ومن ملحوظات ابن جبير في مسيره من حلب إلى دمشق (ص254) أن «خانات هذا الطريق كأنها القلاع امتناعا وحصانة، وأبوابها حديد وهي من الوثاقة في الغاية»، وكفى بهذا دليلا ناطقا على أحوال بلاد الشام في عهده، وقد كرر الرحالة مثل هذا القول غير مرة؛ اطلب مثلا قوله في خان السلطان (ص259).
ثم يذكر ابن جبير في طريقه من حلب إلى حماة «جبل لبنان» على حسب عادة الأقدمين الذين كانوا يطلقون هذا الاسم ليس فقط على لبنان الحالي، بل أيضا على جبال النصيرية الواقعة في شماله،
7
وجعل في سفح هذا الجبل (ص255) «الملاحدة الإسماعيلية»، وذكر شيئا من بدعتهم، أما لبنان الحالي فقد عرفه ابن جبير بما حرفه (ص287): «وهذا الجبل من أخصب بلاد الدنيا، فيه أنواع الفواكه، وفيه المياه المطردة والظلال الوارفة.»
وأضاف إلى قوله ما يؤيد قول المقدسي في العباد المنقطعين إلى الله في لبنان فقال: «وقلما يخلو من التبتيل والزهادة.»
ثم مر ابن جبير في رستن (ص257)، فأشار إلى آثارها العظيمة، وتخريبها على يد عمر بن الخطاب، ثم قال: «ويذكر القسطنطينيون أن بها أموالا مكنوزة، والله أعلم.» وقوله هذا صدى لمزاعم العامة في كل زمان عن المطالب والدفائن المكنوزة في الأخربة القديمة، وهو شائع في أنحاء سورية إلى عهدنا هذا، وربما صدقة الجهال فأخربوا بسببه عدة آثار جليلة حطموها طمعا فيما تحتها من الكنوز المرصودة على زعمهم.
ومما أثنى عليه في حمص محاسن بساتينها وطيب هوائها. وذكر قبر خالد بن الوليد، ثم قبر ابنه عبد الرحمن الذي أشبه أباه بجليل أعماله، وأضاف إليهما قبر عبيد الله
8
بن عمر الذي قتل في صفين. ويؤخذ من قول ابن جبير أن جثة عبيد الله نقلت إلى حمص بعد موته، وكانت حمص على عهد ابن جبير فقدت كثيرا من محاسنها، كما لحظ الكاتب حيث قال (ص258): «وأسوار هذه المدينة في غاية العتاقة والوثاقة، مرصوص بناؤها بالحجارة الصم السود، وأبوابها أبواب حديد سامية الأشراف، هائلة المنظر، رائعة الأطلال والإنافة تكتنفها الأبراج المشيدة الحصينة، وأما داخلها فما شئت من بادية شعثاء، خلقة الأرجاء، ملفقة البناء، لا إشراق لآفاقها، ولا رونق لأسواقها، كاسدة لا عهد لها بنفاقها.»
ثم واصل المسافر سيره من حمص إلى دمشق، وكانت الطريق بينهما قليلة العمران كما في أيامنا، اللهم إلا ثلاثا أو أربع قرى التي أحتلها كقارة التي لم يجد فيها غير النصارى (ص259) والنبك، وبعد اجتيازه في خان السلطان، فثنية العقاب، فقصير دخل الفيحاء، فأطلق العنان لقلمه في وصفها، وقد أتسع في ذكر محاسنها وأطنب أي أطناب، ولولا مبالغته في السجع لقلنا إن كلامه من أوفى ما جاء في بيان صفاتها، لا نستثني من ذلك إلا بعض الكتب الخاصة التي وضعت في فضائل دمشق، ودونك ما روى عن بعض أبنيتها، قال (ص283): «وبهذه البلدة نحو عشرين مدرسة وبها مارستانان، قديم وحديث، والحديث أحفلهما وأكبرهما، وجرايته في اليوم نحو الخمسة عشر دينارا، وله قومة بأيديهم الأزمة المحتوية على أسماء المرضى، والنفقات التي يحتاجون إليها في الأدوية والأغذية وغير ذلك، والأطباء يبكرون إليه في كل يوم ويتفقدون المرضى، ويأمرون بإعداد ما يصلحهم من الأدوية والأغذية حسبما يليق بكل إنسان منهم، والمارستان الآخر على هذا الاسم، لكن الاحتفال في الجديد أكثر، وهذا القديم هو غربي الجامع المكرم، وللمجانين المعتقلين أيضا ضرب من العلاج، وهم في سلاسل موثقون نعوذ بالله من المحنة وسوء القدر.»
صفحة غير معروفة