كانت له حيلته التي كررها وأتقنها، وبرع فيها واستخدمها مع خصومه في الدولة من المسلمين وغير المسلمين، وكان قوام تلك الحيلة العمل الدائم على التفرقة، والتخذيل بين خصومه بإلقاء الشبهات بينهم، وإثارة الإحن فيهم، ومنهم من كانوا من أهل بيته وذوي قرباه.
كان لا يطيق أن يرى رجلين ذوي خطر على وفاق، وكان التنافس «الفطري» بين ذوي الأخطار مما يعينه على الإيقاع بينهم، كما كان يحدث بين المغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص بغير تدبير منه، أو بتدبير هين لا تخفى خبيئته على الرجلين، فكان يسمع لكل منهما في الآخر، ويطيع كليهما في دسه وإغرائه؛ ليعلما بعد ذلك بما صنعه كل منهما من الكيد لصاحبه، فلا يتفقا عليه، وما هما بمتفقين، ولا مأرب لهما في الاتفاق، بل المأرب الذي يحرصان عليه معا أن يقوم بينهما حجاز يعطيهما ما يسألان، ويكيد بكيدهما كما يحبان.
ودأبه في الوقيعة بين أهل بيته كدأبه في الوقيعة بين النظراء من أعوانه؛ فلم يكن يطيق أن يتفق بنو أمية من غير بيت أبي سفيان، ولم يكن ليهدأ ويستريح أو يوقع بين آل عمومته من بني العاص ... قال ابن الأثير في أخبار سنة أربع وخمسين: «وفيها عزل معاوية سعيد بن العاص عن المدينة، واستعمل مروان، وكان سبب ذلك أن معاوية كتب إلى سعيد بن العاص أن يهدم دار مروان، ويقبض أمواله كلها ليجعلها صافية، ويقبض منه فدك - وكان وهبها له - فراجعه سعيد بن العاص في ذلك، فأعاد معاوية الكتاب بذلك، فلم يفعل سعيد، ووضع الكتابين عنده، فعزله معاوية وولى مروان، وكتب إليه يأمره بقبض أموال سعيد بن العاص وهدم داره، فأخذ الفعلة وسار إلى دار سعيد ليهدمها، فقال له سعيد: يا أبا عبد الملك، أتهدم داري؟ قال: نعم، كتب إلي أمير المؤمنين، ولو كتب إليك في هدم داري لفعلت ... فقال: ما كنت لأفعل، قال: بلى والله ...! قال: كلا ... وقال لغلامه: ائتني بكتاب معاوية، فجاءه بالكتابين، فلما رآهما مروان قال: كتب إليك فلم تفعل ولم تعلمني؟ ... قال سعيد: ما كنت لآمن عليك، وإنما أراد معاوية أن يحرض بيننا، فقال مروان: أنت والله خير مني، وعاد ولم يهدم دار سعيد، وكتب سعيد إلى معاوية: العجب مما صنع أمير المؤمنين بنا في قرابتنا أن يضغن بعضنا على بعض ... فوالله لو لم نكن أولاد أب واحد لما جمعنا الله عليه من نصرة أمير المؤمنين الخليفة المظلوم وباجتماع كلمتنا؛ لكان حقا على أمير المؤمنين أن يرعى ذلك ... فكتب إليه معاوية يعتذر ويتنصل،
20
وأنه عائد إلى أحسن ما يعهده، وقدم سعيد على معاوية فأثنى عليه خيرا، فقال له معاوية: ما باعد بينه وبينك؟ قال: خافني على شرفه وخفته على شرفه، قال: فماذا له عندك؟ قال: أسره
21
شاهدا وغائبا.»
ومضى معاوية على هذه الخطة التي لا تتطلب من صاحبها حظا كبيرا من الحيلة والروية، ولعلها تناقض الدهاء فيما ينكشف من عللها التي لا تدق على فهم أحد، فلو أنه استطاع أن يجعل من كل رجل في دولته حزبا منابذا لغيره من رجال الدولة كافة؛ لفعل، ولو حاسبه التاريخ حسابه الصحيح؛ لما وصفه بغير مفرق الجماعات، ولكن العبرة لقارئ التاريخ في زنة الأعمال والرجال أن تجد من المؤرخين من يسمى عامه حين انفرد بالدولة عام الجماعة؛ لأنه فرق الأمة شيعا شيعا فلا تعرف كيف تتفق إذا حاولت الاتفاق، وما لبث أن تركها بعده تختلف في عهد كل خليفة شيعا شيعا بين ولاة العهود!
وكانت خطة التفرقة عامة عنده لا يقصرها على الخصوم؛ ليضرب بعضهم ببعض، ويتقي شر فريق منهم بشر فريق، بل كان يتوخى هذه الخطة مقدما ومؤخرا، وبين كل فريقين وعلى كل حال، وفي كل موقف كأنها غرض مقصود لذاته أو كأنها خير «مطلق» لا شر فيه ...
وبدأ بهذه الخطة في السياسة العامة على عهد عثمان، فخص المهاجرين بدعوته قبل مرجعه إلى الشام، وقام بينهم يقول بعد أن دعاه عثمان للمقال: «أما بعد، يا معشر المهاجرين وبقية الشورى ، فإياكم أعني وإياكم أريد ...» ثم أتبع ذلك بكلام طويل في معناه، يقول فيه: «يا معشر المهاجرين وولاة هذا الأمر، ولاكم الله إياه فأنتم أهله، وهذان البلدان مكة والمدينة مأوى الحق ومنهاه، وإنما ينظر التابعون إلى السابقين والبلدان إلى البلدين، فإن استقاموا؛ استقاموا، وايم الله الذي لا إله إلا هو ... لئن صفقت إحدى اليدين على الأخرى؛ لا يقوم السابقون للتابعين، ولا البلدان للبلدين، وليسلبن أمركم ولينقلن الملك من بين أظهركم، وما أنتم في الناس إلا كالشامة السوداء في الثور الأبيض ...» •••
صفحة غير معروفة