يا نفس! إن الشىء الذى يأتيك علمه ثم يعاودك نسيانه فتيقنى أنه إنما يأتيك علمه من خارج ذاتك بمادة تتوسط بينك وبين علم ذلك الشىء. فإذا عاودك نسيانه فإنما ذلك من قبل ظلمة الجسد واختلافه وثقله واجتذابه إياك إلى ذاته، وإعاقته لك بكثرة أضداده وتركيبه، فتعودين، يا نفس، ناسية لما قد كنت ذكرته، وجاهلة لما قد كنت علمته. ومثل ذلك يا نفس كمثل البصر والمبصرات والظلمة والنور، وذلك أن البصر يكون فى الظلمة وتكون المبصرات حاضرة بين يديه فلا يراها ويضعف عن إدراكها. فإذا ورد إليه النور المضىء أعانه على إدراك مبصراته ومحسوساته التى قد كانت قبل ذلك غائبة عنه، فكان ذلك النور سائقا له إليها ومتمما له إدراكه إياها، وجاعلها فيه بالفعل بعد أن كانت فيه بالقوة. فما دام البصر واحدا ذلك النور فهو واحد لمبصراته ومدرك لها. فإذا فقد النور وعاودته الظلمة عاد إلى فقد جميع محسوساته. ولو دام له النور أبدا لدام له الإدراك أبدا ما دام النور وعدم الظلمة. فإذا كان قد اتضح لك، يا نفس، أن النور يأتى من قبل العقل، والظلمة تأتى من قبل الجسد، فينبغى لك يا نفس ألا تأسفى على فراق الجسد لشدة إضراره بك وخذلانه إياك وإعاقته لك عن إدراك معلوماتك الدائمة الحقيقية، بل ينبغى لك يا نفس أن تأسى على مفارقتك عالم العقل النورى لكثرة منافعه لك ومساعدته إياك على نيل مطلوباتك. فانصرفى، يا نفس، عن الطبيعة زاهدة فيها، قالية لها، خائفة منها حذرة من عواقبها، فازعة إلى عالم العقل الذى هو أصلك ونبعك ومعدن شرفك وعزك — تحيى بذلك الحياة الدائمة، وتستكملى السعادة التامة الكاملة.
يا نفس! حتى متى وإلى متى أنت فى عالم الكون تطوفين واردة وصادرة، وذاهبة وراجعة؟! تتخذين القرناء والخلان فخليلا تتركين، وخليلا تصحبين. ليس من خليل تصحبينه فيخشن لك منه جانب إلا ولان لك منه جانب معتقدا لك الغدر والخذلان، وأنت معتقدة له الوفاء والمساعدة: يعتل فتصححينه، ويدنس فتطهرينه: فهو دائما يقابلك بما فى جوهره وطبعه، وأنت دائما تقابلينه بما فى جوهرك وطبعك. ثم يعقبك بعد هذا كله بالقطيعة الكلية والفراق القاطع على غير جرم أجرمته، ولا ذنب جنيته ولا شر صنعته. فأنت فى كل حين متجرعة من الفراق غصصا وفاقدة إلفا وخليلا، على غدرهم بك ووفائك لهم، وظلمهم إياك وإنصافك إياهم. لا عن الآخرة بالأولى تزجرين، ولا بطول تجربتك واختبارك لهم تتعظين وتعتبرين. فحتى متى، وإلى متى تصاحبين الأشرار الظالمين والخونة الغادرين؟ أهذا جهل منك وعمى، أم تجاهل وتعام عن الصواب؟!
[chapter 6: 6] الفصل السادس
صفحة ٧٧