وكانت «لويزيت» تتألم لحرمانها عطف من حولها. وكان والدها لا يفكر إلا قليلا جدا في الترفيه عن أولاده. وكان من نتيجة هذا الحرمان وتلك القيود أن تعرفت «لويزيت» على شاب يعمل في أحد المحال التجارية الكبيرة وأحبته حبا عظيما، ولما كان هذا الشاب فقيرا ودونها مقاما فقد أدركت أن والدها سوف يرفض زواجها منه. ولذلك انتظرت حتى بلغت سن الرشد وهربت معه إلى أوروبا ليتزوجا هناك حتى علمت أنه كان على اتصال بفتاة غيرها، وأنه كان قد وعدها بالزواج، وجاءت تطالبه بتحقيق وعده، فتركته لويزيت لها، وعادت إلى مصر والتحقت بأحد البيوت كمربية للأطفال. ولما علم أبوها بذلك، عفا عنها وأراد أن يعيدها إلى منزله لتعيش معه، ولكنها رفضت؛ لأنها لم تجد في نفسها الشجاعة على مواجهة أبيها بعد ما حدث فأوعز الأب إلى أخيه أن يدعوها لتقيم معه في فرنسا، فبعث إليها عمها يدعوها، فوافقت؛ لأنها شعرت بأنه ليس في مقدورها الاستمرار في خدمة البيوت. وذهبت إلى هناك حيث انتابتها حمى، وأجريت لها عملية الزائدة الدودية وماتت على إثر ذلك.
ولم تكن أختها الصغرى أوفر حظا منها. فقد أحبت شابا، ورفض أبوها أن تتزوج منه لفقره، وعندما أراد أن يزوجها من غيره، رفضت ومرضت وسافر بها الأب إلى فرنسا لتغيير الهواء ولإبعادها عن هذا الشاب، وفي إحدى النزهات صادفت هذا الشاب، فأصابتها رعدة ومرضت بالحمى إلى أن ماتت هي الأخرى.
وكم من فتيات ذهبن ضحية ظلم الآباء ونتيجة تفضيل المادة على سعادة بناتهم. ولذلك تنتهي حياة هؤلاء الفتيات بالموت أو السقوط.
طوال تلك الفترة، لم تنقطع الوساطة بيني وبين زوجي، وأذكر أن الزبير باشا طلب مقابلتي يوما، فلما قابلته سألني عن سبب عدم عودتي لزوجي وقيامي بخدمته، وقال: إن هذا لا يليق أن تفعله بنت سلطان باشا، ثم انبرى غاضبا ليقول: ألا تعلمي أن من حق زوجك أن يأخذك عنوة إلى محل الطاعة؟ ... واستمر يخاطبني بغلظة وعنف وأنا صامتة، ولما رأى دموعي على خدي، قال لي لقد سمحت لنفسي أن أكلمك بهذه اللهجة؛ لأن والدك كان بمنزلة شقيقي، ولذلك فإنني أعتبر نفسي أتكلم بلسانه ... فلم أستطع بعد ذلك صمتا وقلت: لو كان والدي على قيد الحياة لما أسمعني مثل هذا الكلام لأنني لم أذنب، وإن كان هناك مذنب فهو ابن عمتي، ورغم ذلك فلو كنت أعلم أنه في احتياج لي، ما ترددت في التضحية بنفسي، ولكنه الآن يعيش مع أم أولاده التي تلد له كل سنة طفلا، ويكفي أنني لا أطلب منه شيئا، وأتحمل مناوءاته، ولو كان أبي حيا لما قبل أن تتعذب ابنته بهذه الصورة؛ لأنه كان رجلا عادلا وأبا رحيما. ثم تركته وخرجت. وفي اليوم التالي أرسل زوجته لتعتذر لي عن قسوته.
وبعد أيام علمت أن الشيخ علي الليثي يريد هو أيضا أن يتوسط في الصلح، وأنه يعتزم القدوم لهذا الغرض. ولقد ارتعت لذلك لأنني كنت أحبه كثيرا، وكنت أخشى إن حاول معاملتي بخشونة الزبير باشا أن يقل حبي واحترامي له، ومع ذلك انتظرته بشجاعة. ولكنه لم يأت، وعلمت أنه عز عليه أن يكدر خاطري لاعتقاده بأنني لست المخطئة، فازداد حبي وتقديري له .
وتعددت بعد ذلك المساعي وتنوعت الوسائل لإرغامي على الصلح، وكثيرا ما كان يأتي زوجي بنفسه ويستخدم كافة الوسائل ما بين الرجاء والعطف تارة وما بين الوعيد والعنف تارة أخرى. ولكني في كل هذه الحالات. كنت أتمالك مشاعري، وأحاول إقناعه بالمنطق، وأذكره بواجباته نحو أولاده ووالدتهم. وكنت أقول له إنني أعتقد أن الذي يدفعك إلى هذا السعي إنما هو وخز الضمير لظنك أنك أسأت إلي ولكن ثق أنك قد أحسنت بعملك؛ لأن واجبك نحو أولادك يقضي عليك أن تعيش بينهم. فكان يدعي أن حبه لي هو دافعه الوحيد للإلحاح علي بالعودة ... وكنت أرى على وجهه علامات الحزن الصادق أحيانا.
وقد أثرت كل هذه العوامل والانفعالات في أعصابي وصحتي، فمرضت مرضا شديدا ألزمني الفراش عدة أشهر، وعندما جاء الصيف أشار علي صديقنا وطبيبنا الدكتور علوي باشا بضرورة سفري إلى الإسكندرية لتغيير الهواء والاستفادة بحمامات البحر، وسافرنا بالفعل، وعدت بعد ثلاثة أشهر وقد استفدت إلى حد ما من بعدي عن المنازعات، كما أصبحت أكثر تعلقا بالبحر مما كنت، وعندما جاء الصيف التالي، وأردت السفر إلى الرمل، أراد زوجي أن يستغل هذه الفرصة وظن أنه إذا منعني من السفر قبلت الصلح معه. فامتنع عن صرف المبلغ الذي اعتمدته لسفري، ولكن والدتي عندما عرفت ذلك، سافرت على الفور لتستأجر لي منزلا على حسابها الخاص، وسمحت لي بالسفر مع خالتي لقضاء الصيف هناك وكان لهذا العطف أبلغ الأثر في نفسي.
وفي الإسكندرية ... في ذلك الصيف بالذات ... كانت لي أول تجربة من نوعها. فقد قررت أن أشتري لوازمي بنفسي من المحلات الكبيرة. بالرغم من تذمر «سعيد آغا» ورغم امتعاض أهل المنزل ودهشتهم من هذه الخطوة وتحدثهم عنها وكأنني قد خالفت قوانين الشريعة.
كنت قد حصلت على إذن من والدتي بذلك بعد جهد وإقناع، وكان علي أن أصحب وصيفاتي و«سعيد آغا»؛ لأنه لا يليق بي أن أتوجه بمفردي، وكان علي أن أسدل إزاري على حاجبي وأن ألتف بحيث لا يظهر من شعري أو ملابسي أي شيء. وعندما دخلنا المحل، دهش الموظفون والمشترون من هذه المظاهر غير المألوفة، وبخاصة عندما رأوا الآغا يحملق بنظراته الحادة في وجوه الناس وكأنه يحذرهم من النظر إلينا، ثم اندفع نحو أحد مديري الأقسام يسأله في لهفة وحدة: ألا يوجد عندكم محل للحريم؟ فأشار له إلى قسم ملابس السيدات. ونادوا على الفتيات البائعات ليتولين خدمتي بعد أن وضعن حاجزين يحولان بيني وبين الموجودين، وإزاء ذلك لم تتمالك أصغر الفتيات من أن تسأل الآغا من أي بلد ومن أي عائلة نحن، فحملق فيها غاضبا، وشكا للمدير وقاحتها.
وكاد صاحب المتجر يطرد تلك البائعة، لولا أنني رجوته ألا يفعل. وكنت أنا في غاية الخجل من هذه التصرفات.
صفحة غير معروفة