استقبلت هذا كله ونظرت فيمن حولي من الناس، لأرى كيف يرفق بعضهم ببعض، وكيف يعطف بعضهم على بعض، وكيف يسرع الموسرون منهم إلى معونة المعسرين، فلم أر شيئا ذا خطر، وإنما رأيت كرما قليلا وكلاما كثيرا، واستباقا إلى التفاخر الكاذب، وتهالكا مع ذلك على اللذة الباطلة والنعيم السخيف. وما أعلم أن أغنياءنا - على كثرة ما يملكون، وعلى كثرة ما يغل عليهم ما يملكون - قد استطاعوا أن يجمعوا لمعونة المنكوبين بوباء الكوليرا مائة ألف من الجنيهات، وأحسبهم ما زالوا بعيدين عن هذا المقدار أشد البعد، وما أرى أنهم سيبلغونه أو يقربون منه. وهم قد أخذوا ينسون الوباء، بعد أن أمنوا على أنفسهم - إن جاز للناس أن يأمنوا على أنفسهم - وبعد أن زعمت لهم وزارة الصحة أن الوباء قد أوشك أن يزول. لم يقل أحد لنفسه - ولا يرجى أن يقول أحد منهم لنفسه - إن الوباء قد اختطف من أسر كثيرة رجالا كانوا يعولونها، واضطرها إلى إعدام لا سبيل إلى تصوره فضلا عن وصفه، وإن من حق هذه الأسر أن تعيش أولا، وأن تجد من عطف المواطنين عليها بعض العزاء عما ألم بها من الخطب ثانيا، وأن تشعر بأنها أسر كريمة في وطن كريم ثالثا.
لم يخطر لأحد منهم - ولا يرجى أن يخطر لأحد منهم - شيء من ذلك؛ لأنهم مشغولون عن هذه الخواطر بجمع المال إلى المال، وضم الثراء إلى الثراء، وباللذات التي لا يفرغون من بعضها إلا ليقبلوا على بعضها الآخر، ولا يستريحون منها إلا ليستأنفوا العكوف عليها والإمعان فيها. ثم لم يخطر لأحد منهم - وليس يرجى أن يخطر لأحد منهم - أن بؤس البائسين وإعدام المعدمين لا يجر الخزي عليهم بمقدار ما يجر الخزي على وطنهم كله، وعلى الذين أتاحت لهم الظروف أن يكونوا عنوانا لهذا الوطن، يلقون الأجنبي حين يفد على مصر، ويسعون إلى الأجنبي إذا لم يفد على مصر، ويسمعون منه - راضين أو كارهين - حديث الوباء والمنكوبين، فلا يستحيون لأنفسهم، ولا يستحيون لوطنهم، ولا يستحيون لهذا الجيل من المصريين أن يوصم في أعين الأجنبي بالأثرة المنكرة التي تغض من صاحبها وتجعله خليقا أن يزدرى ويحتقر، ولا يكرمه من يكرمه إلا بمقدار ما يتخذه وسيلة إلى تحقيق منافعه، وقضاء آرابه.
أي بأس علي إذا رأيت هذا كله وضقت بهذا كله، فوجدتني بين اثنتين: إما أن أبغض الحياة والأحياء، وأنكر الوطن والمواطنين، وإما أن ألتمس العزاء حيث أستطيع أن ألتمسه، وكما أستطيع أن ألتمسه، لعل الغمرة أن تنجلي، ولعلي أستطيع - بعد وقت قصير أو طويل - أن أعود إلى هذا الجيل من المصريين المعاصرين، ومن أغنيائهم خاصة، فأقول لهم وأسمع منهم دون أن أجد في نفسي هذا الألم الممض، وهذا الاشمئزاز البغيض.
إلى التاريخ إذن وإلى أحاديث القدماء، فقد ملأ المعاصرون قلوبنا يأسا ونفوسنا قنوطا. لنهجرهم، ولنهاجر في الزمان إذا لم تتح لنا الهجرة في المكان، ولننظر في أخبار تلك العصور القديمة، سواء أصحت أم لم تصح، فهي إن صحت كانت لنا عزاء، وهي إن لم تصح أتاحت لنا أن نحلم بجيل من الناس لا يكون الرجل فيه عبدا للمال ولا مرقوقا للثروة، وإنما يكون المال فيه عبدا لمالكه، وتكون الثروة فيه وسيلة إلى إعانة المنكوب وإغاثة الملهوف، وإنقاذ المحروم، ثم إلى إثارة العاطفة الحلوة التي يجدها الرجل الكريم حين يحس أنه قد أعان منكوبا، وأغاث ملهوفا، وأنقذ محروما وبر صديقا، وتصرف في ماله ولم يدع ماله يتصرف فيه.
إلى التاريخ إذن لننسى العصر الذي نعيش فيه، وإلى أحاديث القدماء لنتسلى عن سيرة المحدثين.
وتستطيع أن تصدقني أو لا تصدقني، فما يعنيني من ذلك شيء، ولكنك تستطيع أن تقرأ - على كل حال - أني وقفت وقفات طويلة، طويلة جدا، عند بعض هذه الأحاديث التي تروى لنا عن القدماء من أصحاب الجود والسخاء، عند هذه القصة التي تروى عن عثمان - رحمه الله - حين أجدب أهل المدينة أبي بكر حتى ارتفعت الأسعار، ولم يجد الفقراء وأوساط الناس ما يأكلون، وأقبلت في أثناء ذلك عير لعثمان تحمل من الشام خيرا كثيرا، فأسرع التجار إليه يريدون أن يشتروا منه بضاعته لييسروا بها على الناس، وجعل يساومهم حتى عرضوا عليه ما يعدل أربعة أضعاف أثمانها، ولكنه أبى أن يبيع إلا إن استطاعوا أن يدفعوا إليه عشرة أمثال أثمانها، فلما أظهروا العجز أنبأهم بأن الله قد وعده عشرة أمثالها إن تصدق بها، ثم أعلن إليهم أنه يؤثر هذه التجارة على تجارتهم، ويؤثر ثواب الله على أموالهم، وأن بضاعته هذه صدقة للمسلمين!
نعم، ووقفت وقفات طويلة، طويلة جدا، عند رجل آخر من أصحاب النبي، هو طلحة بن عبد الله رحمه الله، وقد دخلت عليه امرأته فرأته مغتما حزينا، فلما سألته عن ذلك رفيقة به عطوفا عليه، أنبأها أن قد جاءه مال كثير، فهو مهتم لا يدري ما يصنع به، فلم تزد امرأته على أن قالت له مبتسمة: اقسمه. قال: نعم. ثم قسم هذا المال بين ذوي قرابته وذوي مودته وذوي الحاجة من المسلمين، واستقبل بعد ذلك ليله سعيدا، وكان هذا المال أربعمائة ألف درهم!
نعم، وأقف وقفات طويلة، طويلة جدا، عند طلحة نفسه حين باع أرضا له وأدى إليه ثمنها سبعمائة ألف درهم، فلما حصل المال في داره، فكر غير طويل ثم قال: إن رجلا يمسي وعنده هذا المال لا يدري ما ادخر له القضاء من أمر الله لمغرور! ثم أمر فقسم هذا المال على ذوي قرابته، وذوي مودته، وذوي الحاجة من المسلمين، ولم ينم حتى أنفقه عن آخره.
والغريب أن هذا الإنفاق على كثرته وعلى اتصاله لم ينته بطلحة إلى الفقر أو إلى شيء يشبه الفقر؛ لأن الله قد وعد الأغنياء إذا أنفقوا في سبيل الله مخلصين لا يبتغون رياء ولا شهرة ولا نفاقا، أن يخلف عليهم ما أنفقوا. وقد قتل يوم الجمل وتعرضت ثروته بعد موته لخطوب كثيرة، ولكن ورثته على رغم ذلك اقتسموا فيما بينهم ثلاثين مليونا من الدراهم!
فليت أغنياءنا يفكرون في أنهم يستطيعوا أن ينفقوا من فضول أموالهم مخلصين، غير منافقين ولا مرائين، دون أن يرزأهم هذا الإنفاق شيئا ذا خطر. وليت أغنياءنا يصدقون وعد الله أو يمتحنون هذا الوعد، ليتهم ينفقون مخلصين غير مرائين؛ ليتبينوا أيخلف الله عليهم ما أنفقوا، ولكن هيهات! ليس إلى ذلك من سبيل؛ لأن أغنياءنا لا يقرءون، وهم إذا قرءوا لا يؤمنون، وهم إذا آمنوا لا يغامرون، وأهون عليهم أن يغامروا بالألوف في ناد من أندية الميسر، وميدان من ميادين السباق، من أن يغامروا بالألوف في سبيل من سبل البر ليتبينوا أيصدقهم الله ما وعدهم أم لا. والشيء الذي يملأ القلوب غيظا والنفوس كمدا، هو أن الحكومات ترى من حرص الأغنياء وبخلهم ومن تقصيرهم ما ترى، ثم لا تبيح لنفسها من فرض الضرائب ما يتيح لها أن تعين المنكوب، وتغيث الملهوف، وتنقذ المحروب، وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له.
صفحة غير معروفة