لم يكن عمر - رحمه الله - يقدر حين صدر من الموسم في ذلك العام أن الله سيرسل إلى المسلمين عاما جديدا يمتحنهم فيه بالجوع والظمأ والعري، امتحانا لم يعرفوا مثله منذ عهد بعيد أشد البعد، وكيف كان عمر يستطيع أن يقدر ذلك وأمور الدولة الناشئة تجري على خير ما كان المسلمون يحبون من العدل والسعة وبعد الصيت، وانتشار الفتح وكثرة الفيء وغزارة الرخاء؟ ولكن العام الجديد يقبل، وإذا السماء تبخل بمائها حتى تحترق الأرض ظمأ إلى هذا الماء، وحتى تسود كأنها الرماد، وحتى يضطر المسلمون إلى أن يسموا هذا العام عام الرمادة.
بخلت السماء بالماء، وجادت الشمس بالحر، وعجزت الأرض عن أن تخرج للناس ما يأكلون وما يطعمون به ما كانوا يسومون من الثاغية والراغية. وينظر عمر بعد أن استقر في المدينة، فإذا الأزمة تسعى متمهلة مستأنية، ولكنها مستوثقة من نفسها ملحة في سعيها، وإذا أهل البادية قد أجدبوا واشتد عليهم الجدب، فلم يفكروا إلا في أن يهرعوا إلى خليفتهم، يلتمسون عنده ما يطعمهم من جوع، ويسقيهم من ظمأ، ويكسوهم من عري، وما له لا يفعل ذلك وهو قد أخذ أبناءهم وآباءهم وإخوانهم وكاسبيهم وعائليهم، فرمى بهم تلك الثغور، ودفع بهم إلى حروب يعرفون أولها ولا يعرفون آخرها! وما لهم لا يهرعون إليه وهم كانوا يشعرون بحبه لهم، وعطفه عليهم، وبره بهم، يسعى إلى أقصاهم كما يسعى إلى أدناهم، لا يقصر عن السعي إليهم ساعة من ليل أو ساعة من نهار.
ثم ينظر عمر فإذا جزيرة العرب كلها ترسل إليه من بقي فيها من الشيوخ والنساء والأطفال والعاجزين الذين لا يقدرون على شيء، والقادرين الذين لا يجدون شيئا يقدرون عليه ... هنالك ينهض عمر للقاء هذه الأزمة العنيفة الجائحة نهوض الرجل الذي يعرف الحق كما لم يعرفه أحد بعده، ويحمل العبء كما لم يحمله أحد بعده، ويواجه الخطب مصمما على أن ينفذ منه أو يموت من دونه مهما تكن الظروف، حتى أصبح عام الرمادة ذاك كنزا من كنوز المسلمين لا ينفد ولا يدركه الفناء؛ يجد المسلمون فيه من العبرة والموعظة الحسنة والقدوة الصالحة، ما لا يمتنع عليه قلب له حظ من رفق ولين، إلا أن يكون من تلك القلوب التي وصفها الله عز وجل، بأنها قست فهي كالحجارة أو أشد قسوة. وقد بدأ عمر رحمه الله بنفسه في مقاومة هذا الخطب، فأبى إلا أن يكون رجلا من المسلمين؛ يشقى كما يشقون، ويجزع كما يجوعون، ويظمأ كما يظمئون، ويشتد على نفسه وعلى أهله بمقدار ما تشتد الأزمة على أشد الناس فقرا وبؤسا، يفعل ذلك لأنه مؤمن قبل كل شيء بأن من الحق عليه لنفسه ولله وللناس أن يفعل ذلك، ثم يفعله لأنه مؤمن بأن من الحق عليه أن يعلم الناس كيف يكون التضامن والتعاون والتعاطف، حين تنزل المحن وتلم الخطوب، فيأبى إلا أن يعيش كما يعيش أفقر الناس!
رأى المسلمين لا يجدون السمن إلا في مشقة وجهد، فحرم على نفسه السمن حتى تجده عامة الناس، وفرض على نفسه الزيت والخبز الجاف، فلما ثقل عليه الزيت ظن أنه إن طبخ له فقد يكون أخف على معدته احتمالا، فأمر أن يطبخ له بالزيت، وأكله مطبوخا فكان أوجع له وأعسر هضما، حتى تغير لونه واسود وجهه، وكان شديد البياض، ثم جعل يطعم الناس على الموائد العامة ويجلس معهم إلى هذه الموائد يأكل مما يأكلون منه. ثم أمر المنادين أن ينادوا في الناس: من يشأ أن يقبل على هذه الموائد ليأكل منها فليفعل، ومن شاء أن يقبل على هذا الطعام فيأخذ منه حاجته وحاجة أهله ليأكل معهم فليفعل. وكان يشرف بنفسه على إعداد الطعام، وربما علم الطباخين كيف يطبخون. ولكن الأزمة تشتد وتشتد، وأهل البادية يهرعون إلى المدينة، وكثير منهم لا يستطيعون أن ينتقلوا من أماكنهم، قد هلك الزرع، وجف الضرع، ونفقت الماشية، وأصبح من الحق على الخليفة أن يدرك هؤلاء الناس في مواطنهم، ويحمل إليهم أرزاقهم ما داموا عاجزين عن السعي إلى هذه الأرزاق؛ هنالك يكتب عمر إلى عماله في الأقاليم يأمرهم بأن يرسلوا إليه الأمداد. واقرأ هذا الكتاب القصير الرائع الذي كتبه عمر إلى عامله على مصر عمرو بن العاص رحمه الله، وانظر إلى ما في هذا الكتاب القصير الرائع من عنف عنيف ملؤه الرحمة الرحيمة، والرفق الذي ليس بعده رفق: «بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله أمير المؤمنين إلى العاصي ابن العاصي. سلام عليك. أما بعد، أفتراني هالكا ومن قبلي، وتعيش أنت ومن قبلك؟ فيا غوثاه! ... يا غوثاه! ... يا غوثاه!»
فلم يكد عمرو بن العاص - رحمه الله - يقرأ هذا الكتاب الذي يزجره فيه أمير المؤمنين أشد الزجر، حتى كتب إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم
لعبد الله عمر أمير المؤمنين من عمرو بن العاص. سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد، أتاك الغوث فلبث فلبث، لأبعثن إليك بعيرا أولها عندك وآخرها عندي.
ثم نهض عمرو في إرسال هذا الغوث برا وبحرا. وكتب عمر إلى عماله الآخرين في الشام والعراق، فكلهم صنع صنيع عامل مصر، ثم أرسل عمر رسله إلى حدود بلاد العرب مما يلي الشام والعراق ومصر، وأمرهم أن يتلقوا هذه المعونات، فيميلوا بها إلى أهل البادية في أماكنهم وأحيائهم ليطعموهم، ويكسوهم، ويسقوهم، وعزم على رسله هؤلاء ألا يضعفوا ولا يلينوا ولا يفرقوا ما في أيديهم من الطعام دون أن يتبينوا أنه صائر إلى بطون الجائعين، لا إلى خزائن المختزنين. وأشد من هذا روعة وأعظم من هذا إثارة للعبرة، أن عمر رحمه الله كان يقول: «نطعم ما وجدنا أن نطعم، فإن أعوزنا جعلنا مع أهل كل بيت ممن يجد، عدتهم ممن لا يجد، إلى أن يأتي الله بالحيا.»
ومعنى ذلك أنه - رحمه الله - قد فتح بيت المال على مصراعيه، وأزمع أن يرزق الناس منه، حتى إذا لم يجد فيه شيئا كلف كل أسرة غنية أن تطعم مثل عددها من الفقراء، يأخذهم بذلك بسلطان القانون والدين، حتى يأتي الله بالفرج.
وما قصصت عليك هذا كله لأرفه عليك بروائع التاريخ، أو لأطرفك بهذه النوادر البارعة من سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب؛ فلسنا في وقت ترفيه ولا إطراف ولا ترويح، وإنما نحن نحيا في أيام سود، ليست أقل نكرا، ولعلها أن تكون أشد نكرا من عام الرمادة ذاك.
صفحة غير معروفة