يا نفس! حتى متى أنت فقيرة هاربة من ضد إلى ضد؟ فتارة هاربة من الحر إلى البرد، وتارة من البرد إلى الحر، وتارة من الجوع إلى الشبع، وتارة من الشبع إلى الجوع — وكذلك فى سائر الأطعمة والروائح: إن أسرفت عليك الحلاوة افتقرت إلى الملوحة، وإن أسرفت عليك الملوحة افتقرت إلى الحموضة، وكذلك فى جميع المشمومات وجميع ما أنت مشاهدة له فى عالم الحس: فبينما أنت فقيرة إلى المقتنيات، فإذا وصلت إليها اكتسبت الخوف عليها ما دامت معك، فإذا فارقتك وفارقتها فقد زال عنك الخوف وأعقبك ذلك أحزانا وغموما؟ فانزعى يا نفس هذا الشىء الذى أنت فيه ومشاهدة به لهذه الأشياء، والذى أنت معه واجدة لهذه الأمراض والآلام. ولا تأسى لمفارقة الأحزان والهموم والخوف والفقر ، ولا تكرهى مواصلة الغنى والأمن والسرور: فإنه من آثر الفقر على الغنى، والخوف على الأمن، والذل على العز كان جاهلا، ومن جهل فقد ضل، ومن ضل فقد هلك.
يا نفس! تيقنى أنك قد برزت عن أصل أنت فرعه؛ وأن الفرع — وإن جرى إلى غاية البعد عن أصله، فإن بينه وبينه وصلة ورباطا، ولهذه الوصلة والرابطة يستمد كل فرع من أصله كالشجرة المثمرة: فإن الثمرة وإن بعدت عن أصلها المبدئ لها فإن بينها وبينه اتصالا ذاتيا به يكون استمدادها منه. ولو عدمت ذلك الاتصال — بأن يقطع بينهما قاطع مما سواهما، فحال بين الأصل والفرع وأوجب قطع المادة عن الفرع — لفسد فى حال وتلف. — فتصورى يا نفس هذا، وتيقنيه، واعلمى أنك راجعة إلى مبدئك الذى هو أصلك؛ فتهذبى من أوساخ الطبيعة وأوزارها المبطئة بك عن سرعة الرجوع إلى عالمك وأصلك.
صفحة ٦٦