مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر- ط مكتبة العلوم والحكم
الناشر
مكتبة العلوم والحكم
رقم الإصدار
الخامسة
سنة النشر
٢٠٠١ م
مكان النشر
المدينة المنورة
تصانيف
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ﴿ذلك الكتاب لا ريب فيه هدي للمتقين﴾، يهدي للتي هي أقوم، أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور وهداهم إلى صراط مستقيم.
والصلاة والسلام على سيد المرسلين وامام المتقين بلغ الرسالة وأدى الامانة وبين للناس ما نزل إليهم وترك الناس على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، وقد أرسي قواعدها وقعد أصولها، ورضي الله تعالى عن أصحابه الأطهار الذين اقتدوا به وسمعوا منه وبلغوا عنه، ورضي الله عن التابعين الذين سلكوا منهجهم واهتدوا بهديهم ونقلوا هذا الدين عمن قبلهم لمن بعدهم.
وقد تلقت الامة كتاب الله وسنة رسوله ﷺ علما وعملا وسار الناس في ظل هذين الأصلين في حياة الرسول ﷺ وفي عهد الخلفاء الراشدين وفي عصر الصحابة والتابعين حتى توالت الفتوحات وتمصرت الأمصار ودخل في الإسلام أمم وجماعات واتسعت ميادين الحياة ووجدت أمور لم تكن من قبل دفعت العلماء للاجتهاد في ايجاد أحكام لها ومعرفة أحكامها.
1 / 3
ومعلوم أن النصوص لن تلاحق الأحداث فكان على المجتهدين أن يبحثوا عن عمومات وكليات تندرج فيها تلك الجزيئات، وكان ذلك مبني على الإجتهاد والإستنباط ومعتمد على ذلك على الملكة والفكر والتحصيل ومعرفة مدارك النصوص.
ولما كانت النصوص فيها العام والخاص، والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ، والمجمل والمبين، وما إلى ذلك كان لا بد من قواعد ومنهج ينظم هذا الإجتهاد، ويصنف مباحثه في أبواب وفصول فكان من ذلك علم الأصول.
وكان أول من سارع إليه وكتب فيه الإمام الشافعي ﵀، ثم توالت على هذا الفن أقلام، وتناولته عقول حتى تطور واكتمل واستقل، ولكن دخلته اصطلاحات المتكلمين ليثبتوا بعض ما تناولوه بطريق العقل على زعمهم أن العقل مقدم على غيره. كما خالطته طرق الفقهاء ليؤيدوا به فروع مذاهبهم إذا تعارضت مع غيرها.
وهكذا أصبح لكل مذهب قواعد ومنهج، وتعددت كتب الأصول بتعدد المذاهب. وأصبح من اللازم لكل ناظر في مذهب من مذاهب الأئمة أن يعرف قواعده وأصوله، وعلى كل دارس للكتاب والسنة أن يقرأ أصول هذا الفن وقواعده وخاصة إذا أراد معرفة استنباط الأحكام السابقة، أو تقديم بعض النصوص المتعارضة أو نحو ذلك، مما لا يتأتي الا عن طريق قواعد وأصول هذا الفن.
1 / 4
فكان أصول الفقه تبعا لذلك في مقدمة الفنون التي عني به العلماء في كل زمان ومكان، ولقد كانت هذه البلاد حافلة بهذا الفن آهلة بعلمائه طيلة وجود النهضة العلمية بها، ومنذ زمن غير قليل إنصرفت عنه الهمم لصعوبته، وتقاصر الناس عنه وقل المشتغلون به، وتقلصت دراسته، حتى خيف ان داسه، فيما عدا الحرمين الشريفين على قلة إلى أن قيض الله لهذه البلاد من يقوم بهذه النهضة العلمية الدينية الحديثة وأرسيت قواعدها في مدينة الرياض في تأسيس المعاهد العلمية سنة ١٣٧١هـ برعاية سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
﵀، واختير لهذه المؤسسة الجليلة أجلة العلماء من داخل البلاد وخارجها، وشملت مناهجها أهم العلوم الدينية والعربية وفى طليعتها علم الأصول، وسارت الدراسة النظامية في تلك المؤسسة وبجانبها دراسة الحلق في المساجد على العهد الأول بخيره وبركته، ولمسيس الحاجة لعلم الأصول رأي سماحة المفتى نشر هذا العلم على طلاب الحلق فى المساجد فقرر كتاب قواعد الأصول ومعاقد الفصول في مسجد الشيخ (بدخنة) يدرسه فضيلة السيخ محمد الأمين حفظه الله فنفع الله به وكان بدء إحياء هذا العلم، وبدء عهد جديد له من سماحة
المفتى ﵀ على يد فضيلة المؤلف حفظه الله.
ثم فتحت الكليات سبة ١٣٧٤ هـ بدأت بكلية الشريعة وقرر فيها كتاب روضة الناظر للعلامة إبن قدامة من أشهر أئمة الحنابلة اختير لسعته وملاءمته وعنايته بقواعد مذهب الإمام أحمد ﵀ مع بيانه لأصول بقية المذاهب فيما فيه الخلاف.
1 / 5
ولما كانت دراسة هذا الفن آنذاك جديدة كان الطلاب يجدونه غريبا وصعبا، ولا سيما والكتاب المقرر بأسلوبه المتقدم، وتفريعاته الواسعة، كان لا بد للطلاب من مذكرة علمية تحل أشكاله وتكشف غموضه وتجمع شتاته، وتفصل مجمله.
وكان الذى تولى تدريسه هو فضيلة المؤلف حفظه الله، فأملى هذه المذكرة التي نقدم لها وذلك فى السنوات الأولى من تدريسه في الرياض وظل الطلاب يتناقلونها فيما بينهم دون أن تطبع لهم إلى أن تخرجت الدفعة الأولى والثانية والثالثة والرابعة.
وفي عام ١٣٨٠ هـ افتتحت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة تحت رئاسة سماحة المفتى بنيابة فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وانتقل فضيلة المؤلف إلى الجامعة منذ عامها الأول وتولى تدريس المادة في نفس الكتاب "روضة الناظر"
وتناقل الطلبة هذه المذكرة.
فكانت هذه المذكرة المباركة هي الأساس لجميع المتخرجين من كليات الإدارة العامة للمعاهد والكليات لآل الشيخ، وقد عم نفعها ولله الحمد حتى تصبح لطلابها المتخرجين عليها مؤلفات في هذا الفن ضمن مقررات المعاهد العلمية التي درسوا فيها ومعهد الجامعة الإسلامية ومعاهد اخرى ثانوية خارج هذه البلاد.
وقد شملت هذه المذكرة روضة الناظر كلها ما عدا المقدمة المنطقية التي افتتح بها المؤلف كتابه وضمنها ما لا بد منه من إصطلاحات المتكلمين المداخلة لهذا الفن تسهيلا لفهمها، ومسايرة
1 / 6
لمنهج دراسة هذا الفن وقد شملت مباحث الحد والبرهان، وأنواع الدلالة، وأقسام القضايا ونحو ذلك، فلم تتعرض هذه المذكرة لها.
وقد ألف فضيلة الشيخ حفظه الله رسالة مستقلة فى هذا الغرض أوسع وأشمل وأبسط وأسهل جعلها مقدمة لآداب البحث والمناظرة المقرر فى الجامعة الإسلامية.
وقد كانت تلك المذكرة متناثرة الأطراف لدى الطلاب لا تكاد توجد مجتمعة عند أحدهم. وقد لمست فيها من مهام هذا الفن، وتوجيهات قضاياه ما حملنى على جمعها كلها والعناية بها.
وقد رغبت الجامعة الإسلامية في طبعها مكتملة بعد تحقيقها، وتدقيقها وتصحيحها على فضيلة المؤلف حفظه الله لتكون أثرا من آثارها المجيدة. فكان ذلك نعمة متجددة لى بدراستها واتقانها.
وها هى بين يدى الطلاب آمل أن يجدوا فيها أكثر ما تصبوا إليه نفوسهم وتتطلع إليه أفكارهم فى هذا الفن مما يمكن أن تغنيهم عن غيرها ولا يكاد يغنى غيرها عنها، ولا سيما في مواطن الترجيح والمباحث العقلية حيث يجدونها بعيدة عن تعقيد الفلسفة وخالصة من شوائب السفسطة، ناصعة بنور الحق على هدى الكتاب والسنة وعقيدة سلف الأمة يدرسونها مطمئنين ويتلقونها بيقين لما لفضيلة مؤلفها حفظه الله من يد طولى وأثر حميد في هذا الفن وما يتصل به من عقائد ونصوص وأحكام وعلوم اللسان والمنطق والبيان مما يجعل مباحثها وافية شاملة.
1 / 7
والجدير بالذكر أن الكتاب المقرر "روضة الناظر " متأثر كثيرا بكتاب المستصفى للغزالى فى أصول الشافعية وهذه المذكرة متاثرة ايضا بمراقى السعود فى أصول المالكية وبهذا التأثر المزدوج تكون المذكرة مفيدة أصالة فى المذاهب الثلاثة الحنبلى، والشافعى، والمالكى.
وفى المذهب الحنفى فى مواطن الخلاف حينما تتعرض له.
وأحب أن أوصي الطلاب الراغبين في هذا الفن أن يولوه عنايتهم وأن يكون إقدامهم عليه بقوة وعزيمة وأن يعيدوا فيه النظر ويعملوا فيه الفكرة وأن تكون دراستهم إياه بتدبر وتعقل.
والله أسال أن يعم نفعها ويجزى بأحسن الجزاء مؤلفها ويفيد بوافر الثواب كل من سعى في طبعها ونشرها.
وأن تاريخ العلم ليسجل للجامعة الإسلامية فضل هذا العمل على يد رئيسها العالم الفاضل محب العلم وأهله سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز حفظه الله كما سيحتفظ للمؤلف بيد بيضاء في هذا الأثر الدائم نفعه المتواصل أجره. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبها تلميذ المؤلف:
عطية محمد سالم
١٢-٥-١٣٩١ هـ
1 / 8
بسم الله الرحمن الرحيم
حقيقة الحكم وأقسامه
اعلم أنه ﵀ ترجم هذه الترجمة التي لفظها (حقيقة الحكم وأقسامه) ولم يبين حقيقة الحكم ولا أقسامه، وانما ذكر منها الأقسام الشرعية فقط، ونحن نبين كل ذلك إن شاء الله تعالى.
اعلم أن الحكم في اللغة هو المنع ومنه قيل للقضاء حكم لأنه يمنع من غير المقضي تقول حكمه كنصره وأحكمه كاكرمه وحكمه بالتضعيف بمعنى منعه.
ومنه قول جرير:
أبنى حنيفة احكموا سفهاءكم ... انى أخاف عليكمو أن أغضبا
أبنى حنيفة إننى إن أهجكم ... أدع اليمامة لا توارى أرنبا
وقول حسان بن ثابت رضى الله عنه:
لنا في كل يوم من معد ... سباب أو قتال أو هجاء
فنحكم بالقوافى من هجانا ... ونضرب حين تختلط الدماء
ومن الحكم بمعنى المنع حكمة اللجام وهى ما أحاط بحنكى الدابة سميت بذلك لأنها تمنعها من الجرى الشديد والحكمة أيضا حديدة فى اللجام تكون على أنف الفرس وحنكة تمنعه من مخالفة راكبه، وكانت العرب تتخذها من القد وهو الأبق وهو القنب ومنه قول زهير:
القائد الخيل منكوبًا دوابرها ... قد أحكمت حكمات القد والأبقا
1 / 9
والحكم فى الاصطلاح هو (اثبات أمر لأمر أو نفيه عنه) نحو زياد قائم وعمرو ليس بقائم وهو ينقسم بدليل الاستقراء إلى ثلاثة أقسام:
حكم عقلى وهو ما يعرف فيه (العقل) النسبة ايجابًا أو سلبًا نحو الكل أكبر من الجزء ايجابًا.
الجزء ليس أكبر من الكل سلبًا.
حكم عادى: وهو ما عرفت فيه النسبة بالعادة نحو السيقمونيا مسهل للصفراء والسكنجبين مسكن لها.
حكم شرعى: وهو المقصود وحده جماعة من أهل الأصول بأنه (خطاب الله المتعلق بفعل المكلف من حيث انه مكلف به) .
فخرج بقوله (خطاب الله) خطاب غيره لأنه لا حكم شرعيا الا لله وحده جل وعلا فكل تشريع من غيره باطل، قال تعالى:
(
ان الحكم الا لله) (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) (فان تنازعتم فى شيء فردوه إلى الله والرسول) الآية.
وخرج بقوله (المتعلق بفعل المكلف ما تعلق بذات الله تعالى نحو "لا اله الا الله" وما تعلق بفعله نحو قوله تعالى: "خالق كل شيء " وما يتعلق بذوات المكلفين نحو "ولقد خلقناكم ثم صورناكم " الآية. وما تعلق بالجمادات نحو "ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة".
وخرج بقوله (المتعلق بفعل المكلف) خطاب الله تعالى المتعلق بفعل المكلف لا من حيث انه مكلف به كقوله تعالى "يعلمون ما تفعلون" فأنه خطاب من الله متعلق بفعل المكلف من حيث ان
1 / 10
الحفظة يعلمونه لا من حيث انه مكلف به، واعلم أن عبارات الأصوليين اضطربت في تعريف الحكم الشرعى. وسبب اضطرابها أمران: أحدهما أنبعض المكلفين غير موجود وقت الخطاب والمعدوم ليس بشيء حتى يخاطب:
ثانيهما زعمهم أن الخطاب هو نفس المعنى الازلى القائم بالذات المجرد عن الصيغة وسنين ان شاء الله تعالى غلطهم الذى سبب لهم تلك الاشكالات فى مبحث الأمر.
واعلم أن الحكم الشرعى قسمان: أولهما تكليفى وهو خمسة أقسام - (الواجب والمندوب والمباح والحرام) .
والثانى خطاب الوضع وهو أربعة أقسام (العلل والأسباب والشروط والموانع) وأدخل بعضهم فيه الصحة والفساد والرخصة والعزيمة وبعضهم بجعل الصحة والفساد من خطاب التكليف اذا علمت ذلك فهذه تفاصيل لأحكام الشرعية.
قال المؤلف ﵀:
أقسام أحكام التكليف خمسة (واجب ومندوب ومباح ومكروه ومحظور) .
التكليف لغة هو الزام ما فيه كلفة أي مشقة.
ومنه قول الخنساء:
يكلفه القوم ما نابهم ... وان كان أصغرهم مولدا
وقول علقمة بن عبدة التميمى:
تكلفنى ليلى وقد شط وليها ... وعادت عواد بيننا وخطوب
وحده فى الاصطلاح قيل (الزام ما فيه مشقة) وقيل طلب ما فيه مشقة فعلى الاول لا يدخل فى حده الا الواجب والحرام اذ لا الزام بغيرهما وعلى
1 / 11
الثانى يدخل معهما المندوب والمكروه لان الاربعة مطلوبة، وأما الجائز فلا يدخل فى تعريف من تعاريف التكليف اذ لا طلب به أصلا،
فعلا ولا تركان وانما أدخلوه في أقسام التكليف مسامحة وتكميلا للقسمة المشار إليها بقول المؤلف (وجه هذه القسمة أن خطاب الشرع اما أن برد باقتضاء الفعل أو الترك أو التخير بينهما فالذى سرد باقتضاء الفعل أمر فأن اقترن به اشعار بعدم العقاب على الترك فهو ندب والا فيكون ايجابا والذى يرد باقتتضاء الترك نهى فان أشعر بعدم العقاب على الفعل فكراهة والا فحظر) كلامه واضح.
ثم قال وحد الواجب (ما توعد بالعقاب على تركه) وقيل (ما يعاقب تاركه) وقيل ما (يلزم تاركه شرعا العقاب) اعلم أولا أن الوجوب فى اللغة هو سقوط الشيء لازما محله كسقوط الشخص ميتا فأنه يسقط لازما محله لانقطاع حركته بالموت، ومنه قوله تعالى: "فاذا وجبت جنوبها" أي سقطت ميتة لازمة محلها، وقوله فى الميت: (فاذا وجب فلا تبكين باكية) .
وقول قيس بن الخطيب:
أطاعت بنو عوف أميرًا نهاهم ... عن السلم حتى كان أول واجب
ويطلق الوجوب على اللزوم وفى الاصطلاح عرفه المؤلف بأنه (ما توعد بالعقاب على تركه) والوعيد بالعقاب على تركه لا ينافى المغفرة كما بينه تعالى بقوله:"ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" وان شئت قلت فى حد الواجب (ما أمر به أمرا حازما) وضابطه أن فاعله موعود بالثواب وتاركه متوعد بالعقاب كالصلاة والزكاة والصوم.قال المؤلف ﵀ (والفرض هو الواجب على احدى الروايتين) .
فحاصل كلامه أن الفرض هو الواجب على احدى الروايتين وهو قول
1 / 12
الشافعى ومالك.
وعلى الرواية الأخرى فالفرض آكد من الواجب فالفرض ما ثبت بدليل قطعى كالصلاة، والواجب ما ثبت بدليل ظنى كالعمرة عند من أوجبها، وهو قول أبى حنيفة وقيل: (الفرض ما لا يسامح بتركه عمدًا ولا سهوًا) كاركان الصلاة، والواجب ما يسامح فيه ان وقع من غير عمد كالصلاة بالنجاسة عند من يقول بالمسامحة في ذلك واصطلح كثير من العلماء من مالكية وشافعية وحنابلة على اطلاق الواجب على السنة المؤكدة تأكيدا قويا.
(فصل)
قال المؤلف ﵀:
(الواجب ينقسم إلى معين وإلى مبهم فى أقسام محصورة..) .
اعلم أن الواحب ينقسم ثلاثة تقسيمات: ينقسم باعتبار ذاته إلى واجب معين لا يقوم غيره مقامه كالصوم والصلاة، وإلى مبهم فى أقسام محصورة فهو واجب لا بعينه كواحدة من خصال الكفارة فى قوله تعالى: "فكفارته اطعام عشرة مساكين". الآية.
فالواجب واحد منها لا بعينه فأي واحد فعله الحانث أجزأه وزعم المعتزلة أن التخيير مطلقا ينافى ذلك الوجوب باطل، لانه لم يخير بين الفعل والترك تخييرا مطلقا حتى ينافى ذلك الوجوب، بل لا يجوز ترك بعضها الا مشروطا بفعل بعض آخر منها، فلو ترك جميعها لكان آثما ولا خيار له فى ترك
الجميع، ولا يجب عليه فعل جميعها اجماعا فتبين أن الواجب واحد منها لا بعينه لان كل واحد منها يفى بالمقصود الشرعى ولا يحصل
1 / 13
دون واحد منها وكذلك غير المحصورة كاعتاق رقبة فى الظهار أو اليمين فان تزويج المرأة الطالبة للنكاح من أحد الكفأين الخاطبين وعقد الامامة لأحد الرجلين الصالحين فان كان ذلك يجب فيه واحد لا بعينه، ولا يمكن أن يقال فيه بايجاب الجميع ولا بسقوط ايجاب الجميع كما ترى.
وينقسم الواجب أيضا باعتبار وقته إلى مضيق وموسع، فالواجب المضيق هو ما وقته مضيق وضابط ما وقاه مضيق واجبا كان أو غيره هو ما لا يسع وقته أكثر من فعله كصوم رمضان فى الواجب، وستة من شوال عند من يقول بأنها لا بد أن تكون متتابعة تلى يوم الفطر، وهو ظاهر حديث أبى أيوب، وحديث ثوبان، والأيام البيض فى غير الواجب، والواجب الموسع هو ما يسع وقته أكثر من فعله كالصلواة الخمس، ومثاله فى غير الواجب الوتر وركعتا الفجر والعيدان والضحى.
والوقت في الاصطلاح هو الزمن الذى قدره الشارع للعبادة وما زعمه بعضهم من أن الواجب الموسع مستحيل زاعما أن التخيير فى فعل العبادة ذات الوقت الموسع فى أول الوقت ووسطه ينافى الوجوب اذ الواجب حتم لا تخيير فيه ولا يجوز تركه فهو باطل - أي الزعم بأن الواجب الموسع مستحيل - لان الواجب الموسع من قبيل الواجب المبهم فى واحد لا بعينه كالصلاة يجب أن تؤدى فى حصة من حصص الوقت من أوله أو وسطه أو آخره فعل فيها الصلاة أجزأته كما أن أي واحدة من خصال الكفارة فعلها أجزأته.
وقد أجمع العلماء على أم من أدى الصلاة فى أول وقتها أنه يثاب ثواب الفرض وتلزمه نية الفرض - محل الاستدلال لزوم نية الفرض مع جواز
1 / 14
التأخير - فدل ذلك على بطلا قول من قال انها لو وجبت فى أول الوقت لما جاز ترك أدائها إلى وسط الوقت، لان التخيير فى ذلك الوقت إلى ما بعده ينافى الوجوب، ولا شك أن ذلك كله باطل كما بينا.
وينقسم الواجب أيضا باعتبار فاعله إلى واجب عينى وواجب على الكفاية فالواجب العينى هو ما ينظر فيه الشارع إلى ذات الفاعل كالصلاة والزكاة والصوم، لان كل شخص تلزمه بعينه طاعة الله ﷿ لقوله تعالى: (وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون)
وأما الواجب على الكفاية فضابطه أنه ينظر فيه الشارع إلى نفس الفعل، بقطع النظر عن فاعله، كدفن الميت، وانقاذ الغريق ونحو ذلك، فان الشارع لم ينظر إلى عين الشخص الذى يدفن الميت أو ينقذ الغريق، اذ لا فرق عنده فى ذلك بين زيد وعمرو، وانما ينظر إلى نفس الفعل الذى هو
الدفن والانقاذ مثلا وستأتى مسألة فرض الكفاية فى مباحث الامر ان شاء الله تعالى.
(فصل)
قال المؤلف: اذا أخر الواجب الموسع فمات فى أثناء وقته قبل ضيقه لم يمت عاصيا.. الخ. خلاصة ما ذكره المؤلف فى هذا الفصل أن المكلف اذا مات فى أول الوقت أو وسطه والحال أنه لم يؤد الصلاة لم يمت عاصيا لان الوقت الموسع يجوز للانسان أن يأتى بالصلاة فى أية حصة شاءها
1 / 15
من حصصه سواء كانت من أوله أو وسطه، كالمحكوم عليه بالقتل مع تعيين وقت التنفيذ، لأن الوقت يضيق فى حقه بسبب ظن الموت، فلو تخلف الظن وسلم من الموت وأدى
الصلاة فى آخر الوقت فهل تكون صلاته أداء وهو الظاهر لوقوعها فى الوقت، ضاق فى حقه بسبب ظن الموت، بدليل أنه لو مات فى الوقت مع ظن الموت ولم يبادر بالصلاة مات عاصيا.
(فصل)
قال المؤلف:
ما لا يتم الواجب الا به ينقسم إلى ما ليس داخل تحت قدرة المكلف كالقدرة واليد فى الكتابة وحضور الامام والعدد فى الجمعة فلا يوصف بوجوب. وإلى ما هو داخل تحت قدرة العبد فيما يتعلق باختيار العبد كالطهارة للصلاة، والسعى للجمعة، وغسل جزء من الرأس وامساك جزء من الليل مع النهار فى الصوم فهو واجب.. الخ..
حاصل معنى كلامه ﵀ أن ما لا يتم الواجب الا به قسمان:
قسم ليس تحت قدرة العبد كزوال الشمس لوجوب الظهر وككون من تعينت عليه الكتابة مقطوع اليدين، وكحضور الامام والعدد الذى لا تصح الجمعة بدونه، فلا قدرة للمكلف على قهر الامام على الحضور إلى المساجد، فهذا النوع لا يوصف بوجوب الا على قول من جوز التكليف بما لا يطاق وهو مذهب باطل مردود.
1 / 16
وقسم تحت قدرة العبد، كالطهارة، والسعى للجمعة، وغسل جزء من الرأس، اذ لا يتحقق تعميم غسل الوجه الا بغسل جزء يسير من الرأس، وامساك جزء من الليل مع النهار اذ لا يتحقق الامساك فى جميع نهار رمضان الا بأمساك جزء يسير من الليل، بناء على أن الغاية فى قوله تعالى: (حتى يتبين لكم الخيط الابيض) . الآية. خارجة وهو الصحيح، لأن من أخر الامساك عن جميع أجزاء الليل بتمامها فهو متناول للفطر قطعا فى نهار رمضان، اذ لا واسطة بين الليل والنهار.
وما جاء من الأحاديث موهما جواز تناول المفطر بعد الصبح فهو محمول على أن المراد به أنه فى آخر جزء من الليل لشدة قربه من النهار. وهذا القسم الاخير أعنى ما هو تحت قدرة المكلف قال المؤلف انه واجب هذا حاصل معنى كلامه ﵀، قال مقيده عفا الله عنه وهذا التقسيم غير جيد وحاصل تحرير المقام أن يقال: ما لا يتم الواجب الا به ثلاثة أقسام:
قسم ليس تحت قدرة العبد كما مثلنا له آنفا.
وقسم تحت قدرة العبد عادة الا أنه لم يؤمر بتحصيله كالنصاب - لوجوب الزكاة والاستطاعة لوجوب الحج والاقامة لوجوب الصوم، وهذان القسمان لا يجبان اجماعا.
القسم الثالث ما هو تحت قدرة العبد مع أنه مأمور به كالطهارة للصلاة والسعى للجمعة.. الخ.. وهذا واجب على التحقيق وان شئت قلت: (ما لا يتم الواجب المطلق الا به فهو واجب) كالطهارة للصلاة و(ما لا يتم الواجب المعلق - على شرط كالزكاة معلقة على ملك النصاب، والحج على الاستطاعة - الا به فليس
1 / 17
بواجب) كالنصاب للزكاة والاستطاعة للحج، وأوضح من هذا كله أن نقول: (ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب كالطهارة للصلاة) وما لا يتم الوجوب الا به فليس بواجب كالنصاب للزكاة.
(تنبيه)
اعلم أن الطهارة للصلاة واجبة اجماعا كما لا يخفى، وحينئذ فعلى أن ما لا يتم الواجب المطلق الا به واجب، فجميع النصوص الموجبة للصلاة توجب الطهارة لأنها لا تتم الا بها. وما لا يتم الواجب الا به واجب، وان كانت الطهارة واجبة بأدلة أخرى اذ لا مانع من تعدد الأدلة، وعلى العكس فالطهارة واجبة بالنصوص الأخرى فقط دون النصوص الموجبة للصلاة.
(فصل)
قال المؤلف ﵀:
(واذا اختلطت أخته بأجنبية أو ميتة بمذكاة حرمنا الميتة بعلة الموت والأخرى بعلة الاشتباه) . هذه المسألة يترجم لها علماء الأصول بقولهم: (ما لا يتم ترك الحرام الا بتركه فتركه واجب) فان اختلطت ميتة بمذكاة أو أخته بأجنبية فلا يتم ترك الحرام الذى هو أكل الميتة فى الاول ونكاح الأخت فى الثانى الا بترك الجميع، فترك الجميع واجب.
وقول المؤلف ﵀ حرمنا الميتة بعلة الموت والأخرى بعلة الاشتباه فيه نظر لأن الميتة غير معروفة بعينها، فالجميع محرم لأنه لا يتم ترك الحرام الا بترك الجميع، فكل واحدة أكل منها احتمل أن تكون هى الميتة، وقول من قال ان المذكاة حلال لكن يجب الكف عنها ظاهر التناقض كما بينه المؤلف.
1 / 18
(فصل)
قال المؤلف:
الواجب الذى لا يتقيد بحد محدود كالطمأنينة فى الركوع والسجود، الخ، اعلم أولا أن الزيادة على الواجب لها حالتان:
(الاولى): أن تكون الزيادة على الواجب متميزة عنه كصلاة النافلة بالنسبة إلى الصلوات الخمس، وهذه الزيادة غير واجبة كما هو واضح.
(الثانية): أن تكون الزيادة غير متميزة عن الواجب كالزائد على قدر الفرض من الطمأنينة فى الركوع والسجود ونحو ذلك، فقال قوم الزيادة هنا واجبة لأن الجميع امتثال للأمر الواجب ولم يتميز فيه واجب عن غيره فالكل واجب لانه امتثال للواجب والحق أن الزائد غير واجب، والدليل على ذلك جواز تركه والاقتصار على ما يحصل به الفرض فقط من الطمأنينة من غير شرط ولا بدل.
قال المؤلف الثانى (المندوب) خلاصة ما ذكره المؤلف فى هذا المبحث أن المندوب هو ما فعله الثواب وليس فى تركه عقاب وهذا أجود التعريفين اللذين ذكرهما المؤلف، وان شئت قلت: (ما أمر به أمرًا غير جازم والتحقيق أن المندوب مأمور به لان الأمر قسمان):
أمر جازم أي فى تركه العقاب وهو الواجب.
وأمر غير جازم، أي لا عقاب فى تركه وهو المندوب.
والدليل على شمول الأمر للمندوب قوله تعالى: "وافعلوا الخير"
1 / 19
أي ومنه المندوب وامر بالمعروف، أي ومنه المندوب: "ان الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذى القربى "، أي ومن الاحسان وايتاء ذى القربى ما هو مندوب، واحتج من قال ان الندب غير مأمور به بقوله: " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب إليهم " قالوا فى الآية التوعد على مخالفة الأمر بالفتنة والعذاب الأليم، والندب لا يستلزم تركه شيئا من ذلك، والحديث: (لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) مع أنه ندبهم إلى
السواك قالوا فدل ذلك على أن الندب غبر مأمور به والجواب أن الأمر فى الآية والحديث المذكورين يراد به الأمر الواجب، فلا ينافى أن يطلق الامر أيضا على غير الواجب، فلا ينافى أن يطلق الامر أيضا على غير الواجب، وقد قدمنا أن الامر يطلق على هذا وهذا وزعم من قال ان الندب تخيير بدليل جواز تركه والامر استدعاء وطلب. والتخيير والطلب متنافيان، زعم غير صحيح، لان الندب ليس تخييرا مطلقا بدليل أن الفعل فيه أرجح من الترك للثواب فى فعله وعدم الثواب فى تركه،
ولان المندوب أيضا مطلوب الا أن طلبه غير جازم والندب فى اللغة الدعاء إلى الفعل، ومنه قوله:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... فى النائبات على ما قال برهانا
والثواب فى اللغة الجزاء مطلقا ومنه قوله:
لكل أخى مدح ثواب علمته ... وليس لمدح الباهلى ثواب
أي جزاء، وزعم أن الثواب يختص بجزاء الخير بالخير غير صحيح، بل يطلق الثواب أيضا على جزاء الشر بالشر فى اللغة، ومنه قوله تعالى:
(قل هل انبؤكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير) . الآية.
1 / 20
وقوله تعالى (هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون)، والعقاب فى اللغة التنكيل على المعصية، ومنه قول النابغة الذبيانى:
ومن عصاك فعاقبة معاقبة ... تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد
(المباح)
قال المؤلف ﵀:
القسم الثالث (المباح) وحده، ما أذن الله فى فعله وتركه غير مقترن بدم فاعله وتاركه ولا مدحه وهو من الشرع.. الخ.. كلامه.
اعلم أن الاباحة عند أهل الأصول قسمان:
الاولى: اباحة شرعية أي عرفت من قبل الشرع كانباحة الجماع فى ليإلى رمضان المنصوص عليها بقوله: " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم " ونسمى هذه الاباحة الاباحة الشرعية.
الثانية: اباحة عقلية وهى تسمى فى الاصطلاح البراءة الأصلية والاباحة العقلية وهى بعينها (استصحاب العدم الأصلى حتى يرد دليل ناقل عنه) ومن فوائد الفرق بين الاباحتين المذكورتين أن رفع الاباحة الشرعية يسمى نسخا كرفع اباحة الفطر فى رمضان، وجعل الاطعام بدلا عن الصوم المنصوص فى قوله: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) فانه منسوخ بقوله: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه". وأما الاباحة العقلية فليس رفعها نسخا لأنها ليست حكما شرعيا بل عقليا، ولذا لم يكن تحريم الربا ناسخا لاباحته فى أول الاسلام لأنها اباحة عقلية، وأمصال ذلك كثيره جدا.
1 / 21
والمباح فى اللغة: هو ما ليس دونه مانع يمنعه، ومنه قول عبيد بن الأبرص:
ولقد أبحنا ما حميت ... ولا مبيح لما حمينا
(تنبيه)
قد دلت آيات من كتاب الله على أن استصحاب العدم الاصلي حجة على عدم المؤاخذة بالفعل حتى يرد دليل ناقل عن العدم الاصلى، من ذلك أنهم كانوا يتعاملون بالربا. فلما نزل تحريم الربا خافوا من أكل الاموال الحاصلة منه بأيديهم قبل تحريم الربا، فأنزل الله فى ذلك: "فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله من سلف وأمره إلى الله " فقوله تعالى: "فله ما سلف" يدل على أن ما تعاملوا به من الربا على حكم البراءة الاصلية قبل نزول التحريم لا مؤاخذة عليهم به، ونظير ذلك قوله: " وأن تجمعوا بين الأختين الا ما قد سلف " فان قوله
تعالى "الا ما قد سلف" فى الموضعين استثناء منقطع، أي لكن ما سلف قبل التحريم على حكم البراءة الاصلية فهو عفو.
ونظائر هذا فى القرآن الكريم كثيرة ومن أصرح الآيات فى ذلك قوله تعالى: (وما كان الله ليضل قومًا بعد اذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) .
فانهم لما استغفروا لموتاهم المشركين فنزل قوله تعالى:
(ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى) .
1 / 22