تأليف
إسماعيل مظهر
الإهداء
إلى والدتي
إليك يا أماه أهدي هذه الصفحات، وهي أثر من آثارك، وبقية من فضلك، فإن كان فيها أثر من استقامة الفكر، أو علالة من طيب النزعة، فتلك حشاشة من نفحاتك، وفضلة من نفثاتك، وإن كان فيها ما يذم، فذلك من أثري وفعل بيئتي.
إلى روحك الطاهرة النقية، وإلى ذكراك الباقية الزكية، بل إلى ذكرى الآلام التي تحملتها في سبيل أن أكون رجلا، أهدي هذا الأثر الضئيل، طامعا في عفوك، ملتمسا غفرانك، مستدرا عليك الرحمة والرضوان.
معضلات المدنية الحديثة
في المباحث الحديثة نزعة غير مرغوب فيها تجيز الخلط بين منتجات العقل البشري، فإن العلوم والآداب والفنون ثلاثة أشياء لكل منها حيزها الذي تستمد منه في كفاءات العقل الإنساني: فالعلم هو ما بلغ حد اليقين الثابت في مجموعة من المقدمات تصح نتائجها في كل الحالات وتحت تأثير كل ظرف من الظروف، والآداب كل ما تناول النظريات التي تحتاج إلى برهان يثبت صحتها، مضافا إلى ذلك الصناعات الأدبية بفروعها، والفنون كل ما استمد من التصور والخيال. فالرياضيات التي يرجع فيها إلى حساب العدد، والفلك الذي يرجع فيه إلى الرياضيات وإلى قياس الحركة، معتبرة من العلوم، بل قد لا نكون مبالغين إذا قلنا: إنها كل ما أنتج العقل الإنساني من العلوم حتى اليوم. والاجتماع ومباحث الأنثروبولوجيا وما إليهما من المباحث لا يمكن أن تعد علوما، كما أنها لا يمكن أن تعتبر من الآداب، فهي بحكم هذا علوم لا تزال في طور التكوين. أما الآداب والفنون فمنزلتان تبعد أولاهما عن العلوم بقدر ما تبعد الفنون عن الآداب.
نقدم بهذه الديباجة لأننا سنتناول الكلام في معضلات المدنية الحديثة من الوجهة الاجتماعية، والاجتماع علم لا يزال في طور التكوين، ظهرت بوادره في مؤلفات هردر التي وضعها في فلسفة التاريخ، وتطور في يد فولتير تطورا أسلم إلى أهل القرن التاسع عشر فكرات تركزت في عقل الفيلسوف أوغست كونت بما أبرز لنا البدايات الأولية في المباحث الاجتماعية.
بدأ علم الاجتماع أشواطه الأولى بالنظر في الجماعات الإنسانية نظرا سطحيا صرفا، فكان علما وصفيا تناول طبائع الشعوب وعاداتها ونظاماتها المدنية والأهلية والسياسية، ولكنه لم يبحث في كيفية نشوء هذه النظامات إلا بعد أن وضعت علوم الحياة على أساس من التجاريب العلمية، أفسحت للمباحث الاجتماعية سبيل النظر في الأسباب التي كونت الجماعات الإنسانية الأولى والأسباب التي ساقت إلى تطورها ونشوئها، فكانت هذه المباحث خطوة كبيرة خطاها علم الاجتماع متدرجا في تلك السبيل التي لا بد من أن تسلم به يوما لأن يكون من العلوم اليقينية الإثباتية بقدر المستطاع.
صفحة غير معروفة