أصبحت في الحياة فريدة لولاك، فبين يديك الطاهرتين ألقي بكل ما لي في هذه الحياة، وما لي فيها سوى شرفي وعرضي وعفافي. وهذه أشياء عجز فقر أبي في أواخر أيامه أن ينال منها منالا أو أن يقرع لها بابا. ولقد احتفظت بها أمانة في عنقي حتى ألقيها في عنقك، فإلى أمانتك أعهد بها، وإن كرم أخلاقك وطيب عنصرك وسمو عواطفك كفيلة بأن تحفظ لي في هذه الحياة تراثي الأدبي وميراثي الإنساني.
وما أستطيع أن أزيد على ما كتبت حرفا، فإن قلمي عاجز عن أن يعبر لك عما يختلج بقلبي من الانفعالات الثائرة، أو عما يساور ذهني من التصورات التي امتزج فيها الحزن على الماضي بالأمل في المستقبل.
دلال
وكرت على هذه الحوادث سنوات سبع ما زاد فيها حب إحسان ودلال إلا تمكنا، فكان حبا صفا من أكدار الغرض والمنافع ، وعلاقة بين القلوب هي أشبه الأشياء بالجاذبية التي تحفظ نظام الأجرام بنسبة غير زائدة ولا منقوصة، أو هي كألفة العناصر التي تجذب كل عنصر إلى ما يألف على قاعدة لا ينالها خلل ولا ارتباك.
6
في اليوم السابع والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1898 كانت دلال جالسة في شرفة تطل على حديقة أمام منزلها الصغير، تطيل النظر إلى زهرة من النرجس ألوت برأسها إلى غدير يجري فيه الماء من نافورة في وسط الحديقة، وكانت مستغرقة في أحلامها اللذيذة مناجية نفسها بأسطورة الصدى ونرجس متمتمة:
أيها الفتى «نرجس» الذي مسخته الآلهة في معتقد الإغريق زهرة نعجب بها، كيف صددت عن حب «الصدى» حتى بلي لحمها وفري عظمها؟ ولماذا لم تقابل الحب المحرق بحب مثله؟ وما هو السبب الذي يؤلف بين بعض القلوب وينفر البعض الآخر؟ هل لهذه الحياة التي نحياها الآن سر غير سرها المفضوح أمامنا؟ أم أن الطبيعة لم تجد علينا إلا بقدر ما تسع عقولنا وأحلامنا، في حين أنها جادت عليك بسرها، ثم قلبتك زهرة ليبقى سرها في أعماق جمالك مصونا مكنونا؟
أيها الفتى نرجس الذابل الجميل، كنت في حياتك الأولى شابا فاتن الجمال، وأنت سليل إلهين من آلهة الماء، فسما بك أصلك إلى النجم، فرع طويل صدك عن أن تحب «الصدى» وأن تمنحها من عواطفك بمثل ما منحتك من عواطفها، فهل يمكن أيها الفتى الجميل أن تكون مراتب الشرف ومنازل الجاه حائلة بين القلوب والحب؟ أخطأت أيها الفتى إن كنت صددت عن «الصدى» لمجرد أنك سليل إلهين من آلهة الماء البعيد الأغوار الجم الأسرار، وإلا فلماذا مسخك الإله «زوس» زهرة ما ترى إلا على حوافي الغدران كما كنت في حياتك تطيل الوقوف على حافة الماء الراكد لتنظر جمالك الفتان في صفحته الصافية؟
وأنت أيتها الفتاة الحزينة التي لم يبق منها شيء إلا القدرة على ترديد ما تسمع أو يقال، فإذ قلت إحسان!
ولم تكد «الصدى» تردد نداء دلال حتى فتح الباب وظهر لديه إحسان، كأن «الصدى» جذبته بقوتها السحرية، فلم تردد اسمه بل حملته إلى أحضان دلال ذاتا كاملة الهيكل والجثمان.
صفحة غير معروفة