لقد مضينا في بحثنا حتى الآن نستورد صورا يروي التاريخ من أمثالها العديد الوافر. أما وقد بلغنا هذا المبلغ، فإنا نتساءل كما يتساءل كل من أخذ من بحث التاريخ بنصيب وضرب فيه بسهم: أي أثر لهذه الصور وأمثالها مما يرويه التاريخ وتخطه لنا أقلام المؤرخين في الكشف عن ظلمات الحاضر، أو البيان عن خبايا المستقبل؟ على أن الظن الغالب ليوحي إلينا بأن الإجابة على هذا السؤال لن تكون إلا بالنظر في بضعة حقائق تاريخية تتناول الحاضر وعلاقته بالماضي والمستقبل؛ لنعرف إلى أي حد تبلغ صور التاريخ من أثر في الكشف عن قضايا الزمان الحاضر ومشاكله، وعن الصور التي تستحيل إليها في المستقبل.
فإن الحاضر عبارة عن صورة متحولة عن الصور التي تشكلت فيها الجماعات الإنسانية خلال الماضي، وليس المستقبل إلا صورة متحولة عن الصور التي نراها ونلمسها في الزمان الحاضر.
إن «الحاضر» حلقة الوصل بين الماضي والمستقبل؛ ليظل أمامنا سرا عميقا ولغزا وعرا، ما لم نستعن على فهمه وتعرف طبيعته بمعلومات نستمدها من الماضي، فإن أكثر الصور التي استحالت إليها نفسية الجماعات في هذا الزمان ظهورا وأشدها أثرا في حياة الناس، كمعاهد الدين ونظامات القضاء والعسكرية والتعليم المدرسي؛ لتلوح للذين لم ينالوا قسطا من التثقيف وافرا كما تلوح للأطفال والصبية، كأنها نظامات غرست في جوف الزمان، وتغلغلت آساسها في صميم الأزل واللانهاية تغلغل الشمس والكواكب والسيارات، وإن شئت فقل إنها في نظرهم مشاركة للكون الأوسع في نظامه قدما وضربا في أحشاء الدهور.
أما إذا عاد الإنسان إلى «الماضي» وألقى عليه نظرة تأمل، عرف لأول وهلة أن نصيب هذه النظامات من البقاء كنصيب الزمان المنحدر في جوف الأبد انحدار الماء في اليم اللامتناهي، وأن في طبيعتها التغير والزوال، لهذا يلقي في روعنا دائما أن الزمان لا بد في أن ينتابها بالتغير والنشوء، وأن هذه النظامات لن تظل على وتيرة واحدة، بل إن الطبيعة لن تسمح لها بالثبات؛ لأنها كما خرجت في الماضي من أفكار الناس ومشاعرهم وحاجاتهم وتصوراتهم فإنها تزول أو يضعف أثرها بنسبة ما ينتاب أفكار الناس ومشاعرهم وعواطفهم وحاجاتهم وتصوراتهم، وما إلى ذلك، من التغير والاختلاف.
وما التاريخ في حقيقة الواقع بشيء إلا نتاج تلك الملكة العقلية التي تسوقنا إلى تتبع آثار التغايرات التي خضعت لها النظامات الإنسانية منذ أول نشأتها وبدئها إلى الوقت «الحاضر»، وبذلك نستطيع أن ندرك خطرها وموقعها من الفائدة المحققة في حالات الاجتماع الذي تكتنفنا أسبابه. ومن هذه الطريق وحدها يعصمنا التاريخ من المظاهر الخداعة التي قد تسوقنا في طريق الضلال، ومن غير أن نستعين بالتاريخ يستعصي، لا بل يتعذر علينا، أن نقضي بحكم صحيح في النظامات القائمة من حولنا، أهي سائرة في سبيل النماء والقوة، أم متقهقرة إلى حضيض الفساد والانحلال؟ أهي قائمة على نفس الأسباب التي حملت الجماعات على تأسيسها وتشييد قواعدها، أم أخذت تفقد من سلطانها شيئا بزوال الأسباب التي ساقت إلى تكوينها في «الماضي»؟
خذ لذلك مثلا كنيسة الكثلكة، فإن سلطانها لا يزال مبسوطا على ربوع أوروبا ونفوذها قائم لم ينقص، كما كان في أشد العصور البابوية إيداعا بالقوة واعتزازا بالسطوة، فكيف إذن نقضي بأن المذهب الكثلكي آخذ بأسباب القوة أو مترد في سبيل الاضمحلال والضعف إذا لم نستعن على ذلك بتتبع تاريخ من كانت تسجد لخزنته الجبابرة والقياصرة العظام، إلى ذلك العهد الذي قامت خلاله في وجهه أعداء أشداء أحاطوا بمعاهده إحاطة السوار بالمعصم، وناءوا على سلطته الزمانية بقوة السلاح فلم يتركوه إلا بعد أن انتزعوا منه آخر ما كان من السلطات السياسية؟ ثم ارجع إلى نظام الملوكية تجده لا يزال قائما بكل ما كان له في الماضي من مظاهر الأبهة والعظمة، وبقليل مما كان له من أثر في الحكم. فإذا أردنا أن نعرف إن كان هذا النظام لا يزال على ما كان من قوة وسطوة، أم أنه آخذ في سبيل الزوال؛ وجب علينا أن نرجع إلى تاريخه مذ قبض الملوك على أعنة السلطة يحكمون بمقتضى إرادتهم ووحي وجدانهم، إلى الزمان الذي أخذت تنتزع فيه امتيازات الملوك درجة بعد درجة وحالا بعد حال، حتى أصبح نظام الملوكية عبارة عن أسطورة قديمة تروى أخبارها في بعض البقاع، وعن رمز يدل على آثار الماضي في بقاع أخر.
وكذلك الحال إذا رجعت إلى نظام الأرستقراطية، فإن الأرستقراطيين، النبلاء ورثة الشرف القديم والمجد المؤثل، لا يزالون في هذا العصر قابضين على الكثير مما كان لهم في الماضي من أثر في المجتمع والثروة والمجد الكبير، ولا يزالون يكونون عصبة مستقلة الرأي في النظام الحكومي في بعض الأمم. على أننا لا نستطيع أن نعرف حقيقة موقفهم على الوجه الأكمل ما لم نرجع إلى العصور الماضية، ونرى النبلاء يشاركون الملوك في عروشهم، والأمراء في سطوتهم ومجدهم، ثم نراهم في العصر الحاضر يغضون الطرف عن كثير مما كان لهم؛ لئلا تغمرهم موجة الجماهير فتبتلعهم في جوفها العميق.
ثم تأمل في عصرنا الحاضر، عصر الحرية المحمية بالسلام، المستندة إلى قوة الحديد والنار، وأجل طرفك في القارات الخمس لتجد ألسنة اللهيب كامنة في جوف المدافع، والأفق يلمع بأسنة الحراب، والرحب على سعته يكاد يضيق بوحدات الجيوش وفيالقها التي لم يعهد لها التاريخ مثيلا. فكيف تعرف إن كانت العسكرية في الزمان «الحاضر» لا تزال آخذة في أسباب النماء والحياة، أم راجعة إلى الانحلال والفساد، إلا إذا استعانت على تفهم ذلك بتتبع تاريخها منذ نشأتها إلى العصر الحاضر.
ولنرجع إلى الجماعات، فإنا إذا نظرنا فيها خيل إلينا أن الناس لا يزالون مستنيمين إلى عادات الخضوع والذلة، وأن الظاهر من أمرهم أنهم إلى الاستكانة أقرب منهم إلى العمل على نيل حرياتهم. ولكننا إذا عدنا إلى التاريخ وتتبعنا أثر التطور الاجتماعي مذ سيقت الجماعات سوق البهائم لتقدم قربانا على مذبح المسلطين عليهم، إلى اليوم الذي كسر فيه الناس قيودهم ووطئوا بأقدامهم رقاب المستبدين؛ استبنا حقيقة ما يعني الكتاب بالديمقراطية، ومقدار ما جنى الناس من خير في العصر الديمقراطي الحديث. •••
وهكذا نجد أن التاريخ إذ يزودنا بمقدمات نتخذها قاعدة للتأمل والمقارنة، وإذ يوجه انتباه الباحثين إلى كثير من دقائق الحياة الإنسانية؛ يساعدنا على تفهم حقائق الأشياء المحيطة بنا بما هي عليه، ويوقفنا على الكثير من أوجه الخطر والشأن فيها، ويوجهنا إلى الناحية التي نطمع فيها بالنفع والسلام. كذلك لا يقتصر أثره على الإبانة عما يحوطنا من الحالات في زمان «حاضر» لا غير، بل يعضدنا على وجه التعميم، لا على وجه التخصيص في أن نكون فكرة عامة، وأن نتصور إلماما ما سوف يكون من أمر تلك الحالات في المستقبل.
صفحة غير معروفة