29
والاندفاع من تلقاء نفسه في سياسة لم يقرها رؤساؤه، بل استبدله بعد قليل بالكولونيل باتريان كامبل،
30
وهو بلا ريب أقدر مندوبي إنجلترا في مصر في عهد محمد علي وأكثرهم فهما لحقائق الأمور.
ولكيما يستر فتوحاته بستار يجعلها بعيدة عن إثارة الشكوك والانزعاج في نفوس الدول الغربية؛ فإن نائب السلطان الذي ما برح يسمي نفسه بهذا الاسم مهما تبرأ منه مولاه راح يضم أساس مشروع متناقض كان قد سبق أن عرضه على بريطانيا العظمى، هذا المشروع هو أنه ما زال في أعماق قلبه خادما أمينا للإمبراطورية العثمانية إن لم يكن للسلطان العثماني نفسه، وأنه إنما قام بما قام به لخير الباب العالي ولرفعة مجده، وأنه لا يطمع بحال ما في الاستقلال أو الانفصال عن الإمبراطورية، وأنه إذا كان قد فتح سوريا فليس إلا لتوطيد دعائم الحكم التركي،
31
ولكن وقد أثبتت التجارب أن السلطان محمود قد أصبح عاجزا عن قيادة الشعب التركي إلا في طريق الهزيمة والخسران، ونظرا لأن الديوان قد تملكت من نفسه البغضاء ومن الرجل الوحيد - ألا وهو محمد علي نفسه - الذي في وسعه إنقاذ الإمبراطورية من الخراب، إذن فقد أصبح واجبا محتما عليه بصفته تركيا مخلصا أن يخلع محمودا من على العرش وأن يجلس مكانه نجله الأصغر عبد المجيد، على أن يكون له ديوان يكفل تسيير شئونه في طريق الحكمة والرشاد،
32
وفي شهري أغسطس وسبتمبر قام محمد علي بتجربة لإلغاء شارة البيادة الوحيدة للسلطان محمود على مصر، فبحجة أن العملة التركية قد أصابها التدهور منذ سنوات عديدة، وأنها آخذة في الاضمحلال المستمر، بحيث تسير من سيئ إلى أسوأ فقد أمر محمد علي بأن يقف التعامل بها في كافة أنحاء مصر؛ وذلك لمنع حلولها محل العملة الأوروبية والمصرية المتداولة في البلاد. ولم تكن لهذه التجربة أي صلة بالقانون المشهور الذي وضعه جريشام، وفي الحق كانت محاولة محمد علي هذه محاولة تدل على منتهى الذكاء؛ فقد تمكن تحت ستار الإصلاح الاقتصادي من أن يعلن للشعب المصري أنهم لم يعودوا يحكمون باسم السلطان محمود.
كانت المباحثات في الوقت نفسه متواصلة بين الإسكندرية والآستانة؛ فإن السلطان قد بعث مندوبين في نهاية عام 1831م إلى القطر المصري حيث استقبلوا بكافة مظاهر الحفاوة والتبجيل، ولكن المباحثات نفسها استمرت طيلة الشهرين التاليين ، ولم تسفر عن شيء ثابت سوى الدخان المتصاعد من الجبلين اللذين ظل الرجلان يتسليان بتدخينه يوما بعد يوم في قصر نائب السلطان، ثم دارت المفاوضات بطريقة غير مباشرة بواسطة قبطان باشا التركي. وفي شهر سبتمبر أبلغ محمد علي المستر باركر أنه لم يتسلم ردا شافيا، وأنه لم يبق أمامه إلا مواصلة الزحف على الآستانة، وأنه قد وصلته أنباء سرية بأنه «لا يوجد الآن ما يعوقني أن أفعل هذا.»
صفحة غير معروفة