وكان «السلاملك» هو مهبط الأقارب والموظفين، وكنت أحتفي بمن أصطفيهم من هؤلاء، وفي مقدمتهم زوج أختي الكبيرة إسماعيل بك؛ لأنه كان يبالغ في ملاطفتي وكان مع كبر سنه لطيفا، واسع الصدر، يدلعني ويقربني منه، كذلك كنت أؤثر من أقاربي أحمد حجازي ابن عم والدي الذي كان كثير الاهتمام بأمري، وكان يحدثني عن أبي ويقص علي بعض صفاته وتاريخه، كذلك كنت أفرح لمجيء أحمد بك مرزوق؛ لأنه كان مرحا خفيف الروح، وكان يملأ البيت سرورا بفكاهاته وصوته العالي.
وعندما كان يحضر علي بك شعراوي الوصي علينا وناظر أوقاف والدي، كانوا يأخذونني أنا وأخي للسلام عليه، وبعد ذلك كنت أتحاشى الذهاب إلى السلاملك؛ لأنه لم يكن يلتفت إلي على الإطلاق، وكان يوجه كل حديثه واهتمامه إلى شقيقي الذي كان يحبه حبا جما. وكان منزلنا يتخذ شكلا غير مألوف طوال مدة إقامته بسبب الخوف الذي كان يستولي على الخدم وعلى الأقارب والزائرين.
ومن الزائرين الذين كنا ننتظر قدومهم بلهفة وشوق جدتي وأخوالي، وكانوا يأتون من تركيا كل سنة أو سنتين تقريبا لزيارتنا، ويغمروننا بهداياهم الكثيرة التي كانت تزيد على حاجتنا فنهدي منها للجيران والأصدقاء.
كانت جدتي على خلاف والدتي، قصيرة القامة ليست بالبدينة أو النحيفة، ناصعة البياض، زرقاء العينين، ترتدي الثياب البيضاء، وتضع على رأسها طرحة بيضاء تتخللها ضفيرتان من شعرها الأبيض تكادان تعادلان جسمها طولا، وكانت تبدو في هذا البياض الشامل كالقديسة وكانت السماحة تشيع في محياها فتكسبها إشراقا وطيبة.
ولقد أحببت جدتي كثيرا، وإن كنت لم أستطع التفاهم معها إلا بالإشارة لجهل كل واحدة منا بلغة الأخرى، ولكن هذا ما كان ليمنعنا من تبادل العواطف وكانت تدللني ببعض كلمات وأغان شركسية ما زلت حتى الآن أحفظ الكثير منها.
وكان خالي الكبير يوسف شديد الشبه بوالدته في طوله وسماحة وجهه ودماثة خلقه، أما خالي إدريس - والد حواء وحورية - فكان شديد الشبه بوالدتي في رشاقته وجمال قسمات وجهه، وكان طويل القامة، نحيف القوام، رقيقا في حركاته ومعاملاته، وكان يحبنا الحب كله ويقضي معظم أوقاته معنا لدرجة أنه كان لا يغادر المنزل إلا قليلا.
كان هؤلاء الأهل يقضون معنا فصل الشتاء، حتى إذا أقبل الصيف بدأت جدتي تتأثر بحر بلادنا، فتلتهب أجفانها وتدمع عيناها ويحمر وجهها، فتطلب العودة إلى تركيا، ولكن خالي إدريس كان يبقى معنا لميله الشديد إلى تعلم اللغة العربية، فكان يتتلمذ معنا على أيدي مدرسينا.
ولما توفيت جدتي، وكان خالي الكبير قد تزوج، جاءت معه زوجته، فقلت له يوما: لماذا لا تبقون معنا هنا ولم يبق لكم في الآستانة أحد بعد وفاة جدتي؟ فابتسم وقال: لقد عرض علي المرحوم والدك ذلك، ولكنني اعتذرت؛ لأن في ذلك هدما لبيتنا ومحوا لاسم عائلتنا.
قلت: وهل بندرته التي تقطنونها كانت بلاد آبائكم وأجدادكم؟ ألستم من القوقاز لا من الأناضول؟
فابتسم مرة ثانية وهز رأسه قائلا: هذه الألفاظ نفسها قد سمعتها من والدك عندما ألح علينا للبقاء في مصر، ولترغيبنا وعدني بأن يكل إلي إدارة أعماله الزراعية ويدخل أخي المدارس ليتم تعليمه، ولكنني لم أقبل حفاظا على اسمنا في بلادنا، كما اعتذرت عن عدم استبقاء أخي؛ لأن كل من أتم تعليمه من أفراد عائلتنا مات ميتة غير طبيعية.
صفحة غير معروفة