بأفواههم، ولكنهم في خاصة نفوسهم لا يطيقون المعارضة ويتربصون بها الدوائر، وينتهزون الفرص للتخلص من المعارضين وإسقاطهم، وهذا ما حصل لي سنة 1926 و1936 و1951.
ساهمت مع لفيف من إخواني وزملائي في وضع التقاليد الصالحة للمعارضة البرلمانية القويمة.
تألفت المعارضة في بداية الحياة البرلمانية سنة 1924 من نواب الحزب الوطني، وكنا في مجلس النواب لا نزيد على أربعة وهم: عبد اللطيف الصوفاني بك، وأنا، والدكتور عبد الحميد سعيد، والأستاذ عبد العزيز الصوفاني. حملنا معا لواء المعارضة، وكانت غايتنا أن نجعل من الحياة النيابية أداة جهاد في الذود عن حقوق البلاد، ومجال توجيه للحكومة للأخذ بوسائل الإصلاح في شتى نواحيه وإقامة حكم صالح نزيه. وقد حرصت مع إخواني على أن نسير على مبادئ الحزب الوطني داخل مجلس النواب، فكنا لا نفتأ نتمسك بالجلاء ووحدة وادي النيل، وننشد أن يشاركنا الجميع في ذلك، كما كنا نعالج المسائل الداخلية بروح الرغبة الصادقة في الإصلاح. ولم نكن ننظر إلى وزارة سعد كخصم نحاربه، بل كنا نقدر فيها صفة الوكالة عن الشعب، تلك الوكالة التي نالتها في ميدان الانتخاب، فكان موقفنا منها موقف التوجيه الخالص لخير البلاد، كنا نعضدها فيما كان يتفق ومبادئنا وننقدها في رفق ولين فيما كنا نختلف وإياها فيه، ولم يدر بخلدنا أن نخلق لها العقبات أو نشارك في المساعي لإسقاطها. ولكن الوفد لم يقابل هذه الروح بالتقدير والاعتدال، بل حنق من موقفنا؛ إذ كانت سياسته (ولم تزل) اضطهاد المعارضة والمعارضين، وخلق ديكتاتورية برلمانية يتمثل فيها الحكم المطلق بشكل يتفق مع ظواهر الدستور دون حقيقته ومعناه.
وأذكر أن أول موقف لي في المعارضة كان لمناسبة المناقشة في خطاب العرش (جلسة 29 مارس سنة 1924) الذي ألقاه سعد زغلول يوم افتتاح البرلمان (15 مارس من تلك السنة). وكانت جلسة هامة، حضرها سعد وبقية الوزراء، ورأس الجلسة أحمد مظلوم باشا، وكان يقدرني تقديرا خاصا وينظر إلي بود واحترام ويعطيني حقي في الكلام بارتياح وسهولة مما كان ييسر لي مهمة الكلام في المجلس. كان دوري في الكلام في تلك الجلسة يأتي بعد عبد اللطيف الصوفاني بك، وقد قوطع في بعض العبارات غير مرة، ولكن المجلس تركه يستكمل كل ما أراد الإفضاء به، وفي أثناء خطابه همس في أذني هارون سليم أبو سحلى «باشا» نائب فرشوط، وكان صديقا لي ويجلس خلفي، ناصحا لي أن أتنازل عن كلمتي لأنه يرى جو المجلس غير موائم للمعارضة، فلم ألق بالي إلى نصيحته وتكلمت معارضا في دوري، فألفيت من المجلس إصغاء تاما وحسن استقبال على خلاف ما كان يظن هارون بك، ورأيت مثل ذلك في كل مرة طلبت فيها الكلام.
وكنا من ناحيتنا نحن المعارضين نجتنب العبارات العنيفة أو الكلمات النابية في النقاش، وبذلك وضعنا في مستهل الحياة البرلمانية تقاليد أظن أنها صارت أسسا صالحة للمعارضة النزيهة. وقد انضم إلينا في المعارضة النواب الدستوريون وبعض المستقلين وبعض النواب الوفديين الذين مالوا إلى اتجاهاتنا ، فبلغت عدتنا عشرين نائبا، طوى الردى معظمهم وبقي منهم ثلاثة أو أربعة، وجميعهم هم : عبد اللطيف الصوفاني، عبد الحميد سعيد، عبد الرحمن الرافعي، عبد الحليم العلايلي، عبد العزيز الصوفاني، محمد شوقي الخطيب، السيد عبد العزيز خضر، الدكتور محمود عبد الرازق، عبد الجليل أبو سمرة، علي علي بسيوني، سلطان السعدي، هارون سليم أبو سحلى، علي الطحاوي المغازي، أحمد المليحي، محمد الشريعي، خليل أبو رحاب، عبد الله أبو حسين، محمود وهبة القاضي، محمد توفيق إسماعيل.
ومع أن مجلس النواب سنة 1924 كان في الجملة واسع الصدر بإزاء المعارضة؛ فالوزارة نفسها - وزارة الوفد - لم تكن على هذا الغرار؛ فقد كانت تنظر إلى المعارضين بعين الحقد، وبدا ذلك مما أضمره الوفد لنا من المحاربة في الانتخابات اللاحقة.
وقد قيل عني إنني بمواقفي في المعارضة كنت أريد إحراج سعد، ولعمري إن هذا كان أبعد ما يكون عن خاطري؛ فإني ما قصدت إحراج سعد أو وزارته، بل كنت أرى في الحياة البرلمانية ميدانا لاستمرار الكفاح ضد الاحتلال، فكنت لا أفتأ أحمل على سياسة العدوان البريطاني في مختلف المناسبات، وهي الخطة التي اتبعتها الأغلبية الوفدية في مجلس النواب حينما اشتد هذا العدوان في يونيو ونوفمبر سنة 1924 لمناسبة حوادث السودان.
لم أكن أقصد إحراج سعد، ولكن سعدا كان لا يطيق المعارضة ويحنق عليها؛ لأنه لم يكن يريد من النواب إلا مؤيدين له. وقد زاد حنقه علي حين بدرت منه كلمة بجلسة 24 مايو سنة 1924 عدت عليه خطأ سياسيا كبيرا؛ ذلك أني وجهت سؤالا إلى وزير الأشغال «المرحوم مرقس حنا باشا» طلبت فيه العمل على وقف المشروعات التي كان الإنجليز يقيمونها في الجزيرة (بالسودان)، ولقد أجاب مرقس باشا على سؤالي في هذه الجلسة إجابة غير مطمئنة، وحصل نقاش بيني وبينه، وكان غرضي التنبيه إلى وجوب درء خطر يتهدد مصر من استمرار هذه المشروعات. ومع أن السؤال كما تحدده الأوضاع البرلمانية يجب أن يظل مقصورا بين السائل والمسئول؛ فإن سعدا تدخل في النقاش وقال موجها الكلام إلي: «هل عندكم تجريدة؟» وأراد بهذه الكلمة أن يظهر استحالة وقف هذه المشروعات.
وكانت سقطة كبيرة اتخذها خصومه مادة للطعن عليه، أما أنا فلم يزد تعليقي عليها على قولي: «كنا ننتظر أن نستمد الأمل من كلمات دولة الرئيس لا أن نسمع كلمات تبعث اليأس في النفوس.» ولكن الوفديين حملوني مسئولية تلك الكلمة وكانوا يقولون إنني أحرجت سعدا وجعلته يقولها! وهذا من أغرب ما يسمع في معرض التجني؛ فسؤالي لم يكن موجها إليه، وهو الذي أقحم نفسه في موضوع موجه إلى أحد الوزراء، وكان تدخله مفاجأة لي، فإذا كان قد أخطأ في تدخله وفي قولته هذه، فكيف أتحمل هذا الخطأ؟! (1) حوادث السودان سنة 1924 وصداها في البرلمان
صفحة غير معروفة