بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ذي القوة الباهرة، والسطوة القاهرة والنعمة الغامرة، والرحمة الوافرة، المرتفع عن تمثيل الخواطر الخاطرة، وتحصيل النواظر الناظرة المنعم بإرسال الرسل المتواترة لإرشاد الفطن الحايرة وإخماد الفتن الثايرة، أحمده حمدا تقيل له المساعي البايرة وتقل معه الدواعي الفاترة وترغم به الأنوف النافرة وتحسم به الدوائر الدايرة وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة استدفع بها الأهوال الفاقرة واسترفع بها الأعمال القاصرة وصلى الله على صاحب الدعوة الطاهرة والملة السايرة سيدنا (محمد) ذي الأعراف الفاخرة والأخلاق الطاهرة وعلى ذرية الأنجم الزاهرة والبحار الزاخرة صلاة تخرق الحجب الساترة وتسبق الأعداد الحاصرة وبعد فإن القواعد العقلية، والشواهد النقلية قاضية بأن أتم الأسباب معتصما، وأهمها متمسكا وملتزما، استعمال قوتي النظر والعمل هذه لتحصيل سعادة المعاد، وتلك لتحصين العقايد من تطرق وجوه الفساد ولما لم يكن كل عمل موصلا ولا كل نظر محصلا افتقر الإنسان إلى مرشد ليسلك بتوفيقه جادة الصواب، ويأمن بتثقيفه الوقوع في مادة الاضطراب، فأوجبت الحكمة نصب نبي، يتلقى الآداب الشرعية عن وحي إلهي، ثم يؤيد بالعجز الحق
صفحة ١٧
الدال على الصدق، فيتلقى بالقبول أوامره ونواهيه، ويذعن بالتسليم لما يسنه ويقرره.
ولما قضت الحكمة بالعدم، وأوجبت فناء الأمم، لزم أن يوعز ما لقن من أحكامه، ولتقن أقسامه إلى أئمة ينوبون منابه ويقومون مقامه، يحفظون ما أودعه ويؤدون ما شرعه، لا تعلق بهم عوارض الالتباس ولا يسندون إلى استحسان ولا قياس ليوثق بما يؤخذ عنهم كما قال الله سبحانه ﴿لعلمه الذين يستنبطونه منهم﴾ (١) ولما كانت الحوادث قد تفرض والموانع قد تعرض، ندب الله سبحانه إلى التفقه، فق لتنبه الغافلون ويهتم المهملون: ﴿فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون﴾ (٢) وقال رسول الله: صلى الله عليه وآله (طلب العلم فريضة) (٣) وقال علي عليه السلام: (العلم مخزون عند أهله وقد أمرتم بطلبه منهم) (٤) وقال جعفر بن محمد (لو علم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج) (٥) لكن لم يبذل لكل طالب ولا تيسر لكل راغب بل خص به من رشدت خلايقه، وحمدت طرايقه تعظيما لقدره، وتفخيما لأمره وصونا لسره، فقال سبحانه تنبيها وتذكيرا ﴿يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا﴾ (6) فلهذا كان الفقهاء أعظم الناس أقدارا، وأكرمهم آثارا، وأظهرهم أسرارا، وأظهرهم ذكرا وانتشارا وأكثر هم أتباعا وأنصارا، لا يضرهم خذلان الخاذلين، ولا يغض منهم أغراض الجاهلين، بل صحبتهم طاعة وفرقتهم إضاعة.
صفحة ١٨
قال أمير المؤمنين عليه السلام لولده محمد رضي الله عنه: (تفقه في الدين فإن الفقهاء ورث الأنبياء) (1) وأن طالب العلم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتى الطير في جو السماء، والحوت في البحر وأن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى به وقال الصادق عليه السلام: (الأنبياء حصون والعلماء سادة) (2) وقد خص الله طائفتنا باقتفاء الصدق، واتباع الحق، لتلقي الأحكام عن رؤساء أهل البيت، فهم معتمدون على التحقيق، مستندون إلى الذكر الوثيق، لا يلوون على قائل بظنه، شارع برأيه، يقول على الله ما لا يعلم، ويفتي بالوهم، وساء ما يتوهم ولما تعددت التبع، وظهرت البدع، وأقام كل فريق رأسا، يقتدون ببدعته، ويتعبدون بشرعته، وجب أن ينشر أهل الحق ما علموه، ويظهروا ما كتموه، قال النبي صلى الله عليه وآله: (إذا ظهرت البدع في أمتي، فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله) (3) ولما كانت الكتابة مناط الفهم، ورباط العلم، وصراط العصمة من الوهم، كما قال جعفر بن محمد: (اكتبوا فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا) (4) وقال للمفضل:
(اكتب، وبث كتبك في إخوانك، فإنه يأتي على الناس زمان، لا يأنسون إلا بالكتب) (5) أحببت أن أكتب دستورا يجمع أصول المسائل وأوائل الدلائل أذكر فيه خلاف الأعيان من فقهائنا، ومعتمد الفضلاء من علمائنا، وألحق بكل مسألة من الفروع ما يمكن إثباته بالحجة، وسياقته إلى المحجة، فقطعت الحوادث عن ذلك القصد، ومنعت الكوارب ورود ذلك الورد، حتى اتفق لنا إحضار كتاب الشرايع بالمختصر
صفحة ١٩
النافع، فدق كثير من معانيه لشدة اختصاره ، واشتبهت مقاصده لبعد أغواره، فحركني.
ذلك لشرح مشتمل على تحرير مسائله وتقرير دلائله.
هذا والموانع حاجزة، والأسباب عاجزة، حتى ورد أمر الصاحب الأعظم، ولي النعم، غياث الأمم، سلطان صدور العرب والعجم، العالم العادل، المخصوص بمزايل الفضائل والفواضل، مقرر قواعد الإيمان بسيرته العادلة، ومدمر دعائم الطغيان بسطوته الهائلة، جابر العباد، وقاهر العناد بهاء الملة والدين، عماد الإسلام والمسلمين (محمد ابن المولى) صاحب ديوان الممالك، باسط العدل في الأقطار والممالك، شمس الملة والدين، ناصر الإسلام والمسلمين، كاسر الملحدين والمشركين، والحسب السني (محمد بن محمد الجويني) أعز الله نصرهما، أنفذ في الآفاق أمرهما، ولا زال أمر الدين بميامن دولتهما منتظما، وشمله بمحاسن ايالتهما ملتئما، أن أمضي على ذلك شارحا مسائله، موضحا مشكله، كاشفا وجوهه وعلله، فقويت العزيمة بعد فتورها، وثابت الهمة بعد نفورها، امتثالا لأوامره العالية، واتباعا لمراسمه السامية، وجعلته مشتملا على أصول المسائل وفروعها، محتويا على تقسيمها وتنويعها، وخدمت بها الخزانة المعظمة البهائية، عمر الله معاهد الإسلام بعمارة معاهدها، ومهد قواعده بتمهيد قواعدها، ولا زالت محروسة الجوانب، محفوظة من الغوايل والنوايب، ليكون لمالكها أجر الانتفاع به، يستمر شكر المتشاغلين بسببه على توالي الأحقاب وتعاقب الأعقاب، ويكون مذكرا لي عند وصوله إلى مقامه المنيف، وتشريفه بنظره الشريف، وأنا أسأل الله تعالى الإمداد بإعانته والإسعاد على طاعته والإرشاد في بدو الأمر وخاتمته، وقبل الشروع أقدم مقدمة يشتمل فصولا:
صفحة ٢٠
الفصل الأول (في وصايا نافعة) ليكن تعلمك للنجاة، لتسلم من الرياء والمراء وبحثك لإصابة الحق لتخلص عن قواطع الأهوية ومآلف النشاء وأكثر التطلع على الأقوال لتظفر بمزايا الاحتمال، واستنقض البحث عن مستند المسائل لتكون على بصيرة فيما تتخيره وعليك بالحفظ فإنه أربط للعلم، وأضبط للفهم، وداوم البحث يعطك استعدادا لتلقي النتائج النظرية بالفعل، واختر المباحث الصالح لتستفيد من خلقه ما يصير لك سجية.
ثم أوصيك إياك (والحشوية) من المتفقهة والمقلدة منهم، فربما خادعوك ليجذبوك إلى جهالتهم، وإنما يريدون جبر مقالتهم وستر ضلالتهم، ولا يغررك لو قال الحق لائح، فلا ارتياب والطريق واضح فقيم الإسهاب فإنه لا يصعب أن تجيبه بأن كل ممكن أن يعلم يصلح أن يوصف بالوضوح وإن دق طريقه وشق تحقيقه، وليس إطلاق الوضوح عليه موجبا بالفعل، فأنت إذا اعتبرت خلاف الفضلاء في المسائل الفقهية، ذلك على صعوبة الظفر إلا بعد بحث ونظر، فيتحقق أنه دلس في عبارته، ولبس في إشارته زيادة تحقيق: إن في الناس المستعبد نفسه لشهوته، المستغرق وقته في أهويته مع إيثاره الاشتهار بآثار الأبرار، واختياره الاتسام، بسير الأخيار.
أما لأن ذلك في جبلته، أو لأنه وسيلة إلى حطام عاجلته، فيثمر هذان الخلقان نفاقا غريزيا وحرصا على الرياسة الدينية طبيعيا، فإذا ظهرت لغيره فضيلة عليه خشي غلبة المزاحم، ومنافسة المقاوم، ثم يمنعه نفاقه من المكافحة، فيرسل القدح في ذي المناصحة، ويقول لو قال كذا، لكان أقوم، لو لم يقل كذا، لكان أسلم، موهما أنه أوضح كلاما وأرجح مقاما، فإذا ظفرت بمثله، فليشغلك الاستعاذة بالله من بليته عن الاشتغال بإجابته، فإنه شر الرجال، وأضر على الأمة من الدجال، كأني بكثير ممن ينتحل
صفحة ٢١
هذا الفن يقف على شئ من مقاصد هذا الكتاب فيستشكله، ويحمل فكره فيه فلا يحصله، فعزله بذهنه الجامد على التأويل المفاسد، ويدعو إلى متابعته لظنه الإصابة، فهو كما قيل أساء سمعا فأساء إجابة فعليك بإمعان النظر فيما يقال، مستفرغا وسعك في درء الاحتمال، فإذا تعين لك الوجه فهناك فقل، وإلا فاعتصم بالتوقف، فإنه ساحل الهلكة.
تتمة: إنك في حال فتواك مخبر عن ربك وناطق بلسان شرعه، فما أسعدك إن أخذت بالجزم، وما أخيك إن بنيت على الوهم، فاجعل فهمك تلقاء قوله تعالى:
(وأن تقولوا على الله ما لا تفعلون) وانظر إلى قوله تعالى: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل الله أذن لكم أم على الله تفترون) وتفطن كيف قسم مستند الحكم إلى القسمين، فما لم يتحقق الإذن، فأنت مفتر.
الفصل الثاني في أن مذهب أهل البيت (عليهم السلام) متعين الاتباع يدل على ذلك: النقل، والعقل. أما النقل: فمنه قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) وقد روى أبو سعيد الخدري، وشهر بن حوشب عن أم سلمة، أنها قالت: (نزلت في بيتي وفيه علي، وفاطمة، والحسن، والحسين، عليهم السلام فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله عباءة فجللهم بها، ثم قال: هؤلاء، أهل بيتي، أذهب الله عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرا، فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وآله
صفحة ٢٢
ألست من أهل البيت؟ فقال: إنك على خير) (1).
وعن ابن عباس: (أنها نزلت في علي، وفاطمة، والحسن، والحسين عليهم السلام) لا يقال: المراد بها النساء، لأن صدر الآية، وعجزها، دال عليهن. لأنا نقول: لا يلزم من ذلك، إرادة النساء، لأن الكناية صريحة في التذكير، وليس يبعد أن يخرج من معناه إلى غيره، ثم يعود إليه، كما قال ابن عباس: نزل القرآن بإياك أعني واسمعي يا جارة، ومع انتفاء الرجس، يكون ما أفتوا به حقا، لأن الرجس يقع على كل ما يكره.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله: (في كل خلف من أمتي عدل من أهل بيتي ينفي عن هذا الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وأن أئمتكم وقودكم إلى الله عز وجل فانظروا من توقدون في دينكم) وقوله صلى الله عليه وآله: (مثل أهل بيتي، كمثل نجوم السماء، فهم أمان لأهل الأرض، كما أن النجوم أمان لأهل السماء، فإذا ذهبت النجوم، طويت السماء، وإذا ذهب أهل بيتي خربت الأرض، وهلك العباد) وقوله صلى الله عليه وآله: (إني تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا، كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، وأنهما لن يفترقا، حتى يردا علي الحوض)
صفحة ٢٣
وقوله: (يا علي الإمامة فيكم، والهداية منكم) (1) وقوله صلى الله عليه وآله (من أهل بيتي اثني عشر نقيبا نجباء، محدثون، مفهمون، آخرهم، القائم بالحق عليه السلام) (2) وقوله صلى الله عليه وآله: (إن الله تعالى اختار من الأيام يوم الجمعة، ومن الشهور شهر رمضان، ومن الليالي ليلة القدر، واختار من الناس الأنبياء، واختار من الأنبياء الرسل، واختارني من الرسل، واختار مني عليا، واختار من علي الحسن، والحسين، واختار من الحسين الأوصياء، وهم تسعة من ولده، ينفون عن هذا الدين تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين) (3) وروى سليم بن قيس قال: سمعت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، يقول:
كنا عند معاوية، والحسن، والحسين، وابن عباس، وعمر بن أبي سلمة، وأسامة ابن زيد، فذكر كل منهم ما جرى بينهم وبينه، وأنه قال لمعاوية: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إني أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم أخي علي بن أبي طالب أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا استشهد فابنه الحسن أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم الحسين أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا استشهد فعلي بن الحسين أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وستدركه يا علي، ثم ابني محمد بن علي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وستدركه يا حسين، ثم تكملة اثني عشر إماما، تسعة من ولد الحسين) قال عبد الله ابن جعفر: (فاستشهدت الحسن، والحسين، وعبد الله بن العباس، وعمر بن أبي سلمة، وأسامة بن زيد، فشهدوا بذلك) (4) ووراء هذه الأخبار أضعافها، دالة على اختصاص أهل البيت بالمزية الموجبة للاتباع.
صفحة ٢٤
لا يقال: هذه الأخبار آحاد وهي لا توجب العلم، ولو سلمت لكان أهل البيت أشار إلى أهل العباء، دون الباقين ممن تعتمدون قوله، لأنا نجيب عن الأول بأنها وإن كانت آحادا، لكنها إذا انضمت إلى ما نقله الإمامية في هذا المعنى بلغ اليقين، وإلا فأي عاقل يجوز أن يجتمع هذا الجم الغفير على اختلاف مثل هذه الأخبار وأضعافها مما يملأ الصحف، هذا، مما لا يظنه محصل ولو سلمنا أنها آحاد، لكن الناس بين إمامي، ومخالف له، وكل مخالف فإنما يعتمد على فتوى قايس عامل بأخبار الآحاد، مثبت بها الأحكام الشرعية، وقد أجمع الناس إلا من لا عبرة به أن الخبر أرجح من القياس في العمل، فحينئذ يجب اعتماد فتوى هؤلاء السادة، لأن الأخبار الدالة على وجوب متابعتهم أقوى من الأخبار التي يبني عليها علماء الجمهور مذاهبهم. وأما قوله: إن أهل البيت هم أهل العباء خاصة دون من بعدهم، فيضعف بقوله عليه السلام (فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض (1) ولو قيل: فلم لا يكون الأئمة المشار إليهم من أهل البيت غير من استندتم إلى فتواه، قلنا: يشهد لمن استندنا إليه اتساع فتواه، ووجود ما يلتمسه المستفتون عنده دون كل من تعرض لذلك من الذرية، يعلم ذلك اضطرارا عند الوقوف على سيرهم.
وأما العقل: فوجوه:
الوجه الأول: ما انتشر عنهم من العلوم الفقهية، والأصولية، والتفسيرية، منضما إلى غيرها من العلوم، كالنجوم، والطب فإن عليا عليه السلام استند إليه كل فاضل، وافتقرت إليه الصحابة في الحوادث، ولم يفتقر إلى أحد، وكذا كل واحد من الأئمة حتى أن محمد بن علي عليه السلام لاتساع علمه وانتشاره سمي باقر العلم ولم ينكر
صفحة ٢٥
تسميته منكر، بل إنهم شهدوا أنه وقع موقعه وحل محله، وكذا الحال في جعفر بن محمد عليه السلام، فإنه انتشر عنه من العلوم الجمة ما بهر به العقول، حتى غلا فيه جماعة وأخرجوه إلى حد الإلهية وروى عنه من الرجال ما يقارب أربعة آلاف رجل، وبرز بتعليمه من الفقهاء الأفاضل جم غفير كزرارة بن أعين، وأخويه: بكير، وحمران وجميل بن دراج، ومحمد بن مسلم، وبريد بن معاوية، والهشامين، وأبي بصير، وعبيد الله، ومحمد وعمران الحلبيين، وعبد الله بن سنان، وأبي الصباح الكناني، وغيرهم من أعيان الفضلاء كتب من أجوبة مسائله أربعمائة مصنف سموها (أصولا) وكذا كل واحد منهم صلوات الله عليهم لم يسئل أحد منهم فتردد ولا تلعثم، ولا استشكل سؤالا ولا عول في جواب على مساعد ولا مباحث، مع أنهم لم يشاهدوا مختلفين إلى معلم ولا ادعى ذلك عليهم مدع من أوليائهم ولا أعدائهم، بل كل منهم يسند عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وهذا من أقوى الحجج على اختصاصهم بالمزية القاضية بأنها خاصة من الله ومعجزة امتازوا بها عن الخلق.
الوجه الثاني: ما ظهر عنهم من المعجزات التي ملأ بها المحدثون الكتب من الإخبار بالمغيبات، والطبع في الحصى وغيره، وذكر ذلك مفصلا يفتقر إلى كتاب مفرد، فمن أراده فليراجع الكتب المختصة به.
الوجه الثالث: اتفاق الناس بأجمعهم على طهارة أئمتنا عليه السلام وشرف أصولهم، وظهور عدالتهم وبرائتهم ما يشين منهم نسبا أو حسبا أو خلقا، وقصور الألسنة عن القدح فيهم مع إعراض ولات أزمنتهم عنهم، وإيثارهم الغض منهم والتعريض للوقيعة فيهم بالصلاة الوافرة، فلولا أنهم من صفات الكمال إلى حد يقصر عنه الألسن عن القدح فيهم ويتحقق كذب الطاعن عليهم لما استمر لهم ذلك. ثم هم مع هذه الأخلاق الطاهرة، والعدالة الظاهرة، يصوبون الإمامية في الأخذ عنهم والعمل
صفحة ٢٦
بفتواهم ويعيبون على غيرهم ممن أفتى باجتهاده وقال برأيه، ويمنعون من يأخذ عنه ويستخفون رأيه وينسبونه إلى الضلال، يعلم ذلك منهم علما ضروريا صادرا عن النقل المتواتر، فلو كان يسوغ لغيرهم ما ساغ لهم لما عابوا لمكان ما استسلف من اتفاق المسلمين على عدالتهم وصلاحهم، ولأن الاتفاق على عدالتهم والشك في عدا من سواهم من فقهاء العامة يوجب العمل بقولهم صلوات الله عليهم، ويمنع من العمل بفتوى غيرهم من أرباب الاجتهادات. وهذه الطرق التي ذكرناها إنما هي على تقديران نعرض عند الاستدلال بما خصهم الله به من وجوب الطاعة، واختارهم له من الإمامة، وميزهم به من العصمة التي أوضحنا طرقها في الكتب الكلامية، وحققها علماؤنا وبتقدير أن نسلك تلك الطرق فإن نستغني عن جميع ما أوردناه.
وقد قال بعض من لا معرفة له: إن الجواد صلوات الله عليه تلمذ لابن أكثم، وهو جهل بمنزلة الجواد صلوات الله عليه وقلة اطلاع على ما ورد عنه من العلم الجم، وما اشتهر من أجوبته عن مسائل الإمامية بما يدل على الإعجاز، وقد كان من تلامذته وأشياعه القائلين بإمامته من لا يرتضي أن يكون ابن أكثم تلميذا له، كالحسين بن سعيد، وأخيه الحسن، ومحمد بن أبي نصر البزنطي، وأحمد بن محمد بن خالد البرقي، وشاذان بن الفضل القمي، وأيوب بن نوح بن دراج، وأحمد ابن محمد بن عيسى وغيرهم ممن يطول تعدادهم، وكتبهم الآن منقولة بين الأصحاب دالة على العلم الغزير، فهل يستجيز ذو تحصيل أن يعتقد في هؤلاء الفضلاء اتخاذهم تلميذ الابن أكثم إماما يعتقدون عصمته، وفرض طاعته، هذا ما لا يعتقده ذو بصيرة.
صفحة ٢٧
الفصل الثالث (في مسند الأحكام) وهي عندنا خمسة: الكتاب، والسنة، والإجماع، ودليل العقل، والاستصحاب.
أما الكتاب: فأدلته القسمان: النص، والظاهر، و (النص) ما دل على المراد منه من غير احتمال، وفي مقابلة (المجمل) وقد يتفق اللفظ الواحد أن يكون نصا مجملا باعتبارين، فإن قوله تعالى ﴿يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء﴾ (١) نص باعتبار الاعتداد، مجمل باعتبار ما يعتد به. وأما (الظاهر) فهو اللفظ الدال على أحد محتملاته دلالة راجحة، ولا ينتفي معها الاحتمال، وفي مقابلته (المأول) والظاهر أنواع أحدها: ما كان راجحا بحسب العرف كدلالة الغائط على الفضلة. الثاني:
ما كان راجحا بحسب الشرع، كدلالة لفظ الصوم على الإمساك عن المفطرات، وهذان وإن كانا نصين باعتبار الشرع والعرف، إلا أن احتمال إرادة الوضع لم تنتف انتفاءا يقينيا. الثالث: (المطلق) وهو اللفظ الدال على الماهية، فهو في دلالته على تعلق الحكم بها لا بقيد منضم دلالة ظاهرة. الرابع: (العام) الدال على اثنين فصاعدا من غير حصر، فإنه في دلالته على استيعاب الأشخاص ظاهر لا قاطع، أما (المأول) فهو اللفظ الذي يراد به المعنى المرجوح من محتملاته، كقوله تعالى:
﴿ويبقى وجه ربك﴾ (2) وأما السنة فثلاثة: قول، وفعل، وإقرار، أما القول: ففيه الأقسام المتقدمة وأما الأفعال: فإن وقع بيانا تبع المبين في وجوبه وندبه وإباحته، وإن فعله ابتداء فلا حجة فيه إلا أن يعلم الوجه الذي وقع عليه فتجب المتابعة. وأما ما أقره النبي
صفحة ٢٨
صلى الله عليه وآله فإنه يدل على الجواز، لأنه صلى الله عليه وآله لا يقرر منكرا، سواء فعل بحضرته أو لا بحضرته مما يعلم أنه صلى الله عليه وآله علمه ولم ينكره، وأما ما يندر فلا حجة فيه، كما روي أن بعض الصحابة قال: كنا نجامع ونكسل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله فلا نغتسل، لجواز أن يخفى فعل ذلك على النبي صلى الله عليه وآله فلا يكون سكوته عنه دليلا على جوازه لا يقال قول الصحابي (كنا نفعل) دليل على عمل الصحابة أو أكثرهم، فلا يخفى ذلك عن الرسول، لأنا نمنع عن نفسه أو عن جماعة يمكن أن يخفى حالهم على النبي صلى الله عليه وآله ثم السنة أما متواترة، وهي ما حصل معها العلم القطعي باستحالة التواطؤ و خبر واحد: وهو ما لم يبلغ ذلك، مسندا كان وهو ما اتصل المخبرون به إلى المخبر، أو مرسلا، وهو ما لم يتصل سنده. فالمتواتر حجة لإفادته اليقين، وكذا ما أجمع على العمل به، وما أجمع الأصحاب على اطراحه فلا حجة فيه.
مسألة: أفرط (الحشوية) في العمل بخبر الواحد حتى أنقاد والكل خبر، وما فطنوا ما تحته من التناقض، فإن من جملة الأخبار قول النبي صلى الله عليه وآله: (ستكثر بعدي القالة علي) (1) وقول الصادق عليه السلام: (إن لكل رجل منا رجل يكذب عليه) (2) واقتصر بعض عن هذا الإفراط فقال: كل سليم السند يعمل به، وما علم أن الكاذب قد يلصق، والفاسق قد يصدق، ولم يتنبه أن ذلك طعن في علماء الشيعة وقدح في المذهب، إذ لا مصنف إلا وهو قد يعمل بخبر المجروح كما يعمل بخبر الواحد المعدل. وأفرط آخرون في طرف رد الخبر حتى أحال استعماله عقلا ونقلا، واقتصر آخرون فلم يروا العقل مانعا، لكن الشرع لم يأذن في العمل به، وكل هذه الأقوال منحرفة عن السنن، والتوسط أصوب، فما قبله الأصحاب أو دلت القرائن على صحته عمل به، وما أعرض الأصحاب عنه أو شذ، يجب اطراحه لوجوه:
صفحة ٢٩
أحدها - إن مع خلوه من المزية يكون جواز صدقه مساويا لجواز كذبه فلا يثبت الشرع بما يحتمل الكذب.
الثاني - إما أن يفيد، الظن أو لا يفيد وعلى التقديرين لا يعمل به، إما بتقدير عدم الإفادة فمتفق عليه، إما بتقدير إفادة الظن فمن وجوه: أحدها قوله تعالى:
(ولا تقف ما ليس لك به علم) (١). الثاني - قوله تعالى: (وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ) (٢). الثالث قوله تعالى: ﴿وإن تقولوا على الله ما لا تعلمون﴾ (3).
الثالث - إنه إن خص دليلا عاما كان عدولا عن متيقن إلى مظنون، وإن نقل عن حكم الأصل كان عسرا وضررا وهو منفي بالدليل، ولو قيل: هو مفيد للظن فيعمل به تفصيا من الضرر المظنون، منعنا إفادته الظن، لقوله صلى الله عليه وآله: (ستكثر بعدي القالة علي فإذا جاءكم عني حديث، فاعرضوه على كتاب الله العزيز فإن وأفقه فاعملوا به، وإلا فردوه) وخبره مصداق فلا خبر من هذا القبيل إلا ويحتمل أن يكون من القبيل المكذوب. لا يقال: هذا خبر واحد. لأنا نقول: إذا كان الخبر حجة فهذا أحد الأخبار، وإن لم يكن حجة فقد بطل الجميع. ولا يقال: الإمامية عاملة بالأخبار وعملها حجة. لأنا نمنع ذلك، فإن أكثرهم يرد الخبر بأنه واحد وبأنه شاذ، فلولا استنادهم مع الأخبار إلى وجه يقتضي العمل بها لكان عملهم اقتراحا، وهذا لا يظن بالفرقة الناجية، وأما أنه مع عدم الظفر بالطاعن والمخالف لمضمونه يعمل به، فلأن مع عدم الوقوف على الطاعن والمخالف له يتيقن أنه حق، لاستحالة تمالي الأصحاب على القول الباطل وخفاء الحق بينهم، وأما مع القرائن فلأنها حجة بانفرادها فتكون دالة على صدق مضمون الحديث ويراد بالاحتجاج به التأكيد
صفحة ٣٠
ولا يقال: لو لم يكن خبر الواحد حجة لما نقل. لأنا ننقض ذلك بنقل خبر من عرف فسقه وكفره ومن قذف بوضع الأخبار ورمي بالغلو، وبالأخبار التي استدلوا بها في بحوث العلمية كالتوحيد والعدل، والجواب في الكل واحد.
وأما الإجماع: فعندنا هو حجة بانضمام (المعصوم) فلو خلا المائة من فقهائنا عن قوله لما كان حجة، ولو حصل في اثنين لكان قولهما حجة لا باعتبار اتفاقهما بل باعتبار قوله عليه السلام: فلا تغتر إذا بمن يتحكم فيدعى الإجماع باتفاق الخمسة والعشرة من الأصحاب مع جهالة قول الباقين إلا مع العلم القطعي بدخول الإمام في الجملة، ولنفرض صورا ثلاثة: إحديها - أن يفتي جماعة ثم لا يعلم من الباقين مخالفا فالوجه أنه ليس حجة لأنا كما لا نعلم مخالفا لا نعلم أن لا مخالف، ومع الجواز لا يتحقق دخول (المعصوم) في المفتين. الثانية - أن يختلف الأصحاب على قولين، ففي جواز إحداث قول ثالث تردد، لصحة أنه لا يجوز بشرط أن يعلم أن لا قائل منهم إلا بأحدهما. الثالثة - أن يفترقوا فرقتين ويعلم أن الإمام ليس في إحداهما ويجهل الأخرى، فتعين الحق مع المجهولة، وهذه الفروض تعقل لكن قل أن تتفق.
وأما دليل العقل: فقسمان: أحدهما ما يتوقف فيه على الخطاب وهو ثلاثة:
الأول لحن الخطاب كقوله: ﴿اضرب بعصاك الحجر فانفجرت﴾ (١) أراد فضرب. الثاني فحوى الخطاب: وهو ما دل عليه التنبيه كقوله تعالى: ﴿ولا تقل لهما أف﴾ (2).
الثالث دليل الخطاب: وهو تعليق الحكم على أحد وصفي الحقيقة كقوله: (في سائمة الغنم الزكاة) (3) فالشيخ يقول: هو حجة وعلم الهدى ينكره وهو الحق.
صفحة ٣١
أما تعليق الحكم على الشرط كقوله: (إذا بلغ الماء قدر كر ولم ينجسه شئ) (١) وكقوله: ﴿وإن كن أولات حمل فانفقوا عليهن حتى يضعن حملهن﴾ (2) فهو حجة تحقيقا لمعنى الشرط، ولا كذا لو علقه على الاسم كقوله: اضرب زيدا خلافا للدقاق، والقسم الثاني ما ينفرد العقل بالدلالة عليه، وهو إما وجوب، كرد الوديعة، أو قبح، كالظلم والكذب، أو حسن، كالإنصاف والصدق، ثم كل واحد من هذه كما يكون ضروريا فقد يكون كسبيا كرد الوديعة مع الضرورة، وقبح الكذب مع النفع.
وأما الاستصحاب: فأقسامه ثلاثة: استصحاب حال العقل وهو التمسك بالبرائة الأصلية كما تقول: ليس الوتر واجبا لأن الأصل براءة العهدة، ومنه أن يختلف الفقهاء في حكم بالأقل، والأكثر فتقتصر على الأقل، كما يقول: بعض الأصحاب في عين الدابة نصف قيمتها، ويقول الآخر ربع قيمتها، فيقول المستدل ثبت الربع إجماعا، فينتفي الزايد نظرا إلى البراءة الأصلية. الثاني أن يقال: عدم الدليل على كذا فيجب انتفاؤه، وهذا يصح فيما يعلم أنه لو كان هناك دليل لظفر به، أما لا مع ذلك فإنه يجب التوقف، ولا يكون ذلك الاستدلال حجة، ومنه القول بالإباحة لعدم دليل الوجوب والحظر .
الثالث: استصحاب حال الشرع كالمتيمم يجد الماء في أثناء الصلاة، فيقول المستدل على الاستمرار صلاة مشروعة قبل وجود الماء فيكون كذلك بعده، وليس هذا حجة لأن شرعيتها بشرط عدم الماء لا يستلزم الشرعية معه، ثم مثل هذا لا يسلم عن المعارضة بمثله، لأنك تقول: الذمة مشغولة قبل الإتمام فيكون مشغولة بعده. وأما القياس فلا يعتمد عليه عندنا، لعدم اليقين بثمرته فيكون العمل به عملا بالظن المنهي عنه، ودعوى الإجماع من الصحابة على العمل به لم يثبت، بل أنكره جماعة منهم،
صفحة ٣٢
فما يمر بك من تمثيل شئ بشئ فليس، لأن أحدهما مقيس على الآخر بل لاشتراكهما في الدلالة الشرعية لا للقياسية، وهذا الفصل وإن كان علم الأصول أحق به، لكنا أجبنا إيراده هنا ليكون تأنيسا للمتفقه لعلم يكمله من هناك.
الفصل الرابع (في السبب المقتضي للاقتصار على من ذكرناه من فضلائنا) لما كان فقهائنا رضوان الله عليهم في الكثرة إلى حد يتعسر ضبط عددهم ويتعذر حصر أقوالهم لاتساعها وانتشارها، وكثرة ما صنفوه، وكانت مع ذلك منحصرة في أقوال جماعة من فضلاء المتأخرين اجتزأت بإيراد كلام من اشتهر فضله، وعرف تقدمه في نقل الأخبار وصحة الاختيار وجودة الاعتبار، واقتصرت من كتب هؤلاء الأفاضل على ما بأن فيه اجتهادهم، وعرف به اهتمامهم، وعليه اعتمادهم، فممن اخترت نقله الحسن بن محبوب، ومحمد بن أبي نصر البزنطي، والحسين بن سعيد، والفضل بن شاذان، ويونس بن عبد الرحمن، ومن المتأخرين أبو جعفر محمد بن بابويه القمي (رض)، ومحمد بن يعقوب الكليني، ومن أصحاب كتب الفتاوى علي بن بابويه، وأبو علي بن الجنيد، والحسن بن أبي عقيل العماني، والمفيد محمد ابن محمد بن النعمان، وعلم الهدى، والشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ره) و (الشيخ) إشارة إلى أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ره) و (الشيخان) هو مع المفيد محمد بن محمد بن النعمان و (الثلاثة) هما مع علم الهدى و (الأربعة) هم مع أبي جعفر بن بابويه و (الخمسة) هم مع علي بن بابويه و (الستة) هم مع ابن أبي عقيل و (السبعة) هم مع ابن الجنيد. وأتباع الثلاثة أبو الصلاح تقي بن نجم الحلبي، وسلار بن عبد العزيز بن البراج، رضوان الله عليهم أجمعين. وربما احتجت إلى رمز الكتب فليكن هذه: النهاية (ة) المبسوط (ط) الجمل (ل) مسائل
صفحة ٣٣
الخلاف (ف) التهذيب (يب) المصباح (ح) الإقتصاد (د) المقنعة) (عة) الأركان (ن) الرسالة الغرية (غر) وحيث أتينا على المقدمة فلنبدء بما نحن قاصدون إليه، مستعينين بالله ومقصدين عليه.
صفحة ٣٤
كتاب الطهارة وهي في اللغة (النزاهة عن الأدناس) يقال: رجل طاهر الثياب، أي منزه وفي الشرع اسم لما (يرفع حكم الحدث) وخطر لبعضهم النقض بوضوء الحايض لجلوسها في مصلاها وهو غلط، فإنا نمنع تسمية ذلك الوضوء طهارة، ونطالبه بدليل تسميته، على أنه قد روى ما يدل على أنه يسمى طهارة. روى محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قلت: (الحايض تطهر يوم الجمعة وتذكر الله تعالى، قال أما الطهر فلا، ولكن تتوضأ وقت كل صلاة، ثم تستقبل بالقبلة وتذكر الله) (1) نعم يرده النقض بالوضوء المجدد من غير حدث، وبمن اجتمع عليه غسل ووضوء (كالمستحاضة) إذا سال دمها، فإن كل واحد منهما يسمى طهارة ولا يرفع حكم الحدث بانفراده. فالأقرب أن يقال: هي اسم للوضوء والغسل أو التيمم على وجه له تأثير في استباحة الصلاة، والطهور هو المطهر لغيره قاله (الشيخ) في مسائل الخلاف و (علم الهدى) في المصباح، خلافا لبعض الحنفية.
لنا النقل والاستعمال أما (النقل) فما ذكره الترمذي قال: (الطهور) بالفتح من الأسماء المتعدية وهو المطهر غيره. وقال الجوهري: (الطهور) ما يتطهر به
صفحة ٣٥
كالسحور والبرود وأما (الاستعمال) فلأن هذا المعنى مراد في صورة الاستعمال فيكون حقيقة فيه كقوله عليه السلام: (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا) (1) ولو أراد الطاهر لم يثبت له مزية. وقوله عليه السلام (وقد سئل عن الوضوء بماء البحر؟ فقال:
هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) (2) ولو لم يرد كونه مطهرا لم يصلح جوابه، ولأن فعولا للمبالغة ولا يتحقق هنا إلا مع إفادة التطهير ، ولأنهم يقولون ماء طهور، ولا يقولون ثوب طهور، فلا بد من فائدة مختصة بالماء ولا تظهر الفائدة إلا مع إفادة التطهير واحتج الحنفي بأن فعولا تفيد المبالغة في فائدة فاعل، كما يقال: (ضروب) و (أكول) لزيادة الضرب والأكل ولا يفيد شيئا مغايرا له، وكون الماء مطهرا مغاير لمعنى الظاهر، فلا تتناوله المبالغة، ولأنهم قد يستعملون فعولا فيما لا يفيد التطهير، كقوله سبحانه: (وسقيهم ربهم شرابا طهورا) (3) وكقول الشاعر: " عذاب الثنايا ريقهن طهور " والحق عندي أن وصف الطهور بالتعدي وصف معنوي لا لفظي، لأن التعدي في الحقيقة المطهر وقد ألحقوا طهورا به إلحاقا توقيفيا لا قياسيا، وليس طهورا من مطهر بمنزلة ضروب من ضارب، لأنك تقول: هذا ضارب زيدا كما تقول ضروب زيدا، وتقول: الماء مطهر من الحدث ولا تقول: طهور من الحدث، فإذن الوجه الذي ذكره الحنفي صحيح بالنظر إلى القياس اللفظي، أما أن منع كون اللغة أو الشرع استعمله في التعدية وإن لم يكن قياسا فغير صحيح، وللطهارة أركان: الأول في المياه مسألة: " الماء المطلق " في الأصل مطهر يرفع الحدث ويزيل الخبث، يزيد " بالمطلق " ما لا يجوز سلب الماء عنه، ولو أمكن إضافته إلى ما يلازمه
صفحة ٣٦