صدقني إن الخير كل الخير للرجل الحازم الأديب، أن يفر بقلبه وعقله وضميره من هذا الجيل. فإن أعجزه الفرار إلى بلاد أخرى، فلا أقل من أن يفر إلى زمان آخر من أزمنة التاريخ.
الفصل الحادي عشر
مصر المريضة
لم أكد أصعد إلى السفينة وأستقر فيها، وأفرغ من هذه المواسم البغيضة التي لا بد منها لكل مبحر مهما يكن الثغر الذي يبحر منه، حتى علمت بأن مصر مريضة، فاستمعت للنبأ غير حافل به ولا آبه له ولا ملق إليه بالا. فالنبأ منشور في إحدى الصحف الفرنسية التي لا تصدر في مارسيليا، وما أكثر ما ينشر عن مصر من هذه الأنباء التي لا تصور حقا ولا تدل على شيء، إلا ما يكون في نفس الذين أبرقوا بها من بغض لمصر أو ميل إلى الكيد لها، والنعي عليها، والإسراف فيما يذاع عنها من أنباء السوء!
والصحف الفرنسية في هذه الأشهر الأخيرة قليلة العطف على مصر، شديدة الضيق بها، سريعة إلى التحدث عنها بما لا يحب المصريون، تنتهز لذلك الفرص إن سنحت، وتخلقها إذا لم تسنح، وقد كان بيننا وبين فرنسا تلك الخطوب التي أحفظتنا على الفرنسيين وأغرتنا بهم، وأحفظت علينا الفرنسيين وأغرتهم بنا، فالقارئ المستبصر خليق أن يصطنع كثيرا من الحرص والأناة حين يقرأ أنباء مصر في فرنسا، وحين يقرأ أنباء فرنسا في مصر. ولست أخفي على القارئ أني لم أكد أسمع ما نشر في تلك الصحيفة من أن مصر مريضة، ومن أن مرضها شيء يشبه أن يكون وباء الكوليرا، ومن أن الحكومة المصرية قد أخذت تتأهب لمقاومة الوباء، حتى رفعت كتفي وهززت رأسي، وابتسمت ابتسامة ساخرة من هؤلاء الصحفيين الذين يريدون أن يكيدوا فلا يحسنون الكيد، وأن يكذبوا فلا يحسنون تخير الأكاذيب.
ومضى يوم ويوم والسفينة تجري إلى غايتها، يعنف بها البحر حينا ويرفق بها حينا آخر، دون أن يتحدث أحد إلى أحد بهذا النبأ السخيف الذي نشرته صحيفة سخيفة، ومر بها القارئون مرا سريعا، ولكننا نمسي ذات يوم وإذا إعلان قد ألصق في غير موضع من السفينة، ينبه فيه المسافرون إلى أن الماء العذب سيحجز عنهم ساعات من النهار؛ لتستطيع السفينة أن تبلغ بيروت دون أن تأخذ شيئا من ماء مصر، لأن وباء الكوليرا يمنعها من ذلك.
هنالك لم نرفع الأكتاف ولم نهز الرءوس، ولم نبتسم ابتسامات ساخرة ولا جادة، وإنما نظر بعض المسافرين إلى بعض في صمت، ثم أقبل بعض المسافرين على بعض يتساءلون. أما أنا فأعترف بأني لم أرفع كتفي ولم أهز رأسي، وإنما أطرقت إلى الأرض، وجعلت أتضاءل وأتضاءل، ووددت لو نظر إلي من حولي من الناس فلم يروني، ووددت لو تحدث إلي من حولي من الناس فلم يسمعوا مني لحديثهم رجع جواب. فلم يكن الشعور الذي وجدته في ذلك الوقت شعور الخوف، ولا الشعور بالحاجة إلى الاحتياط، وإنما كان شعورا غريبا أستطيع الآن أن أقول إنه كان مزاجا من الحزن والخزي جميعا.
كان فيه الحزن على هذا البلد الذي كنا نراه خليقا بالسعادة، والذي أفنينا شبابنا وكهولتنا وجهودنا وقوانا لنرقى به إلى بعض هذه السعادة التي كنا نراه لها أهلا، ثم ها نحن أولاء نرى الشقاء يصب عليه صبا، والبلاء يأخذه من جميع أقطاره، والآلام والنوائب تسعى إليه من كل وجه. نرى البؤس البائس يغمر الكثرة الكثيرة من أهله، فيلابسهم ملابسة متصلة لا تقلع عنهم في ليل ولا نهار، فهم جائعون عراة جهال، أشقياء بهذا كله، ويزيدهم شقاء أن كثيرا منهم يعرفون هذا البؤس الذي هم فيه، ويعرفون أن من حقهم أن ينعموا، ويريدون أن يخلصوا من بؤسهم، وأن يحققوا لأنفسهم شيئا من نعيم، ولكنهم لا يبلغون ما يريدون، ولا يعرفون كيف يبلغون ما يريدون، ولا يجدون من يعينهم على أن يبلغوا ما يريدون.
وفيه الحزن على هذا البلد الذي كنا نراه أهلا للحرية والأمن، والذي أفنينا شبابنا وكهولتنا وجهودنا وقوانا لنظفر له ببعض حقه من الحرية والأمن، ثم ها نحن أولاء ننظر فنراه مغلولا لا يقدر على أن يتحرك، معقود اللسان لا يقدر على أن ينطق، مقفل القلب لا يقدر على أن يجد ما تجد الشعوب الحرة من الشعور بأيسر كرامة الإنسان. ثم ننظر إليه فنجده من أجل ذلك خائفا يترقب، يخشى أن يعمل فيغضب سادته، ويخشى أن يقول فيحفظ قادته، ويخشى أن يسكت فيسوء به ظن المسيطرين على أمره، فهو حائر بين الحركة والسكون، وبين الكلام والصمت، وبين الشعور والجمود.
وفيه الحزن بعد ذلك على هذا البلد الذي كنا نراه أهلا للاستقلال، والذي أفنينا شبابنا وكهولتنا وجهودنا وقوانا لنظفر له بحقه في هذا الاستقلال، ثم نحن ننظر فإذا هو يرد عن حقه أعنف الرد وأقساه، وإذا المنتصرون الذين كانوا يترضونه ويتملقونه في أمس القريب، قد ائتمروا به وتنكروا له وكادوه كيدا، إن صور شيئا فإنما يصور الجور والغدر والظلم والجحود.
صفحة غير معروفة