دعوني في اكتئابي وابتئاسي
أقاسي من زماني ما أقاسي
دعوني أسكب العبرات وحدي
فما لجراح قلبي قط آسي
ولقد عاش أبي صدر حياته بعيدا عن المناصب الحكومية، فقد كان عليه أن يرعى إخوته وأسرته، ثم اختير مأمورا لقسم قلوصنا، وحاول أن يعتذر عنه، فلم يجد إلا الإصرار.
وتدرج بعد ذلك ليصبح وكيلا لمديرية بني سويف، ثم مديرا لها، ثم مديرا للفيوم، ثم مديرا لأسيوط، ثم مديرا للغربية، ثم مفتشا عاما للوجه القبلي، ثم رئيسا لمجلس النواب ومجلس شورى القوانين ثم قائم مقام الخديوي.
وقد سمعت من بعض أقاربنا نقلا عن آبائهم وأجدادهم أن والدي من أصل عربي، وقد استوطن أجداده أرض الحجاز، وهاجر نفر منهم إلى مصر قبل عهد علي باشا واتخذوها موطنا لهم، وتزوجوا من مصريات.
وعلى ما قيل كان جدي الحاج سلطان عميد الجيل الخامس من عائلته في مصر، وكان ولعا بالزراعة وبالأخص زراعة القصب واستخراج العسل الأسود، وكان مشهورا بالكرم وطيبة القلب ودماثة الخلق، حتى إنه من كثرة استرساله في عمل الخير والبر ومن فرط تقواه، كان يقول عنه معاصروه: إنه ولي تشمل بركته أهله وكل من حوله.
ومن طريف ما سمعته عن سماحته وعطفه، أن بعض عملائه التجار كانوا يتقاضون حقوقهم أكثر من مرة؛ ظنا منهم أنه قد نسي ما دفعه لهم، وقد جاءه ذات مرة رجل كان قد باعه «تقاوي» قصب وقبض ثمنها، ليطالب بثمنها مرة أخرى، فأمر جدي بصرف ثمنها له، وحاول كاتب الدائرة أن يلفت نظره ، إلى أن هذا التاجر سبق أن استلم الثمن، وليس له أي شيء، فأجابه جدي: ادفع له الثمن؛ لأنه لم يتسلمه، فدفعه له، وبعد مدة عاد التاجر نفسه يطالب بثمن التقاوي للمرة الثالثة، فثار الكاتب وقال لجدي: إنه سبق أن قبض الثمن مرتين، ولكن جدي تناسى ذلك وقال للكاتب: إنني لا أتذكر، فأعطه نقوده، ولما هم الكاتب أن يثبت لجدي أن المبلغ قد دفع مرتين وأمسك بدفتر الحساب لإثبات ذلك، مد جدي يده إلى الدفتر وأغلقه، وأمر الكاتب بدفع المبلغ في الحال، وبعد انصراف الرجل، قال جدي للكاتب: ألا تستطيع أن تفهم أن الرجل ربما كان في ضائقة مالية، وأن مطالبته هذه ما هي إلا طلب مستتر للمعونة؟ في مثل هذه الحالات لا تعد مطلقا إلى الإلحاح في تنبيهي؛ لأنني أتذكر جيدا ما لي وما علي!
ومن الطرائف التي تروى أيضا أن أحد مستخدميه غافل المسئولين وخرج ومعه «بلاص» عسل، وبينما هو خارج به من الدوار، وقد ركب حمارا، رأى جدي على خلاف عادته في الظهيرة جالسا أمام باب الدوار، فأسقط في يد الخادم واضطرب؛ لأنه كان يريد الترجل لتحية مخدومه، وأدرك جدي ما كان يعتمل في سريرة الخادم، فأسرع إليه وأمسك طرف عباءته وهو راكب، وغطى به البلاص وقال له: إذا لم يكن هذا الذي أمرت لك به كافيا لعيالك، فتعال إلي غدا لآمر لك بواحد آخر.
صفحة غير معروفة