57
وهكذا سقط هذا الحصن الإسلامي الذي كان المسيحيون فيه إلى ذلك الحين عرضة لكافة أنواع الإهانات التي تذهب بلا حساب أو عقاب، وكان محكوما عليهم بالسير على الأقدام مع حظر مرورهم أمام بوابة معينة وجعلهم يشهدون جثث مواطنيهم تنهشها الكلاب وابن آوى، وحيث أرغم التجار الهنود على أداء مبالغ جسيمة من الأموال بتعريضهم للاختناق بدخان كبريت العمود.
58
وكان بديهيا أن يؤدي مثل هذا التغيير الممقوت إلى سيل من الإشاعات؛ مثال ذلك أن الشركة كانت قد أنزلت إلى البرسلكا بحريا لاستعمال طراداتها. ومن ثم انتشرت الإشاعة من أن حلقة من هذا السلك قد نقشت عليها اسم طلاسم سحرية، وأن السلك سوف يستعمل في سحب المدينة بأسرها إلى البحر أو لانتزاع الجبال تمهيدا لفتح طريق إلى صنعاء نفسها،
59
أما في الآستانة التي كانت قد وصلها صدى هذه الإشاعات فقد وجه نقد شديد إلى السفير البريطاني، بينما صدر الأمر بتوبيخ محمد علي وتقريعه على مثل ذلك الإهمال، وكلف باحتلال كافة مواني البحر الأحمر لغاية عدن باسم السلطان.
وقد تلا هزيمة الوهابيين وفتح السودان تنظيم قوات محمد علي العسكرية تنظيما باهرا يلفت الأنظار؛ فإن الجنود التي تسنم على أكتافها المجد لم تكن سوى جماعة من الغوغاء المسلحين لا يحفلون بالنظام ولا سبيل إلى كبح جماحهم إلا بدفع مرتباتهم بانتظام وباستعمال العقاب الصارم، وقد كانوا عقبة كأداء في سبيل احتفاظ الباشا بمركزه بقدر ما كانوا لازمين له للوصول إلى ذلك المركز. مثال ذلك أن ميسيت أرسل في تقرير له سنة 1816م يقول إن شطرا كبيرا من الجيش قد أرسل إلى السواحل، وإنه عندما استفسر من محمد علي عن السر في هذا الترتيب أخبره أنه «بعد أن أيقن بعجزه عن كبح جماح أعمال العنف التي ارتكبها الجنود في خلال الأشهر القليلة الماضية، رأى أن يلجأ إلى حيلة لطيفة بأن يكلفهم بالخروج من المدينة على أمل أن يسلس قيادهم، ويصبح في الاستطاعة إخضاعهم وجعلهم مطيعين للنظام بعد أن يصيروا شراذم صغيرة متفرقة.»
60
فلهذه الأسباب استقر رأي محمد علي على إنشاء نظام جديد، أي إنشاء جيش جديد يكون نظامه وتدريبه والإشراف عليه أوروبيا. وبديهي أن احتفاظه بمركزه يترتب نسبيا إلى نجاحه في ذلك المشروع الذي كان - ولا ريب - يعتبر من أشق المشروعات وأصعبها؛ فإن السلطان سليما قد خلع ثم قتل حديثا لاجترائه على أن يقحم آداب الكفار إلى الإسلام بمحاولته إدماج جنود الإنكشارية في فيلق جديد. ولم يكن الباشا ممن يتهيبون المضي في مشروعه لمجرد خطورته وصعوبته لأنه لم يكن يؤمن بأن الإصلاح العسكري يقابل بالنفور من سواد الشعب، بل من الزعماء وحدهم؛ لأنه لم يكن ينتظر منهم أن يصبروا على كشف أكاذيبهم التي ظلت مدة طويلة متسلطة على الخزانة العامة،
61
صفحة غير معروفة