إن ذلك الحيوان الأنسل الذي درج من حجر الطبيعة وخرج من جوفها خفية متسللا إلى عالم الوجود، معرضا لقواسرها، قليل الحيلة، ضعيف الأمل في الحياة، وأخذ يجوب سطح هذا السيار ويطوي سهوله وحزونه، ويتسلق جباله وتلاله، وما إن تراه في جماع ذلك إلا ألعوبة العناصر تتناوح من حوله رياحها العتية، وتحوطه بويلاتها وكوارثها، وما إن تجده إلا ألهية الطبيعة وفريسة السباع والضواري التي كانت تفوقه قوة وبطشا؛ هو بذاته الإنسان الذي بنى عظمة المدنية التي تحف بك روعتها، وهو الذي استجمع كنز المعرفة وراثة عن جيل بعد جيل، فأخضع به هذا العالم الصغير الذي نعيش فيه، وسخر لمشيئته كل ما أحاط به من صور الحياة، بعد أن كان من أضعف ما فيها قوة، وأقلها حيلة، وأوهنها في الجلاد سلاحا، وبعد أن عاش أزمانا مديدة لا يدب في منكب من مناكب الأرض إلا متخيلا أن أسباب الموت تمتد إليه من كل مكان متعقبة خطاه أينما حل وكان، مقتفية آثاره في الإصباح والعشي، هابطة عليه من السماء، فاغرة عليه أفواهها من الأرض وكل ما فيها من الحيوان والنبات والصخور والبحور والعناصر.
هذا الحيوان الضعيف يحفر الآن الأرض بالغا إلى أغوارها القصية ليستخرج كنوزها، ويطوي بيدها وفيافيها، ويمتطي طبقات هوائها يجتازها بسرعة، يتخيل معها أقصى الحيوانات سرعة وأبعدها على العدو قدرة أنه ثابت لا يتحرك، ويغوص البحار إلى أبعاد لا يستطيع الحوت أن يبلغ إلى أعماقها، ويغشى الجو إلى ارتفاعات ما عرفها النسر ولا ارتادتها العنقاء.
أما في أزمان السلام والأمن، فكثيرا ما تعددت الفوائد التي يجنيها الإنسان من هذه المخترعات، وغالب ما نتصور أن المدنية لا بد من أن تتأثر بالمستكشفات الحديثة إلى حد ينتقل عنده الإنسان إلى تلك الحال التي نشدها الفلاسفة، وخص بالبحث عنها منهم ديوجينيس، نظل على هذا الاعتقاد ونمضي عليه عاكفين ما رفت أجنحة السلام فوق رءوسنا، فإذا نفخ في صور الحرب ودقت طبول الجلاد، تنبهت فينا غريزة القتال بعد كمونها، وتيقظت فطرة التوحش في الحيوان الناطق فهب يدرع الحديد، وتوثب يمتطي السحاب، لا لشيء إلا ليظفر بأخيه الإنسان قتلا وتقطيعا. على أن ويلات الحرب في العصر الحديث لم تتناول الجند المسلح وحده، بل تعدت إلى غير المحاربين من أبناء آدم، ودارت على الشيب والأطفال والنساء الوادعات رحى تطحن ثقالها ما ألقمت، وتهصم لهوتها ما ألهمت، ونارا تحصد ما جمع العمل والسعي، ويدا هوجاء تبدد ما جنى الجد والكد، لواحة للحطام والبشر، لا تبقي ولا تذر. كل هذا لا تنتجه إلا مخترعات العصر الحديث التي نتصور في عصر السلام أنها من نعم العقل الإنساني على المدنية، وما هي في حالات الحرب إلا نقمة الطبيعة على ابنها الثائر عليها، الخارج على سلطانها.
أما اختراع الطيران فيعتقد الدكتور فريمان أنه من أشد نقم العقل على الإنسان، ومن أخطر ما أخرج الفكر من مخترعات على المدنية ذاتها، بل ونزيد على هذا أنه أشد سلاح تذرع به القوي قضاء على حرية الضعيف، وأقوى وسيلة تسلحت بها النزعات البشرية الهوجاء لترضي ما فيها من نهمة القتل ونزوات التفظيع من المحاربين وغير المحاربين.
كذلك هو على اعتقاد من أن الانغماس في الترف واللذائذ وإرضاء الشهوات ليست إلا وسائل نمضي من طريقها ممعنين في زيادة تأثيرات البيئة في كياننا، ولهذا تراه يمضي معجبا تياها بكلمة ديوجينيس إذ يقول:
إن ثروة الإنسان يجب أن تقاس بنسبة عدد الأشياء التي يستطيع أن يعيش من غير احتياج إليها.
فإن دكتور فريمان ليعتقد اعتقادا لا يوهنه شك ولا تحف به ريبة في أن استجماع الثروة وتكثير العدد من غير أن يرتقي الفرد أخلاقيا وعمليا لا يسوق إلى السعادة، بل ولا يؤدي إلى الطريق التي تسلم إليها. •••
النظريات التي تقوم عليها الحكومات وطرق التنفيذ الإدارية قد اقتسمت في رأي دكتور فريمان بين فئتين: فإما اجتماعيون تنطسوا في العلم وفقدوا القوة، وإما سياسيون تمتعوا بثمار القوة وفقدوا العلم ، ولذا تراه يقول:
إن الرجل السياسي الممتهن لحرفة السياسة، ذلك الذي خلقته نظامات الديمقراطية الحديثة، يختلف كل الاختلاف عن بقية كل ذوي المهن، غير أنه لا يمتاز عليهم بشيء إلا بأنه فاقد لكل الصفات التي تؤهل به لأن يكون في منصبه ذا نفع للرعية التي يوكل إليه أمر تدبير شئونها.
فإن كل ما يحتاج إليه رجل السياسة في العصر الحاضر من علم، وكل ما في مستطاع دور النيابة أن تزوده به من تجاريب الحياة؛ ينحصر في أن يفقه كيف يعتلي المنصب وكيف يحافظ عليه بعد أن يصبح في قبضة يده، هو بعيد عن حكمة التشريع، ناء عن فلسفة السياسة وفق إرادة الشعوب وحكمها. فإنك إن أردت أن تتخذ من الحالات القائمة في إنجلترا مثلا تضربه لفوضى النظامات الديمقراطية الحديثة، لما وجدت من مثل أبلغ من أن تعرف أن كرسي رئيس الوزارة في إنجلترا أو رئاسة إمارة البحر فيها معد منذ اليوم لصانع أحذية أو جامع حروف في مطبعة أو عامل في مصنع خمر أو سمسار في بورصة الأعمال، هذا في زمان تزداد فيه سلطة الحكومات على الأفراد والجموع حينا بعد حين. •••
صفحة غير معروفة