ويضاف إلى هذا الخلل في تركيب سورية الجغرافية خلل آخر ليس بأقل ضررا منه بوحدة إدارتها؛ نريد سلاسل جبالها التي تخترق البلاد فتمنع اختلاط طوائفها وتوحيد عناصرها، كما ترى في سويسرة وجهات الأناضول؛ حيث ارتفعت أيضا الجبال الشاهقة، فأضرت بامتزاج أقسامها، والتاريخ يعلمنا أن الدول الكبرى كانت تجعل مراكزها في السهول، أما سهول سورية فتراها بعيدة عن مركز حركتها، معتزلة في طرفها الشمالي الشرقي، وتلك الجهة أشبه ببادية مقفرة، وهي منزوية معتزلة، فلا تستطيع أن تنشأ فيها مدينة عامرة تحيي الأطراف بنفوذها.
وما هو أخطر من ذلك أن هذه الجبال السورية - التي يبلغ معدل علوها 2000 متر - تقوم في وسط البلاد كحاجز متواصل يفرد كل طائفة في مكانها ويؤثر في حياتها، فاصلا كل قسم عن أخيه، بحيث لا يمكنه أن ينال منه فائدة لترقيه وتمدنه، لا سيما أن هذه السلسلة تمتد من الشمال إلى الجنوب، وهي وجهة أقل نسبة لامتزاج الشعوب من وجهة الغرب إلى الشرق؛ لأن السكان إذا انتقلوا تابعين لدرجات العرض أمكنهم أن يعتادوا تغيير الأحوال الجوية بخلاف الذين يتبعون درجات الطول، فإنهم يبلون بمقاساة المظاهر الجوية التي لم يعتادوها.
وزد عليه أن جبال الشام تنفصل في سورية الوسطى إلى سلسلتين متوازيتين، لا تكاد الثانية تختلف في علوها عن الأولى، وهذه السلسلة الجديدة تدعى بالجبل الشرقي، تمتد شعبها على نواحي دمشق وبادية تدمر وحوران وما وراء الأردن، والجبلان أشبه بحائطين هائلين بينهما البقاع والغور كواد غريب، يبلغ منهبطه عند طرفه الجنوبي - أي بحر لوط - عمقا لا يقل عن 400 متر تحت سطح البحر المتوسط.
والحق يقال: إن الطبيعة أحسنت إلى سورية في شيء؛ إذ حصنتها بسور من الجبال، لكنها أفرطت في توفير هذه الجبال في قلب البلاد، فإن السائر الذي يتوغل من سواحل الشام إلى الجهات الداخلية، يلقى في مسيره خمسة أنحاء جغرافية تختلف أحوالها كل الاختلاف في حرارتها وهوائها ونباتها مع قلة أسباب المواصلات بينها؛ لأن السلسلة الكبيرة التي تمتد طولا في وسط سورية لا تنقطع انقطاعا محسوسا إلا عند علو طرابلس؛ حيث توصل جبل النصيرية بأول منعطف لبنان آكام قليلة الارتفاع.
ولو قطعت سورية تبعا لخط الهاجرة؛ أي من الشمال إلى الجنوب لوجدت فرقا كهذا، فإن الطبيعة قد قسمت سورية إلى خمس أو ست كور مختلفة السعة، تعزلها عن بعضها الأنهار أو الجبال بحيث تستطيع كل كورة أن تكون منفردة عن أختها،
25
وكذلك في الشمال البلاد المرتفعة الواقعة بين الفرات ومصب العاصي، وفي الوسط بلاد البقاع بين سلسلتي لبنان غير المتساويتين، ثم دمشق وغوطتها من جهة وفينيقية من جهة أخرى. وأخيرا في الجنوب مجموع بلاد متباينة، كأنها طبقات درجية ترتفع فوق بعضها على جانبي وادي الأردن شمالا ويمينا.
وممن لحظوا هذه الاختلافات الغريبة التي خصت بها أنحاء الشام، جغرافي عربي من مشاهير كتبة القرن العاشر، نريد شمس الدين أبا عبد الله محمد بن أحمد المعروف بالمقدسي، وكان أصله من الشام، فإنه دون في كتابه الموسوم «بأحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» ملحوظا جغرافيا يدل على توقد ذهنه ودقة فكره، قال في وصف إقليم الشام (في الصفحة186): «ووضع هذا الإقليم ظريف؛ هو أربعة صفوف: الأول يلي بحر الروم وهو السهل، رمال متعقدة ممتزجة، يقع فيه من البلدان الرملة وجميع مدن السواحل، والصف الثاني الجبل مشجر ذو قرى وعيون ومزارع يقع فيه من البلدان بيت جبريل وإيليا،
26
ونابلس واللجون وكابل وقدس والبقاع وأنطاكية، والصف الثالث الأغوار ذات قرى وأنهار ونخيل ومزارع ونيل، يقع فيه من البلدان ويلة وتبوك وصفن وأريحا وبيسان وطبرية وبانياس، والصف الرابع سيف البادية، وهي جبال عالية باردة معتدلة مع البادية ذات قرى وعيون وأشجار، يقع فيها من البلدان مآب وعمان وأذرعات ودمشق وحمص وتدمر وحلب، وتقع الجبال الفاصلة مثل جبل زيتا وصديقا
صفحة غير معروفة