وإني لست أخاف عليك من قريش إلا الحسين بن عليّ، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، ﵃؛ فأما الحسين، فإن له رحما وحقا عظيما، فإن قدرت عليه فاصفح عنه، فإني لو أُتي به عفوت عنه؛ وأما ابن عمر، فيُقيدُّه إيمانه؛ وأما ابن الزبير فخب، ضب، يجثم لك جثوم الأسد، ويروغ روغان الثعلب، فإن أمكنته الفرصة وثب، فإن فعل فقدرت عليه أن تقطّعه إِربا فافعل ".
قال، وحدثونا عن ابن عياش المنتوف قال، لما حضر معاوية الموت، ويزيد ابنه غائب بيت المقدس، وقال آخرون، بل في الصيد، دعا معاوية مسلم ابن عقبة المرّيّ، والضَّحَّاك بن قيس الفهريّ، فقال: " أبلغا يزيد عنّي قولا، قولا له، انظر أهل العراق فإن سألوا عزل عامل في كل يوم فاعزل عنهم، فإن عزل عامل أهون من أن يشهر عليك مائة ألف سيف، ثم لا تدري على ما أنت منهم، وانظر أهل الشام فاجعلهم الشعار والدِّثار، فإن رابك من عدوّك ريب فارمهم بهم، فإن أظفرك الله بهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم، ولا يقيموا في بلاد غيرهم، فيتأدّبوا بغير أدبهم.
إني لست أخاف عليك غير عبد الله بن عمر، وحسين بن عليّ، وعبد الله بن الزبير، فأما عبد الله بن عمر فرجل قد وقذه الورع، ولا والله، لا تؤتى من قبله، وأما حسين بن عليّ فأرجوا أن يكفيكه الله بمن قتل أباه وخذل أخاه، وأما ابن الزبير فإنه خب ضبّ، فإذا طلع فأثبت له، فقلّما مارست رجلا مثله، فوالله لو قذفته في بئر مملوء زفتا لخرج منه متملِّسا " قال، فمات معاوية.
فقام الحاك بن قيس خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: " إن معاوية كان حدّ العرب، وفخر العرب، وهذه أكفانه، نحن مُدرجوه فيها، ومخّلون بينه وبين ربّه، فمن أراد حضوره فليحضر بعد الظهر ".
فصلّى عليه الضحاك بن قيس.
وقال ابن خريم الأَسدي:
أَتى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقدار صمدن له صمودا
فردَّ شعورهنَّ السُّود بيضا ... وردَّ وجوههنَّ البيض سودا
وقال ابن الكلبي عن أبى عبد الرحمن المدني قال، لما حضر معاوية الموت جعل يقول:
إِن تناقش يكُن نقاشك يا ربِّ ... عذابا لا طوق لي بالعذاب
أَو تجاوز فأَنت ربٌ رحيم ... عن مُسيْ، ذوبه كالتُّراب
وأما ابن داب فقال، لما ثقل معاوية بعث إلى يزيد ابنه، وهو في بعض ضياعه، فأتاه غلام له، يقال له " عجلان " فأخبر بثقله، فأقبل، وقال في ذلك شعرا:
جاءَ البريد بقرطاس يخبُّ به ... فأَوجس القلب من قرطاسة جزعا
قالوا، لك الويل، ما في كتابكم ... قالوا، الخليفة أَمسى مدنفا وجعا
فمادت الأرض أَو كادت تميد بنا ... كأَنَّ أَغبر من أَركانها انصدعا
من لا تزل نفسه توفى على شرف ... توشك مقادير تلك النَّفس أَن تقعا
لمَّا انتهينا وباب الدار منصفق ... لصوت رملة ريع القلب فانصدعا
فلما دخل على معاوية خلا به، وأخرج عنه أهل بيته.
فقال: يا بنيَّ، قد جاء أمر الله، وهذا أوان هلاكي، فما أنت صانع بهذه الأمة من بعدي؟ فمن أجلك آثرت الدنيا على الآخرة، وحملت الوزر على ظهري لتعلو بني أبيك.
قال يزيد: آخذهم بكتاب الله وسنّة نبيّه ﷺ، آخذهم به، وأقتلهم عليه.
فقال: أو لا تسير بسيرة أبي بكر الذي قاتل أهل الردّة، ومضى والأمة عنه راضون؟ قال: لا، إلا بكتاب الله وسنّة نبيّه، آخذهم به، وأقتلهم عليه.
قال: أولا تسير بسيرة عمر الذي مصّر الأمصار، وجنّد الأجناد، وفرض العطيّة، وجبي الفيء، وقاتل العدوّ، ومضى والأمة عنه راضون.
قال: لا، إلا بكتاب الله وسنة رسوله، آخذهم به، وأقتلهم عليه.
قال: أولا تأخذ بسيرة عثمان عمك الذي أكل في حياته، وورّث في مماته، واستعمل أقاربه؟ قال: لا، إلا بكتاب الله وسنة نبيه، آخذهم به وأقتلهم عليه.
قال: أولا تسير بسيرة أبيك الذي أكل في حياته وورث بعد وفاته، واحتمل الوزر على ظهره؟ قال: لا إلا بكتاب الله وسنّة نبيه، آخذهم به وأقتلهم عليه.
قال: يا يزيد، انقطع منك الرجاء، أظنك ستخالف هؤلاء، جميعا، فتقتل خيار قومك، وتغزو حرم ربك بأوباش الناس، فتطعمهم لحومهم بغير الحق فتدركك مرّته فجأة، فلا دنيا أصبت ولا آخرة أدركت.
1 / 50