وكان أهالي بلاد البربر - كغيرهم من المسلمين الطيبين - قد غضبوا أشد الغضب لتدخل المسيحيين في شئون اليونان، وكذا بادروا بإرسال كل ما لديهم من السفن لمساعدة الخليفة وهم محنقون لزوال حرية البحار التي تمتعوا بمزاياها دهرا طويلا وغير حاسبين حسابا لكارثة نافارين التي كانت تنتظرهم، وقد كانوا يميلون في حالتهم العقلية المحنقة هذه إلى تحدي الغرب وما لديه من الأساطيل؛ ففي أبريل سنة 1827م دارت مناقشة عنيفة بين حسين باي الجزائر وقنصل فرنسا العام المسيو ديفال، ولم يتحرج الباي من لطم القنصل الفرنسي بالمذبة على وجهه، فطلبت فرنسا تعويضا عن تلك الإهانة، ولكن الباي أبى تقديم أي تعويض، ومن ثم سحبت قنصلها المذكور وكلفت إحدى عماراتها بمحاصرة الجزائر؛ ونظرا لأن الباي ظل مصرا على رأيه، وأبى الاستغفار عما فرط منه، ولأن الحالة العامة - وخاصة بعد نشوب الحرب الروسية التركية في سنة 1828م - لم تكن لتشجع على القيام بعمل حازم، فلقد حاول قنصل سردينيا ثم أحد ضباط فرنسا البحريين أن يقنع الباي بقبول شروط أخف من الشروط التي كانت معروضة عليه أولا، على أن هذه المحاولات لم تكن إلا لتزيد الباي اقتناعا بأن فرنسا بدأت تضعف أمامه؛ مما زاده صلابة على صلابة. وفي أواسط سنة 1829م تقرر إرسال السفينة «بروفانس» وهي رافعة العلم الأبيض باقتراحات جديدة ومعها تهديد بإرسال حملة عسكرية في حالة رفض تلك الاقتراحات، ولكن الباي حسين ظل مصرا على الرفض، وكان جوابه عندما هدده ربان السفينة بالقتال تلك العبارة الخالدة؛ وهي: «لدي البارود ولدي المدافع، وبما أننا لا يمكن أن نتفق فالأولى أن ترحل من هنا.»
فلم يسع السفينة «بروفانس» إلا أن تقلع مراسيها وتعود إلى بلادها في 3 أغسطس، بينما كان العلم الأبيض لا يزال يرفرف على ساريتها، على أن الريح قد غلبتها ودفعتها إلى أقرب بطاريات المدينة، وقد عد الأهالي عملها هذا بمثابة إهانة متعمدة، فأطلقوا عليها القنابل وظلوا يطلقونها طالما بقيت السفينة في داخل مرمى المدافع حتى تمكنوا بعد إطلاق ثمانين قنبلة من إصابتها ثلاث مرات.
فلما أن وصلت هذه الأنباء إلى باريس ازداد الرأي العام سخطا على سخطه وأصبح قلقه بسبب التباطؤ في إخضاع الباي ينذر بالخطر، ولكن الوقت لم يكن ملائما بالمرة لاستعمال العنف بل كان داعيا للحيرة؛ ذلك أن الروس كانوا وقتئذ قد احتلوا أدرنة وأصبح انهيار الإمبراطورية العثمانية وتمزيق شملها قاب قوسين أو أدنى، فهل كان بوسع أي وزير بعيد النظر أن يقوم في مثل هذه اللحظة الخطيرة بتوريط قوات فرنسا البرية أو البحرية في الحرب في شمال أفريقيا؟ ثم إن المسيو بولنياك - الذي عين في أغسطس وزيرا للخارجية - كان قد فرغ وقتئذ من وضع مشروع لو أمكن تنفيذه لضمن التفاف الشعب حول عرش شارل العاشر الذي كان مهددا بالانهيار ولأحبط اتفاق الحلفاء على خلع نابليون،
1
وقد توهم أن روسيا والنمسا سوف تقتسمان فيما بينهما معظم ما لتركيا من الأراضي في أوروبا؛ وبذا تسنح لفرنسا الفرصة للمطالبة بتعويض عما ينشأ من الإخلال بالتوازن الدولي، أما مشروعه فكان يتلخص في أن تستولي فرنسا على المقاطعات البلجيكية لغاية نهري الموز والرين، ويمكن حمل بروسيا على الموافقة على هذا الترتيب بالسماح لها بضم ساكسونيا والمقاطعات الهولندية الشمالية. أما ملك هولندا فيمكن تعويضه عن تقسيم مملكته بتنصيبه ملكا على الآستانة وغيرها مما لم تزدرده روسيا والنمسا من الأراضي التركية في أوروبا، هذا بينما يمكن تعويض إنجلترا بإعطائها المستعمرات الهولندية التي تصبح وقتئذ غير خاضعة لأحد. وكانت النية منصرفة إلى تنفيذ هذه الفكرة بمعاهدة تعقد بين فرنسا وروسيا، حتى إذا ما تم توقيعها تدعى بروسيا للاشتراك فيها، وبعدئذ يصبح لا مناص للنمسا من الانضمام إلى هذا المشروع، وإذن تصبح إنجلترا مخيرة بين قبول جزيرتي جاوا ومولاكاس أو رفضهما. وبمجرد ما يتم توقيع المعاهدة تحشد الدول المتعاقدة جيوشها ومواجهة أوروبا بقوة لا يسع أي دولة من الدول الباقية أن تحلم بمقاومتها، وكان بوليناك يرى أن تحشد فرنسا 200000 جندي؛ ولذا كان يعتقد أن تنفيذ المشروع يحتم عدم إرسال حملة بحال من الأحوال لتأديب باي الجزائر المشاغب.
ففي ظروف كهذه استقر رأي وزير خارجية فرنسا على اتباع الفكرة التي طالما أوصى بها دورفيشي الذي شغل منصب قنصل عام لفرنسا في مصر والذي كان قد عاد في سنة 1829م في الإجازة. أما هذه الفكرة فهي معاقبة الباي لا بيد فرنسا، ولكن بيد محمد علي الذي كان ميالا إلى إعداد حملة كبيرة لفتح ولايات البربر الثلاث؛ وهي: طرابلس، وتونس، والجزائر. وضمها، وكان من رأي دورفيشي أن إرسال حملة فرنسية خليق بأن يثير حسد إنجلترا ومعارضتها، وبالعكس فإن امتداد سلطة الباشا على طوال الشاطئ الأفريقي لن يفتح باب الاحتجاج السياسي هذا عدا - وهو ما كان يجول في خاطر بوليناك - أن التفكير المزمع في تغيير الخريطة الأوروبية من شأنه أن يشغل بال الوزارة البريطانية، بحيث لا تفكر في مصير تونس والجزائر، بينما أن دول أوروبا الأخرى سوف ترحب بلا جدال بوجود حكم صالح في تلك المناطق. نعم؛ حكم قائم على النظام والأمن كالمشاهد في القاهرة والإسكندرية.
2
ويظهر أن هذا المشروع كان من بنات أفكار دورفيشي نفسه، فلقد لفت نظر محمد علي إلى مزايا الاتفاق مع فرنسا في الجزائر بدلا من إثارة هواجس أوروبا بأسرها بما عسى أن يقوم به من المغامرات في سوريا،
3
وقد توهم دورفيشي أن مزايا هذا الاقتراح لن تغيب عن أفكار الساسة الإنجليز كما أنها لم تغب عنه شخصيا.
صفحة غير معروفة