فقال له معاذ: بل صلحاء الناس كثير بحمد الله، ولن يضيِّع الله أهل هذا الدِّين، خذ عنِّي ما آمرك به، وأوصيك به، " كن من الصامتين بالنهار، والمستغفرين بالأسحار، والذاكرين الله على كل حال، ولا تشرب الخمر، ولا تعقَّنَّ والديك، ولا تأكل مال اليتيم، ولا تفرَّ من الزحف، ولا تدع الصلاة المكتوبة، وصل رحمك، وانصح لجماعة المسلمين، وكن بالمؤمنين رءوفا رحيما، وأنا لك بالجنة زعيم ".
ومات رحمة الله عليه، وصلّى عليه عمرو بن العاص.
وصية عمر بن عبد العزيز قال أبو حاتم، حدثونا عن وصيّة عمر بن عبد العزيز قال، لما خضرت الوفاة عمر قبل له: اكتب يا أمير المؤمنين إلى يزيد بن عبد الملك فأوصيه بالأمر.
قال، وبما أوصيه؟ إني لأعلم أنه من بني مروان.
ثم أمر بالكتاب إليه: " أما بعد، فاتّق يا يزيد الصُّرعة على الغفلة، فلا تقال العثرة، ولا تقدر على الرجعة، وتترك ما تتركه لمن لا يحمدك، وترجع إلى من لا يعذرك ".
قالوا: ودخل مسلمة بن عبد الملك على عمر في مرضه الذي قبض فيه، فقال: " إنك قد أفغرت ولدك من هذا المال، وتركتهم عالة لا مال لهم، وأنهم لا بدّ لهم مما يصلحهم فاوص بهم إليّ وإلى نظرائي من أهل بيتك نكفك مئونتهم ".
فقال عمر: أجلسوني.
فأُجلس.
فقال: يا مسلم بن عبد الملك، أما ما ذكرت أني قد أفغرت أفواه ولدي من هذا المال فتركتهم عالة لا مال لهم، فلم أمنعهم حقَّا هو لهم، ولست معطيهم حقّ غيرهم؛ وأما ما سألت من الوصاة بهم إليك وإلى نظرائك من أهل بيتي فإن وصيِّي فيهم ووليِّي الله الذي نزل الكتاب، وهو يتولّى الصالحين.
يا مسلمة بن عبد املك، إنما بنو عمر أحد رجلين، إما رجل اتّقى الله فسيرزقه حتى يقبضه إليه، وإما رجل غدر وفجر فوالله لا يكون عمر أول من قوّاه على معصية الله، أدع لي بنيَّ.
فدعوهم، وهم يومئذ اثنا عشر رجلا.
فجعل يصعِّد بصره فيهم، ويصوّبه حتى اغرورقت عيناه، ثم قال: " هذا يزعم أني تركتكم عالة لا مال لكم، بل تركتكم من الله بخير، إنكم لا تمرّون بامرئ مسلم ولا معاهد إلاّ ولكم عليه حق واجب، يا بنيّ، إني ميَّلت رأيي في الدنيا بين أن تفتقروا في الدنيا وبين أن أدخل الجنة، أو تستغنوا في الدنيا وبين أن أدخل النار، فكان أن تفتقروا في الدنيا إلى آخر يوم من الدنيا أحبَّ إلىّ من دخول النار طرفة عين، قوموا عصمكم الله، ورزقكم.
ومسلمة يسمع.
حدثنا أبو حاتم قال، وحدثونا عن أبي بكر بن الضحّاك بن قيس الفهريّ قال: شهدنا مع سليمان بن عبد الملك جنازة رجل من قريش، فجلست قريبا منه، فأخذ حفنة من تراب، فقبض عليها، ثم أرسل أصابعه، وبسط كفّه والتراب فيها، ثم قال: " إن هذا المدفن طّيب ".
قال: فوالله الذي لا إله غيره ما أتت له جمعة حتى دفنَّاه إلى جنب القرشيّ، ليس بينهما أحد.
وصية سليمان بن عبد الملك.
حدثنا أبو حاتم قال: وحدثونا عن ابن عيّاش قال، أخبرني حصن، قال: كان سليمان غزا معنا الصائفة، فما رأينا رجلا كان أورع، ولا أحسن صلاة، ولا أكثر صدقة منه، قال، فوالله، إني لقائم على رأس سليمان أذبّ عنه بمنديل، إذ تشمَّم فوجد رائحة.
فقال: ائتوني من هذا الخبز.
فأتوه بثلاثة أرغفة عظام من خبز الفرنيّ، فقال: - يا غلام، انطلق إلى المطبخ، فانظر، هل تصيب لي مخَّا.
فانطلق، فنكت عظما مما طبخ، ثم أقبل به في شيٍّ.
فلما رآه قال: ويلك، ما هذا؟.
فانصرف الغلام، فما ترك في المطبخ عظما إلا نكته، ثم أتى به في صحفة.
قال: فوالله إن وضعه على " يعني: خوان " وما وضعه إلا على الأرض، فأكل تلك الأرغفة الحارة بذلك المخّ، ثم وثب، فدخل على أم سلمة بنت عمر ابن سهل، فما نزل عن بطنها إلا وهو مغشيّ عليه.
فأقام يوما وليلة ثم أفاق، فقال: هو الموت، عليّ برجاء بن حيوة الكنديّ.
وكان من أخصّ الناس به، فأتاه.
فقال: يا هذا، قد ترى ما نزل بي من الأمر، فما رأيك؟.
قال: بل يرفع الله صرعتك يا أمير المؤمنين، ويعلي كعبك.
قال: أيها الرجل، هو والله الموت.
قال رجاء: ذلك ما كتب الله على الأنبياء قبلك، وإن نقض فإلى روح الله ورحمته إن شاء الله.
فقال: ما شاء الله كان، ويفعل الله ما يشاء، من ترى لهذا الأمر يا رجاء؟ قال: ابنك داود.
قال: كيف؟ وهو ابن أمّ ولد، وأهل بيتي لا يرون ذلك.
1 / 53