بين أن قريشًا يستضيئون بنوره، وجعلوه لأنفسهم كالشمس والهلال، في نهارهم وليلهم، وأضاف الشمس إلى الضحا؛ لأنه اسمٌ لأوائل النهار، وأضاف الهلال إلى الليلة لأنه يسمى هلالًا في أوائل الشهر؛ ليدل على حداثة سن الممدوح، وأن فيه رجاء الزيادة والنماء، وأنه منظور إليه، يرمقه الناس ويصدرون عن أمره ونهيه، ويحكم فيهم بحكمه، وذلك مختص بالهلال، إذ لا ينظر إلى البدر كما ينظر إلى الهلال، ولا يتعلق بالبدر ما يتعلق بالهلال من الأحكام، ثم بين أن قريشًا بمنزلة القلادة زينة، أراد أن الناس يتزينون بهم، إذ هم رؤساؤهم، وأن الممدوح أجل أولئك السادة قدرًا، وأعظمهم خطرًا لأن أجل ما في القلادة الدر والزبرجد، فكأن الناس يتزينون بهم، وهم يتزينون به.
يا ليت بي ضربةً أتيح لها ... كما أتيحت له، محمدها
أتيح: أي قدر.
وتقدير البيت: يا ليت بي ضربةٌ أتيح لها محمدها كما أتيحت له؛ كان الممدوح أصابته ضربةٌ في وجهه في غزو الكفار، فتمنى هو أن تلك الضربة كانت به دون الممدوح، تفديةً له بنفسه أو تسلية حيث يسعد بها الممدوح، لأنه كثر بسببها عليه الثناء، وكتب له من أجلها الثواب؛ ولفظ الإتاحة؛ تنبيهًا على أنها كانت اتفاقًا وفجاءةً، لا عن فضل قوة الضارب على الممدوح، فدل بذلك على شجاعة الممدوح؛ أو يكون إتاحة الضرب له من حيث أنه نوه بذكرها وبذكر من سبب إليها، والحديدة التي وقعت بها، فكأنه كسب له الفخر، وكسبت هي له السعادة والثناء وجزيل الثواب.
وقد كان يستقيم المعنى من دون أن يذكر محمدها ويكون تقدير البيت: في ضربة أتيح لها، كما أتيحت له. لأنه صرح بذكره للحاجة إليه، وإن لم يكن في ذلك إحالة المعنى.
أثر فيها وفي الحديد وما ... أثر في وجهه مهندها
المهند: السيف المنسوب إلى الهند، والهاء في فيها، وفي مهندها لضربة، وتأثيره في الضربة على معنيين: أحدهما أن يكون سلاحه قد عطل وأبطل تأثيره بشجاعته فلم تؤثر ضربته فيه تأثير مثلها، فلما كان كذلك صار كأنه لم يكن للضرب، ولا للحديد تأثيرٌ فيه، فيكون غرضه أن الضربة لم تعمل في الممدوح، أو عملت عملًا قليلًا يخالف قصد الضارب، إذ أراد أن تعمل عملًا عظيمًا.
والثاني أن يكون قد جعل الممدوح مؤثرًا في الضربة والحديد، من حيث أن الضربة وقعت على الوجه فزانته، وما شانته، لأنها دلالة الشجاعة؛ فلما كان كذلك فكأن الضربة والحديد لم يؤثرا فيه؛ لأن تأثيرهما في الشين والإيلام، وإذا كان على ما ذكرنا؛ فكأنه لا ألم فيه ولا شين، والأظهر أن يكون تأثيره في الضربة والحديد من أنه نوه بذكر تلك الضربة وشرفها وشرف الحديد وقلله، فكأنه قال: أثر في الضربة بالتشريف وفي السيف بالتفليل، وأثر السيف فيه تأثير مثله من الوجه الذي بيناه وعلى هذا يدل البيت الذي يليه وهو قوله:
فاغتبطت إذ رأت تزينها ... بمثله والجراح تحسدها
الجراح: جمع جراحة، والهاء في تزينها، وتحسدها للضربة، ورأت من رؤية العين وهي استعارة ها هنا.
يقول: إن الضربة فرحت بحصولها في جسمه وحلولها ببعض أجزائه، وسائر الجراح تحسد هذه الضربة لأجل ذلك، وفي هذا تنبيه على أنه كان هناك جراحة، فكأنه يقول: إذ رأت تزين نفسها لأن الهاء فيها للضربة، وقوله: بمثله. فيه زيادة مبالغة؛ لأن تزين الضربة إذا حصل بوقوعه بمثل الممدوح، فلأن يحصل إذا وقع به أولى، وروى بوجهه أي بوجه الممدوح وهو أظهر الروايتين.
وأيقن الناس أن زارعها ... بالمكر في قلبه سيحصدها
الهاء في قلبه للزارع. يقول: إن زارع هذه الضربة في وجهه بالمكر، سيحصدها: أي أن عاقبة أمره تئول إلى أن ينتقم منه ويقتله، وذكر المكر يدل على أن هذا الضرب حصل اغتيالًا ومكرًا لا مبارزة ومقاومة! وقوله: في قلبه: يحتمل أن يكون ظرفًا للمكر، يعني أنها حصلت بالمكر الذي كان في قلبه، دون أن يظهر ذلك له، إذ لو ظهر لعجز عنه، ويحتمل أنه سيحصد هذه الضربة في قلبه، يريد أنه سيقتله؛ لأن القلب مقتل، ويجوز أن تكون الهاء في قلبه للمدوح، كأنه قال: أيقن الناس أن زارع هذه الضربة في قلب الممدوح سيحصدها، فشبهها بالبذر وشبه الجزاء بالحصاد.
أصبح حساده وأنفسم ... يحدرها خوفه ويصعدها
يحدر بالفتح أفصح. يقال: حدرت السفينة أحدرها حدرًا فانحدرت. وأحدرت لغةٌ ضعيفة.
1 / 6